يوسف عليه الصلاة والسلام
مِن حسد إخوته إلى ملك مصر (1)
الخـطبة الأولى:
الحمد لله السميع البصير، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾، يعلم ما يلج من الأرض وما ينزل من السماء وما يعرج فيها سبحانه وإليه المصير، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾، وأشهد أن لا له إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله من ولي ولا نصير،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.
أما بعد:
عباد الله، إن الله تعالى قد أنزل كتابه تبياناً وهدىً وموعظة للمتقين، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، كم حدّثنا الله في القرآن عن أخبار؟ كم علمنا سبحانه وتعالى في القرآن من أحكام؟ أنذرنا وبشّرنا، حذّرنا ورغّبنا، وقصّ علينا فيه القصص ﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ بل أمر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقص علينا ما قصه الله عليه ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، وليس المراد من القصص - عباد الله - مجرّد الإمتاع فقط، ولا التسلية بحديث مفترى مُختَلَق، فيه حبكة الرواية، وعقدة القصة، لا والله، بل كما قال الحق عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ في قصص القرآن عظة وعبر، ﴿ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ﴾ ليس قصصاً خيالية، ولا قصصاً مؤلفةً مُختَلَقة، ﴿ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ تصديق ما بين أيدي اليهود والنصارى من الأخبار، ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
وإن من أعظم قصص القرآن، ومن أحسنها وأجملها، أحسنها أسلوباً، وأروعها حواراً، وأعمقها عبراً وعظات؛ قـصـة يــوسـف عليه السـلام؛ هذه القصة العظيمة التي أفرد الله لها سورة كريمة، ما ذُكرت قصته إلا في سورته، سـورة يـوسـف، وقصة يـوسف ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ هي أحسن القصص؛ لأن الله أنبأنا فيها عن كل شيء، وفصّل لنا فيه أخبار كل شيء، هي أحسن القصص؛ لأنها تنقلك من حالٍ إلى حال، ومن حياة إلى حياة، من حياة البادية إلى حياة الحاضرة، من حياة الملوك والقصور إلى حياة سوقة الناس وعامتهم، من حياة الخدم إلى حياة المساجين، تخبرك هذه السورة عن تلك الطبقة المخملية، وأي شيء يكون في نساء علية القوم؟، ثم تخبرك بعد ذلك عن حياة البؤس والكد في عيش الكادحين، تغوص هذه السورة في أدق من هذا وأكبر؛ لتحدّثك عن نوازع النفس البشرية، أي شيء يكون في هذه النفس من حسد، ثم مؤامرات، ثم إلقاء يوسف عليه السلام في الجب؟ أي شيء يكون في هذه النفس من فاحشة وهوى، ثم مؤامرات ثم إلقاء يوسف عليه السلام في السجن؟ تحدّثك هذه السورة عن النفوس العالية السامية التي تستعلي على المعصية والفاحشة، التي لا تعرف إلا التسامح والعفو عن الجميع مهما صدر منهم وكان.
وأما يوسف عليه السلام فهو يوسف ابن يعقوب ابن اسحاق ابن إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، يوسف الذي اجتمع فيه طيب النسب، واجتمعت فيه طيب الصفات، يسأل رسولكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أي الناس أكرم يا رسول الله؟ قال: " أكرم الناس أتقاهم "، قالوا: ليس على ذلك نسألك، قال: " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله "، "يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم"، كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم، يوسف عليه السلام هو بطل قصتنا القرآنية هذه، صلى عليه الله وسلم، لا يكاد يخرج من محنة إلا ويقع في محنة أشد، هكذا من محنة إلى محنة، فما خرج إلا عبداً نبياً تقياً زكياً، أي محن هذه التي اختبر الله وابتلى يوسف عليه السلام! من محنة حسد إخوته له، إلى إلقائهم له في الجب، من محنة الهوى والشهوة من امرأة العزيز، إلى إلقائه في السجن والغربة والوحشة، من محنة التهمة بالباطل إلى البقاء في السجن بضع سنين، من محنة الاستشارة والوزارة، إلى المنصب والجاه والملك؛ فالأولى محنة حسد وعداوة، والثانية محنة شهوة وهوى، والثالثة محنة سجن وابتلاء، والرابعة محنة سرّاء، ويوسف عليه السلام يخرج من هذه المحن تقياً نقياً لا شائبة ولا فتنة، ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.
هي أحسن القصص - وربي - ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ قصةٌ - أخي الفاضل - تخبرك عن الأنبياء والصالحين، وعن الأبوة والأخوة، وعن الملوك والمماليك، وعن العبيد والخدم، وعن الملائكة والشياطين، وعن الرجال والنساء، وعن الطير والأنعام، قصةٌ - أخي الفاضل - تنقلك من حالٍ إلى حال؛ من بادية إلى حاضرة، من ذل إلى رفعة، من جدب إلى خصب، قصةٌ - أخي الكريم - فيها حاسد ومحسود، وعاشق ومعشوق، وشاهد ومشهود، وظالم ومظلوم، وسجن وسجّان، وداعية ومدعو، قصةٌ تتابعت أحداثها، وتشابكت عقدتها، وصُورت لك أشخاصها، فكأنك تراها وتنظر إليها وأنت تقرأها في كتاب الله عز وجل.
فأي قصةٍ هذه القصة؟ فيها ذكر علوم الاجتماع والاقتصاد، وعلوم السياسة والزراعة، وعلوم التربية والدعوة، وتحدّثك عن الإيمان والتوحيد، لا غرو أن تكون أحسن القصص، لا عجب أن يكون فيها العظة والعبرة لكل مؤمن ولكل سائل.
أيها المؤمنون عباد الله؛ لذلك كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يتدبرون هذه الآيات، ويخرجون ما فيها من عبر وعظات، كانوا يتلونها في الصلاة، ويكررونها ويرددونها على الناس في الفرائض؛ هذا الفراصة بن عمير رحمه الله يقول: "ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان كان يقرأها في صلاة الصبح؛ من كثرة ما كان يرددها "، هذا عبد الله بن عامر رحمه الله يقول: "صلينا وراء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فقرأ بنا في صلاة الصبح بسورة يوسف، وسورة الحج قراءة بطيئة، قلنا: لقد كاد الصبح أن يطلع، قلت: أجل"، رواهما الإمام مالك.
هي أحسن القصص؛ لأن عاقبة كل من ذُكر فيها كانت إلى خير، هي أحسن القصص؛ لما فيها من حسن المحاورة، وروائع العبر، وبديع الحكم، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخـطبة الثانيـة "يوسف والرؤيـا":
وتبدأ القصة - معاشر الكـرام ـ: تبدأ برؤيا منامية رآها يوسف في منامه، فماذا رأى؟ وما تأويل هذه الرؤيا؟، وتبدأ القصة - معاشر الكـرام - وإذا أراد الله أمراً من الأصول العظام قدّم بين يديه مقدمة؛ لتكون توطئة له، واستعداداً لما يرد من المصاعب والمشاق.
ويرى يوسف عليه السلام الرؤيا، ويخبر بها أباه ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ ﴾ وأبوه يعقوب، يعقوب الملقب بإسرائيل، يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، استقر بأرض الشام حول بيت المقدس، ورزقه الله تعالى باثني عشر ولداً ذكراً، وهذه من نعم الله على عباده، أصغرهم يوسف عليه السلام، كان صغيراً، كان في سن صغيرة؛ حتى أن أباه كان يخشى عليه أن يأكله الذئب، ورأى الرؤيا، وقصها على أبيه؛ لأنه لا يُسال ويُستفتى إلا العالم، لأنه لا يُستشار إلا الناصح ﴿ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾، ورؤيا الأنبياء حق، والرؤيا الصادقة من المبشرات، وليست كل رؤيا صادقة تدل على صدق رائيها - معاشر المؤمنين ـ، تلك رؤيا الملك الكافر رأى رؤيا صادقة وليس هو بشيء، بل مثلها إذا وقعت على ندرة كمثل خبر الكاهن قد يصدق في شيء من خبر السماء، وهو ليس بشيء، لكنها إن تكررت وصدقت دلت على صدق الرائي، يقول عليه الصلاة والسلام: " أصدقكم حديثاً أصدقكم رؤيا".
وأدب الرؤيا الصادقة - أيها المؤمنون - ثلاثة أشياء كما ذكر هذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فإذا رأى أحدكم رؤيا طيبة؛ فليحمد الله عليها، وليستبشر بها، ولا يحدث بها إلا من يحب، وأما الرؤيا المكروهة فأدبها ستة أشياء: فإذا رأى أحدكم ما يكره في منامه؛ فليتعوّذ بالله من شرها، وليتعوذ من الشيطان الرجيم، وليتفل عن يساره ثلاثاً، ولا يخبر بها أحداً أصلاً، وليتحول عن جنبه، وليقم وليصلِ.
والرؤيا على رجل طائر، فمتى ما عُبرت وقعت؛ لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "لا تخبر بها إلا لبيباً أو حبيباً"، وأغلب تأويل الرؤى - أيها الكرام - يكون على المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة، مع أن تعبير الرؤى أمر عظيم؛ لأنه من القول على الله والقول على الملك، ألستم تقرؤون في سورة يوسف في شأن الرؤيا: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا ﴾ فهي فتوى، فاتق الله أن تعبّر ما لا تعلم، أغلب تأويل الرؤى يكون على المشابهة في الاسم والصفة؛ فالكواكب كالنجوم هداية في السماء، والأنبياء هداية للناس، وأحد عشر كوكباً كأحد عشر نبياً، أعظمها الشمس والقمر، والشمس مؤنث فهي الأم، والقمر مذكر فهو الأب، والسجود يدل على التقدير والاحترام ورفع المنزلة، وهنا يتنبه الأب لهذه المكانة العظيمة التي سيصل إليها يوسف، تنبه يعقوب عليه السلام أن يوسف سيكون الحـلقة الرابعة في سلسلة الاصطفاء النبوية؛ إبراهيم، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف عليهم الصلاة والسلام، تنبه يعقوب لما يكون في العادة بين الأخوة من تنافس، وخصوصاً إذا تميز عليهم الابن الصغير الذي هو من أم أخرى كما جاء في بعض الأخبار.
أيها الآباء الكرام، أحياناً يقع في نفس الأب أو في نفس الأم شيءٌ من الشر يتوقعه قبل أن يقع على أبنائه؛ فيكون الأمر كما يشاء الله؛ لذلك وجهه بهذا التوجيه: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ وأمره أن يكتم هذه النعمة، فنحن مأمورون بكتمان النعمة إذا خشينا حسداً أو ضراً، ألم يقل لنا رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود"، والحسد - أيها المؤمنون - غالباً ما يحدث بين الناس الذي بينهم قاسم مشترك؛ كأن يجتمعوا في علم، أو يجتمعوا في مهنة، أو يجتمعوا في قرابة، فتجد أن الحسد يكثر كثيراً بين الأقران والإخوان والأقارب؛ لذلك تنبه يعقوب عليه السلام، فأمر ابنه بأخذ الأسباب، أسباب دفع العين والحسد عنه، وهذا شأنه عليه الصلاة والسلام، قال لأبنائه الأحد عشر لما أرادوا أن يدخلوا مصر: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾، فالمسلم - يا عباد الله - مأمور بأن يتخذ الأسباب، ويدفع عن نفسه الشر، حتى لا يقع عليه ﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ أي: فيحسدوك ويبغونك الشر، ويحتالون عليك حتى يوقعوا عليك الضر، والكيد: هو التدبير في خفاء لإيصال الضر إلى الإنسان من حيث لا يشعر، وهنا كأن يوسف عليه السلام يتعجب ولماذا يفعل إخوتي بي هذا؟! ولماذا يحسدونني؟! فيأتي جواب أبيه الحكيم: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾، يوسف هذا أولاً: يجب علينا أن نتخذ الأسباب لدفع الشر والحسد بينك وبين إخوتك، وثانياً: يا يوسف، إليك تأويل الرؤيا ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ أي: تأويل الرؤيا أن يجتبيك ربك ويصطفيك، ﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾: يعلمك من أحاديث الكتب السماوية ويعلمك من تعبير الرؤى؛ لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان، ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ﴾: يتم عليك النعمة في الدنيا والآخرة، يتم عليك نعمة النبوة والملك، ﴿ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾: عليم بمن يستحق الاصطفاء، حكيم سبحانه حيث يجعل نبوته ورسالته، ألم يقل سبحانه: ﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾، وفي هذا - أيها المؤمنون - جواز أن يُذكر الإنسان بسوء على وجه النصيحة، وجواز أن يُمدح الرجل في وجهه إذا أُمنت الفتنة.
ثم تمضي القصة، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين الرؤيا وبين تأويلها أربعون سنة؛ كما هو قول أكثر المفسرين"؛ أربعون سنة - يا عباد الله - مُلئت بالأحداث والوقائع والأحوال المختلفة، انتقل فيها يوسف من حال إلى حال، والتقى بأشخاص من أنواع وطبقات شتى، وصارت له من العجائب والغرائب ما قص الله تعالى في كتابه، فأي شيءٍ هذا الذي حدث في هذه الأربعين؟ وهل حسد إخوة يوسف أخاهم؟ ولماذا أُلقي يوسف في الجب؟ وهل أكله الذئب؟ هذا ما سيكون حديثنا إن شاء الله في خطبتنا القادمة.
رابط الموضوع: يوسف عليه الصلاة والسلام من حسد إخوته إلى ملك مصر (1)
مِن حسد إخوته إلى ملك مصر (1)
الخـطبة الأولى:
الحمد لله السميع البصير، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾، يعلم ما يلج من الأرض وما ينزل من السماء وما يعرج فيها سبحانه وإليه المصير، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾، وأشهد أن لا له إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله من ولي ولا نصير،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.
أما بعد:
عباد الله، إن الله تعالى قد أنزل كتابه تبياناً وهدىً وموعظة للمتقين، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، كم حدّثنا الله في القرآن عن أخبار؟ كم علمنا سبحانه وتعالى في القرآن من أحكام؟ أنذرنا وبشّرنا، حذّرنا ورغّبنا، وقصّ علينا فيه القصص ﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ بل أمر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقص علينا ما قصه الله عليه ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، وليس المراد من القصص - عباد الله - مجرّد الإمتاع فقط، ولا التسلية بحديث مفترى مُختَلَق، فيه حبكة الرواية، وعقدة القصة، لا والله، بل كما قال الحق عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ في قصص القرآن عظة وعبر، ﴿ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ﴾ ليس قصصاً خيالية، ولا قصصاً مؤلفةً مُختَلَقة، ﴿ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ تصديق ما بين أيدي اليهود والنصارى من الأخبار، ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
وإن من أعظم قصص القرآن، ومن أحسنها وأجملها، أحسنها أسلوباً، وأروعها حواراً، وأعمقها عبراً وعظات؛ قـصـة يــوسـف عليه السـلام؛ هذه القصة العظيمة التي أفرد الله لها سورة كريمة، ما ذُكرت قصته إلا في سورته، سـورة يـوسـف، وقصة يـوسف ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ هي أحسن القصص؛ لأن الله أنبأنا فيها عن كل شيء، وفصّل لنا فيه أخبار كل شيء، هي أحسن القصص؛ لأنها تنقلك من حالٍ إلى حال، ومن حياة إلى حياة، من حياة البادية إلى حياة الحاضرة، من حياة الملوك والقصور إلى حياة سوقة الناس وعامتهم، من حياة الخدم إلى حياة المساجين، تخبرك هذه السورة عن تلك الطبقة المخملية، وأي شيء يكون في نساء علية القوم؟، ثم تخبرك بعد ذلك عن حياة البؤس والكد في عيش الكادحين، تغوص هذه السورة في أدق من هذا وأكبر؛ لتحدّثك عن نوازع النفس البشرية، أي شيء يكون في هذه النفس من حسد، ثم مؤامرات، ثم إلقاء يوسف عليه السلام في الجب؟ أي شيء يكون في هذه النفس من فاحشة وهوى، ثم مؤامرات ثم إلقاء يوسف عليه السلام في السجن؟ تحدّثك هذه السورة عن النفوس العالية السامية التي تستعلي على المعصية والفاحشة، التي لا تعرف إلا التسامح والعفو عن الجميع مهما صدر منهم وكان.
وأما يوسف عليه السلام فهو يوسف ابن يعقوب ابن اسحاق ابن إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، يوسف الذي اجتمع فيه طيب النسب، واجتمعت فيه طيب الصفات، يسأل رسولكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أي الناس أكرم يا رسول الله؟ قال: " أكرم الناس أتقاهم "، قالوا: ليس على ذلك نسألك، قال: " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله "، "يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم"، كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم، يوسف عليه السلام هو بطل قصتنا القرآنية هذه، صلى عليه الله وسلم، لا يكاد يخرج من محنة إلا ويقع في محنة أشد، هكذا من محنة إلى محنة، فما خرج إلا عبداً نبياً تقياً زكياً، أي محن هذه التي اختبر الله وابتلى يوسف عليه السلام! من محنة حسد إخوته له، إلى إلقائهم له في الجب، من محنة الهوى والشهوة من امرأة العزيز، إلى إلقائه في السجن والغربة والوحشة، من محنة التهمة بالباطل إلى البقاء في السجن بضع سنين، من محنة الاستشارة والوزارة، إلى المنصب والجاه والملك؛ فالأولى محنة حسد وعداوة، والثانية محنة شهوة وهوى، والثالثة محنة سجن وابتلاء، والرابعة محنة سرّاء، ويوسف عليه السلام يخرج من هذه المحن تقياً نقياً لا شائبة ولا فتنة، ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.
هي أحسن القصص - وربي - ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ قصةٌ - أخي الفاضل - تخبرك عن الأنبياء والصالحين، وعن الأبوة والأخوة، وعن الملوك والمماليك، وعن العبيد والخدم، وعن الملائكة والشياطين، وعن الرجال والنساء، وعن الطير والأنعام، قصةٌ - أخي الفاضل - تنقلك من حالٍ إلى حال؛ من بادية إلى حاضرة، من ذل إلى رفعة، من جدب إلى خصب، قصةٌ - أخي الكريم - فيها حاسد ومحسود، وعاشق ومعشوق، وشاهد ومشهود، وظالم ومظلوم، وسجن وسجّان، وداعية ومدعو، قصةٌ تتابعت أحداثها، وتشابكت عقدتها، وصُورت لك أشخاصها، فكأنك تراها وتنظر إليها وأنت تقرأها في كتاب الله عز وجل.
فأي قصةٍ هذه القصة؟ فيها ذكر علوم الاجتماع والاقتصاد، وعلوم السياسة والزراعة، وعلوم التربية والدعوة، وتحدّثك عن الإيمان والتوحيد، لا غرو أن تكون أحسن القصص، لا عجب أن يكون فيها العظة والعبرة لكل مؤمن ولكل سائل.
أيها المؤمنون عباد الله؛ لذلك كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يتدبرون هذه الآيات، ويخرجون ما فيها من عبر وعظات، كانوا يتلونها في الصلاة، ويكررونها ويرددونها على الناس في الفرائض؛ هذا الفراصة بن عمير رحمه الله يقول: "ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان كان يقرأها في صلاة الصبح؛ من كثرة ما كان يرددها "، هذا عبد الله بن عامر رحمه الله يقول: "صلينا وراء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فقرأ بنا في صلاة الصبح بسورة يوسف، وسورة الحج قراءة بطيئة، قلنا: لقد كاد الصبح أن يطلع، قلت: أجل"، رواهما الإمام مالك.
هي أحسن القصص؛ لأن عاقبة كل من ذُكر فيها كانت إلى خير، هي أحسن القصص؛ لما فيها من حسن المحاورة، وروائع العبر، وبديع الحكم، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخـطبة الثانيـة "يوسف والرؤيـا":
وتبدأ القصة - معاشر الكـرام ـ: تبدأ برؤيا منامية رآها يوسف في منامه، فماذا رأى؟ وما تأويل هذه الرؤيا؟، وتبدأ القصة - معاشر الكـرام - وإذا أراد الله أمراً من الأصول العظام قدّم بين يديه مقدمة؛ لتكون توطئة له، واستعداداً لما يرد من المصاعب والمشاق.
ويرى يوسف عليه السلام الرؤيا، ويخبر بها أباه ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ ﴾ وأبوه يعقوب، يعقوب الملقب بإسرائيل، يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، استقر بأرض الشام حول بيت المقدس، ورزقه الله تعالى باثني عشر ولداً ذكراً، وهذه من نعم الله على عباده، أصغرهم يوسف عليه السلام، كان صغيراً، كان في سن صغيرة؛ حتى أن أباه كان يخشى عليه أن يأكله الذئب، ورأى الرؤيا، وقصها على أبيه؛ لأنه لا يُسال ويُستفتى إلا العالم، لأنه لا يُستشار إلا الناصح ﴿ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾، ورؤيا الأنبياء حق، والرؤيا الصادقة من المبشرات، وليست كل رؤيا صادقة تدل على صدق رائيها - معاشر المؤمنين ـ، تلك رؤيا الملك الكافر رأى رؤيا صادقة وليس هو بشيء، بل مثلها إذا وقعت على ندرة كمثل خبر الكاهن قد يصدق في شيء من خبر السماء، وهو ليس بشيء، لكنها إن تكررت وصدقت دلت على صدق الرائي، يقول عليه الصلاة والسلام: " أصدقكم حديثاً أصدقكم رؤيا".
وأدب الرؤيا الصادقة - أيها المؤمنون - ثلاثة أشياء كما ذكر هذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فإذا رأى أحدكم رؤيا طيبة؛ فليحمد الله عليها، وليستبشر بها، ولا يحدث بها إلا من يحب، وأما الرؤيا المكروهة فأدبها ستة أشياء: فإذا رأى أحدكم ما يكره في منامه؛ فليتعوّذ بالله من شرها، وليتعوذ من الشيطان الرجيم، وليتفل عن يساره ثلاثاً، ولا يخبر بها أحداً أصلاً، وليتحول عن جنبه، وليقم وليصلِ.
والرؤيا على رجل طائر، فمتى ما عُبرت وقعت؛ لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "لا تخبر بها إلا لبيباً أو حبيباً"، وأغلب تأويل الرؤى - أيها الكرام - يكون على المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة، مع أن تعبير الرؤى أمر عظيم؛ لأنه من القول على الله والقول على الملك، ألستم تقرؤون في سورة يوسف في شأن الرؤيا: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا ﴾ فهي فتوى، فاتق الله أن تعبّر ما لا تعلم، أغلب تأويل الرؤى يكون على المشابهة في الاسم والصفة؛ فالكواكب كالنجوم هداية في السماء، والأنبياء هداية للناس، وأحد عشر كوكباً كأحد عشر نبياً، أعظمها الشمس والقمر، والشمس مؤنث فهي الأم، والقمر مذكر فهو الأب، والسجود يدل على التقدير والاحترام ورفع المنزلة، وهنا يتنبه الأب لهذه المكانة العظيمة التي سيصل إليها يوسف، تنبه يعقوب عليه السلام أن يوسف سيكون الحـلقة الرابعة في سلسلة الاصطفاء النبوية؛ إبراهيم، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف عليهم الصلاة والسلام، تنبه يعقوب لما يكون في العادة بين الأخوة من تنافس، وخصوصاً إذا تميز عليهم الابن الصغير الذي هو من أم أخرى كما جاء في بعض الأخبار.
أيها الآباء الكرام، أحياناً يقع في نفس الأب أو في نفس الأم شيءٌ من الشر يتوقعه قبل أن يقع على أبنائه؛ فيكون الأمر كما يشاء الله؛ لذلك وجهه بهذا التوجيه: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ وأمره أن يكتم هذه النعمة، فنحن مأمورون بكتمان النعمة إذا خشينا حسداً أو ضراً، ألم يقل لنا رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود"، والحسد - أيها المؤمنون - غالباً ما يحدث بين الناس الذي بينهم قاسم مشترك؛ كأن يجتمعوا في علم، أو يجتمعوا في مهنة، أو يجتمعوا في قرابة، فتجد أن الحسد يكثر كثيراً بين الأقران والإخوان والأقارب؛ لذلك تنبه يعقوب عليه السلام، فأمر ابنه بأخذ الأسباب، أسباب دفع العين والحسد عنه، وهذا شأنه عليه الصلاة والسلام، قال لأبنائه الأحد عشر لما أرادوا أن يدخلوا مصر: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾، فالمسلم - يا عباد الله - مأمور بأن يتخذ الأسباب، ويدفع عن نفسه الشر، حتى لا يقع عليه ﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ أي: فيحسدوك ويبغونك الشر، ويحتالون عليك حتى يوقعوا عليك الضر، والكيد: هو التدبير في خفاء لإيصال الضر إلى الإنسان من حيث لا يشعر، وهنا كأن يوسف عليه السلام يتعجب ولماذا يفعل إخوتي بي هذا؟! ولماذا يحسدونني؟! فيأتي جواب أبيه الحكيم: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾، يوسف هذا أولاً: يجب علينا أن نتخذ الأسباب لدفع الشر والحسد بينك وبين إخوتك، وثانياً: يا يوسف، إليك تأويل الرؤيا ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ أي: تأويل الرؤيا أن يجتبيك ربك ويصطفيك، ﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾: يعلمك من أحاديث الكتب السماوية ويعلمك من تعبير الرؤى؛ لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان، ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ﴾: يتم عليك النعمة في الدنيا والآخرة، يتم عليك نعمة النبوة والملك، ﴿ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾: عليم بمن يستحق الاصطفاء، حكيم سبحانه حيث يجعل نبوته ورسالته، ألم يقل سبحانه: ﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾، وفي هذا - أيها المؤمنون - جواز أن يُذكر الإنسان بسوء على وجه النصيحة، وجواز أن يُمدح الرجل في وجهه إذا أُمنت الفتنة.
ثم تمضي القصة، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين الرؤيا وبين تأويلها أربعون سنة؛ كما هو قول أكثر المفسرين"؛ أربعون سنة - يا عباد الله - مُلئت بالأحداث والوقائع والأحوال المختلفة، انتقل فيها يوسف من حال إلى حال، والتقى بأشخاص من أنواع وطبقات شتى، وصارت له من العجائب والغرائب ما قص الله تعالى في كتابه، فأي شيءٍ هذا الذي حدث في هذه الأربعين؟ وهل حسد إخوة يوسف أخاهم؟ ولماذا أُلقي يوسف في الجب؟ وهل أكله الذئب؟ هذا ما سيكون حديثنا إن شاء الله في خطبتنا القادمة.
رابط الموضوع: يوسف عليه الصلاة والسلام من حسد إخوته إلى ملك مصر (1)