يوسف عليه الصلاة والسلام من حسد إخوته إلى ملك مصر (3)
الخطبة الأولى
يوسف إلى مصر[1]
أيها المؤمنون، كنا في الخطبة الماضية مع قصة يوسف لما ألقاه إخوته في البئر المهجورة، وجاؤوا أباهم عشاء يبكون، ويمشي القاتل في جنازة المقتول، أتوا عشاءً ليكون إتيانهم متأخرًا وبكاؤهم دليلاً على صدقهم، لكنهم في الحقيقة لم يبكوا وإنما تباكوا، والعذر: قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق، نتسابق بالعدو على الخيل أو على الأقدام، نتسابق بالرمي بالسهام، وتركنا يوسف عند متاعنا: ليحرس لنا ثيابنا، تركناه في مكان أمين حيث نحفظ ثيابنا ومتاعنا، فأكله الذئب، أي ذئب! الذئب الذي كان قد حذرهم أبوهم منه، وقالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون، ثم سبحان الله أكله الذئب، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين، حتى لو كنا عندك من أهل الصدق ما صدقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف وما علق في قلبك من تهمتك لنا، ولكن عدم تصديقك لنا لا يمنعنا أن نعتذر إليك بالعذر الحقيقي، أنت معذور يا أبانا في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق، يا الله اسمعوا لهذا الكلام، وانظروا لقبيح الفعل والإجرام، يا الله كاد المريب أن يقول: خذوني، وسبحان الله يا نبي الله يا يعقوب: ما يغني حذر من قدر.
أيها المؤمنون: تأملوا شؤم الذنوب، فالذنب الواحد يستتبع ذنوبًا متعددة، كم مرة كذب أخوة يوسف على أبيهم، وكرروا الكذب بعد الكذب، أعوامًا وهم يكذبون على أبيهم، واصروا على إخفاء الحقيقة ولم يتوبوا ويبينوا، واهتدى أبوهم لكذبهم:
وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا: زينت لكم أنفسكم أن تفرقوا بيني وبين ابني يوسف، ما الذي فعله لكم أبوكم؟ ما الذي جناه عليكم أخوكم؟ ويرى يعقوب عليه السلام قميص يوسف، ويستدل بقرائن الحال، قال يعقوب: سبحان الله! إن كان هذا الذئب لرحيمًا ! كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟ هل خلع قميص يوسف أولاً، ثم أكله ثانيًا، ثم مسح القميص بدمه ثالثًا؟ كذب مفضوح، ولا بد أن يترك الكذاب- أيها الأخوة- أثرًا يدل على جريمته، لكن ماذا سيقول هذا النبي؟ ولمن يتوجه؟ قال عليه السلام: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون، إلى من أشكو؟ والذي خذلني هم أبنائي، إلى شامت يشمت فيّ؟ كان يعقوب عليه السلام من قبل لا يستطيع أن يفارق ولده زمناً يسيراً، ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ﴾، لكن سترون صبر الأنبياء؛ الصبر الجميل، الصبر الجميل هو الصبر الذي لا جزع فيه، صبر لا شكوى فيه لأحد، إلا للواحد الأحد، والله أستعين على كفايتي شر ما تصفون من الكذب.
يعقوب- أيها الكرام- قال في الولد الأول: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون، وقال في الولد الثاني: فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا ، والصبر سبيل الفرج، فمن كان يظن أن يوسف يُلقى في البئر طفلاً، ثم يدخل السجن في قضية تتعلق بوزير الملك، ثم يصير بعد ذلك كله ملك مصر !!.
يقول أحد أهل العلم وهو يتعجب من قميص يوسف الذي كان ثلاث آيات: حين ادعوا أن الذئب أكله فضحتهم سلامة القيمص، وحين ادعت امرأة العزيز أن يوسف اعتدى عليها، كان دليل البراءة سلامة القميص، وحين ألقي قميص يوسف على وجه أبيه ارتد بصيراً، فسبحان الذي يدافع عن أوليائه بما شاء.
ثم تولى يبكي عله السلام حتى ابيضت عيناه، وفي بعض الآثار: أن الملائكة بكت لبكاء يعقوب عليه السلام، كان أبو بكر رضي الله عنه يقرأ سورة يوسف في صلاة الفجر فإذا بلغ قوله تعالى: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ بكى وبكى الناس معه، وافترق يوسف ويعقوب عليهما السلام أربعين سنة، افترقوا ليلتقوا في آخر القصة بعد أحداث مؤلمة، وهنا أسدل الستار على يعقوب عليه السلام.
وجاءت سيارة: رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر، واخطئوا الطريق لأن رب يوسف يهيىء ليوسف أمرًا، ضلوا الطريق فعبروا بالقرب من هذه البئر المهجورة، فأرسلوا واردهم: مقدمهم الذي يستسقي لهم الماء، فأدلى دلوه: فتعلق يوسف بالدلو وخرج إليهم، فلما رآه، قال: يا بشرى هذا غلام، استبشر برؤية يوسف، ففيه جواز البشارة بالأمر السار، وأسروه بضاعة: أخفوه عن بقية القافلة لئلا يشاركوهم في ثمن بيعه، وقالوا لهم: إنما دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، والله عليم بما يعملون: عليم سبحانه بالذي باعوا يوسف، وعليم سبحانه بالذين كانوا سببًا في أن يكون عبدًا يباع ويشترى، وهو الكريم ابن الكريم، والله عليم بما يعملون، لكنها حكمة الله؛ لتكتمل القصة، وتحصل الحكمة الإلهية.
والعظة معلومة، يا محمد وأنت تسمع هذه القصة اصبر على ما نالك من أذى في ذات الله؛ فإن الله قادر على تغيير ذلك لكن له حكمة، ولأمره أجل.
ويؤخذ يوسف إلى مصر حيث بقية أحداث القصة، وشروه: أي باعوه، بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين؛ إذ لم يعلموا بنبوته ومنزلته عند الله، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾، والله غالب على أمره: أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته؛ فغلب أمر الله حتى حسدوه، ثم أراد إخوته قتله؛ فغلب أمر الله حتى صار ملكًا وسجدوا بين يديه، أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم؛ فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم ولم ينس يوسف، ثم دبروا أن يكونوا من بعده قومًا صالحين؛ أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه زمنًا طويلاً، ثم تابوا بين يدي يوسف وقالوا: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾، ثم دبروا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص؛ فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن بدأت بالكلام غلبته في الحجة وألصقت به التهمة؛ فغلب أمر الله حتى قال لها العزيز: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾، وهكذا تستمر سورة يوسف بمشاهدها الأخاذة، وبحديثها الشائق، وبروعتها في الأداء وفي الأخذ بأطناب القلوب.
فكيف عاش يوسف بمصر ولا أب ولا أهل؟ وإلى يد من صار؟ وما قصته في قصر العزيز؟ هذا ما سيكون حديث بعد قليل إن شاء الله.
الخطبة الثانية
يوسف في قصر العزيز
الحمد لله ولي المتقين، أحب المحسنين، وقرب المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، إمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا: هذه مقدمات التمكين، يقول عزيز مصر لامرأته: أكرمي مثواه، عسى أن يكفينا بعض المهمات أو نتبناه ولدًا، تفرس فيه أنه ينوب عنه في أمر المملكة، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أكثر الناس لا يعلمون؛ لذا هم يحاولون أن يغالبوا أحكام الله القدرية وهم أعجز من ذلك.
ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين: ولما كملت قوته الحسية والمعنوية وصلح لتحمل أعباء النبوة، آتيناه حكمًا وعلمًا؛ جعلناه نبياً وهاديًا ومعلمًا، الله آتاه حكمًا وعلمًا؛ لأنه لا بد من الإعداد والتربية قبل مواجهة الفتن، كذلك نجزي من أحسن في طاعة ربه، وأحسن في ترك معصيته.
ويوسف عليه السلام أيها الكرام: ما لبث أن خرج من فتنة البئر، ومن فتنة حسد إخوته له، ودخل قصر العزيز ينعم فيه بنعيم الدنيا من مطعم ومشرب وملبس، حتى جاءته فتنة شديدة لا يصبر عليها إلا الصابرون، ولا يتقيها إلا المخلصون المحسنون؛ إنها فتنة النساء.
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك: أحبته وعشقته وراودته بابًا بعد باب؛ تطلب منه ما تطلب المرأة من الرجل برفق ولين، قالت له: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ تزينت لك وقربت منك، تعال إلى الحرام، والعياذ بالله من شر الفتن، وهذه المحنة- أيها الكرام- أعظم من محنته مع إخوته حين ألقوه في الجب؛ لأن تلك المحنة كانت محنة اضطرار؛ كسائر المحن بالأمراض والمكاره، فليس للعبد إلا الصبر عليها طائعًا أو مكرهًا، أما هذه فكانت محنة اختيار، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل، فيوسف شاب وشهوة الشباب أعظم وأكبر، وهو أعزب لا زوج له، والمرأة سيدة القصر ذات الجمال والسلطان، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وقد تجملت له ودعته بسائر أنواع الإغراء، والمسكن واحد وقد يقع السوء ولا يشعر به أحد من الناس، وزوجها قليل الغيرة، وهو بعد ذلك كله غريب عن بلده، والغريب لا يتحرج كما يتحرج من هو بين معارفه وأهله، وصار المحــل خاليًا، وقد آمنا من دخول أحد بعد أن غلقت الأبواب، ودعته لنفسها بسائر وسائل الإغراء، قالت له: هيت لك، فماذا قال لها؟ ماذا قال: لقد قال قولةً صارت أسوةً من بعده لكل الأتقياء الشرفاء، قال: معــاذ الله، يا يوسف كيف صبرت هذا الصبر العظيم على ترك معصية الله! يا يوسف دفعت خاطر السوء من النفس الأمارة بالسوء، فعشت عفيفًا، ومت شريفًا، وكنت عند الله رفيعًا، وقد كان المانع - يا شباب- الذي منع يوسف من الوقوع في الفاحشة مع توفر أسبابها أربعة أشياء: أولها: معاذ الله: تقوى الله رب العالمين، ومراقبة آله الأولين والآخرين، وثانيها: إنه ربي أحسن مثواي، تعظيم جرم خيانة السيد الذي أكرم مثواه، وثالثها: إنه لا يفلح الظالمون، صيانة لنفسه من الظلم – يا شباب الأمة- الذي لا يفلح من تعاطاه، ورابعها: ما رآه من برهان ربه من العلم والإيمان، فكيف بعد ذلك أدنس عرضي، وأسخط ربي، وأخون سيدي، وأكن من الظالمين، والجامع لذلك كله وباختصار أن الله صرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده الذين أخلصوا عملهم لله، ومن عباده الذين أخلصهم الله تعالى واختصهم لنفسه.
ومن هنا يتقرر لنا معاشر الكرام: ووجوب البعد عن محال الفتن والفرار منها، وخطر الخلوة بالنساء اللاتي يخشى منهن الفتنة، والحذر من زيادة تعلق القلب الذي قد يقود إلى الفاحشة، وأن العبد - معاشر الكرام- إذا خطرت له خواطر السوء فليقابلها بمحبة الله تعالى، إذا خطرت له خواطر الفحشاء فليحرقها بخشية الله تعالى، إذا خطرت له خواطر الرذيلة فليغلب إيمانه؛ ليغلب هواه، فيكون ممن (خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى)، ويكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه، والعبد إذا هم بالسيئة فلم يعملها- أخوة الإيمان- كتبت له حسنة، ويقول الله لملائكته: إنما تركها من جرائي.
ويتبين لنا أيضًا أن عشق الصور إنما يبتلى به القلب الذي خلا من محبة الله تعالى وخشيته، لذا قال بعض السلف: العشق حركة قلب فارغ، أي فارغ من محبة غير المعشوق، ويتبين لنا أيضًا أهمية التربية؛ تربية الشباب على مراقبة الله، وخاصة أننا أصبحنا في زمن تُعرض الفتن على شبابنا وفتياتنا على صور عظيمة من الإغراء، في محال لا ينظر إليهم فيها إلا الله، وعبر وسائل لا تخفي عليكم، فوا أسفي على منهج يوسف، في هذا الواقع المؤسف، صورة عارية، وكأس وجارية، وشهوات سارية، كلها تقول: هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة معاذ الله ! فاتقوا الله يا مجد هذه الأمة، واتقوا الحرام !!.
واستبقا الباب.. وهرب يوسف عليه السلام من الوقوع في الفاحشة، وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب.. فماذا قالت له؟ وبأي شيء حكموا عليه؟ وما خبر النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ ولماذا اختار يوسف أن يسجن؟ أتدرون أن يوسف عليه السلام لما سجن لم يترك الدعوة إلى الله، لم يترك الدعوة إلى الله وهو في داخل السجن، بل دعا السجناء إلى توحيد الله وحذرهم من خطر الإشراك به، دعونا نقف عند هذا الحد؛ لنواصل في خطبة لاحقة إن شاء الله الوقوف على آيات هذه الأحداث.
[1] بتاريخ 18 ربيع أول 1428هـ.
رابط الموضوع: يوسف عليه الصلاة والسلام من حسد إخوته إلى ملك مصر (3)
الخطبة الأولى
يوسف إلى مصر[1]
أيها المؤمنون، كنا في الخطبة الماضية مع قصة يوسف لما ألقاه إخوته في البئر المهجورة، وجاؤوا أباهم عشاء يبكون، ويمشي القاتل في جنازة المقتول، أتوا عشاءً ليكون إتيانهم متأخرًا وبكاؤهم دليلاً على صدقهم، لكنهم في الحقيقة لم يبكوا وإنما تباكوا، والعذر: قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق، نتسابق بالعدو على الخيل أو على الأقدام، نتسابق بالرمي بالسهام، وتركنا يوسف عند متاعنا: ليحرس لنا ثيابنا، تركناه في مكان أمين حيث نحفظ ثيابنا ومتاعنا، فأكله الذئب، أي ذئب! الذئب الذي كان قد حذرهم أبوهم منه، وقالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون، ثم سبحان الله أكله الذئب، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين، حتى لو كنا عندك من أهل الصدق ما صدقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف وما علق في قلبك من تهمتك لنا، ولكن عدم تصديقك لنا لا يمنعنا أن نعتذر إليك بالعذر الحقيقي، أنت معذور يا أبانا في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق، يا الله اسمعوا لهذا الكلام، وانظروا لقبيح الفعل والإجرام، يا الله كاد المريب أن يقول: خذوني، وسبحان الله يا نبي الله يا يعقوب: ما يغني حذر من قدر.
أيها المؤمنون: تأملوا شؤم الذنوب، فالذنب الواحد يستتبع ذنوبًا متعددة، كم مرة كذب أخوة يوسف على أبيهم، وكرروا الكذب بعد الكذب، أعوامًا وهم يكذبون على أبيهم، واصروا على إخفاء الحقيقة ولم يتوبوا ويبينوا، واهتدى أبوهم لكذبهم:
وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا: زينت لكم أنفسكم أن تفرقوا بيني وبين ابني يوسف، ما الذي فعله لكم أبوكم؟ ما الذي جناه عليكم أخوكم؟ ويرى يعقوب عليه السلام قميص يوسف، ويستدل بقرائن الحال، قال يعقوب: سبحان الله! إن كان هذا الذئب لرحيمًا ! كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟ هل خلع قميص يوسف أولاً، ثم أكله ثانيًا، ثم مسح القميص بدمه ثالثًا؟ كذب مفضوح، ولا بد أن يترك الكذاب- أيها الأخوة- أثرًا يدل على جريمته، لكن ماذا سيقول هذا النبي؟ ولمن يتوجه؟ قال عليه السلام: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون، إلى من أشكو؟ والذي خذلني هم أبنائي، إلى شامت يشمت فيّ؟ كان يعقوب عليه السلام من قبل لا يستطيع أن يفارق ولده زمناً يسيراً، ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ﴾، لكن سترون صبر الأنبياء؛ الصبر الجميل، الصبر الجميل هو الصبر الذي لا جزع فيه، صبر لا شكوى فيه لأحد، إلا للواحد الأحد، والله أستعين على كفايتي شر ما تصفون من الكذب.
يعقوب- أيها الكرام- قال في الولد الأول: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون، وقال في الولد الثاني: فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا ، والصبر سبيل الفرج، فمن كان يظن أن يوسف يُلقى في البئر طفلاً، ثم يدخل السجن في قضية تتعلق بوزير الملك، ثم يصير بعد ذلك كله ملك مصر !!.
يقول أحد أهل العلم وهو يتعجب من قميص يوسف الذي كان ثلاث آيات: حين ادعوا أن الذئب أكله فضحتهم سلامة القيمص، وحين ادعت امرأة العزيز أن يوسف اعتدى عليها، كان دليل البراءة سلامة القميص، وحين ألقي قميص يوسف على وجه أبيه ارتد بصيراً، فسبحان الذي يدافع عن أوليائه بما شاء.
ثم تولى يبكي عله السلام حتى ابيضت عيناه، وفي بعض الآثار: أن الملائكة بكت لبكاء يعقوب عليه السلام، كان أبو بكر رضي الله عنه يقرأ سورة يوسف في صلاة الفجر فإذا بلغ قوله تعالى: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ بكى وبكى الناس معه، وافترق يوسف ويعقوب عليهما السلام أربعين سنة، افترقوا ليلتقوا في آخر القصة بعد أحداث مؤلمة، وهنا أسدل الستار على يعقوب عليه السلام.
وجاءت سيارة: رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر، واخطئوا الطريق لأن رب يوسف يهيىء ليوسف أمرًا، ضلوا الطريق فعبروا بالقرب من هذه البئر المهجورة، فأرسلوا واردهم: مقدمهم الذي يستسقي لهم الماء، فأدلى دلوه: فتعلق يوسف بالدلو وخرج إليهم، فلما رآه، قال: يا بشرى هذا غلام، استبشر برؤية يوسف، ففيه جواز البشارة بالأمر السار، وأسروه بضاعة: أخفوه عن بقية القافلة لئلا يشاركوهم في ثمن بيعه، وقالوا لهم: إنما دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، والله عليم بما يعملون: عليم سبحانه بالذي باعوا يوسف، وعليم سبحانه بالذين كانوا سببًا في أن يكون عبدًا يباع ويشترى، وهو الكريم ابن الكريم، والله عليم بما يعملون، لكنها حكمة الله؛ لتكتمل القصة، وتحصل الحكمة الإلهية.
والعظة معلومة، يا محمد وأنت تسمع هذه القصة اصبر على ما نالك من أذى في ذات الله؛ فإن الله قادر على تغيير ذلك لكن له حكمة، ولأمره أجل.
ويؤخذ يوسف إلى مصر حيث بقية أحداث القصة، وشروه: أي باعوه، بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين؛ إذ لم يعلموا بنبوته ومنزلته عند الله، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾، والله غالب على أمره: أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته؛ فغلب أمر الله حتى حسدوه، ثم أراد إخوته قتله؛ فغلب أمر الله حتى صار ملكًا وسجدوا بين يديه، أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم؛ فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم ولم ينس يوسف، ثم دبروا أن يكونوا من بعده قومًا صالحين؛ أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه زمنًا طويلاً، ثم تابوا بين يدي يوسف وقالوا: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾، ثم دبروا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص؛ فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن بدأت بالكلام غلبته في الحجة وألصقت به التهمة؛ فغلب أمر الله حتى قال لها العزيز: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾، وهكذا تستمر سورة يوسف بمشاهدها الأخاذة، وبحديثها الشائق، وبروعتها في الأداء وفي الأخذ بأطناب القلوب.
فكيف عاش يوسف بمصر ولا أب ولا أهل؟ وإلى يد من صار؟ وما قصته في قصر العزيز؟ هذا ما سيكون حديث بعد قليل إن شاء الله.
الخطبة الثانية
يوسف في قصر العزيز
الحمد لله ولي المتقين، أحب المحسنين، وقرب المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، إمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا: هذه مقدمات التمكين، يقول عزيز مصر لامرأته: أكرمي مثواه، عسى أن يكفينا بعض المهمات أو نتبناه ولدًا، تفرس فيه أنه ينوب عنه في أمر المملكة، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أكثر الناس لا يعلمون؛ لذا هم يحاولون أن يغالبوا أحكام الله القدرية وهم أعجز من ذلك.
ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين: ولما كملت قوته الحسية والمعنوية وصلح لتحمل أعباء النبوة، آتيناه حكمًا وعلمًا؛ جعلناه نبياً وهاديًا ومعلمًا، الله آتاه حكمًا وعلمًا؛ لأنه لا بد من الإعداد والتربية قبل مواجهة الفتن، كذلك نجزي من أحسن في طاعة ربه، وأحسن في ترك معصيته.
ويوسف عليه السلام أيها الكرام: ما لبث أن خرج من فتنة البئر، ومن فتنة حسد إخوته له، ودخل قصر العزيز ينعم فيه بنعيم الدنيا من مطعم ومشرب وملبس، حتى جاءته فتنة شديدة لا يصبر عليها إلا الصابرون، ولا يتقيها إلا المخلصون المحسنون؛ إنها فتنة النساء.
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك: أحبته وعشقته وراودته بابًا بعد باب؛ تطلب منه ما تطلب المرأة من الرجل برفق ولين، قالت له: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ تزينت لك وقربت منك، تعال إلى الحرام، والعياذ بالله من شر الفتن، وهذه المحنة- أيها الكرام- أعظم من محنته مع إخوته حين ألقوه في الجب؛ لأن تلك المحنة كانت محنة اضطرار؛ كسائر المحن بالأمراض والمكاره، فليس للعبد إلا الصبر عليها طائعًا أو مكرهًا، أما هذه فكانت محنة اختيار، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل، فيوسف شاب وشهوة الشباب أعظم وأكبر، وهو أعزب لا زوج له، والمرأة سيدة القصر ذات الجمال والسلطان، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وقد تجملت له ودعته بسائر أنواع الإغراء، والمسكن واحد وقد يقع السوء ولا يشعر به أحد من الناس، وزوجها قليل الغيرة، وهو بعد ذلك كله غريب عن بلده، والغريب لا يتحرج كما يتحرج من هو بين معارفه وأهله، وصار المحــل خاليًا، وقد آمنا من دخول أحد بعد أن غلقت الأبواب، ودعته لنفسها بسائر وسائل الإغراء، قالت له: هيت لك، فماذا قال لها؟ ماذا قال: لقد قال قولةً صارت أسوةً من بعده لكل الأتقياء الشرفاء، قال: معــاذ الله، يا يوسف كيف صبرت هذا الصبر العظيم على ترك معصية الله! يا يوسف دفعت خاطر السوء من النفس الأمارة بالسوء، فعشت عفيفًا، ومت شريفًا، وكنت عند الله رفيعًا، وقد كان المانع - يا شباب- الذي منع يوسف من الوقوع في الفاحشة مع توفر أسبابها أربعة أشياء: أولها: معاذ الله: تقوى الله رب العالمين، ومراقبة آله الأولين والآخرين، وثانيها: إنه ربي أحسن مثواي، تعظيم جرم خيانة السيد الذي أكرم مثواه، وثالثها: إنه لا يفلح الظالمون، صيانة لنفسه من الظلم – يا شباب الأمة- الذي لا يفلح من تعاطاه، ورابعها: ما رآه من برهان ربه من العلم والإيمان، فكيف بعد ذلك أدنس عرضي، وأسخط ربي، وأخون سيدي، وأكن من الظالمين، والجامع لذلك كله وباختصار أن الله صرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده الذين أخلصوا عملهم لله، ومن عباده الذين أخلصهم الله تعالى واختصهم لنفسه.
ومن هنا يتقرر لنا معاشر الكرام: ووجوب البعد عن محال الفتن والفرار منها، وخطر الخلوة بالنساء اللاتي يخشى منهن الفتنة، والحذر من زيادة تعلق القلب الذي قد يقود إلى الفاحشة، وأن العبد - معاشر الكرام- إذا خطرت له خواطر السوء فليقابلها بمحبة الله تعالى، إذا خطرت له خواطر الفحشاء فليحرقها بخشية الله تعالى، إذا خطرت له خواطر الرذيلة فليغلب إيمانه؛ ليغلب هواه، فيكون ممن (خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى)، ويكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه، والعبد إذا هم بالسيئة فلم يعملها- أخوة الإيمان- كتبت له حسنة، ويقول الله لملائكته: إنما تركها من جرائي.
ويتبين لنا أيضًا أن عشق الصور إنما يبتلى به القلب الذي خلا من محبة الله تعالى وخشيته، لذا قال بعض السلف: العشق حركة قلب فارغ، أي فارغ من محبة غير المعشوق، ويتبين لنا أيضًا أهمية التربية؛ تربية الشباب على مراقبة الله، وخاصة أننا أصبحنا في زمن تُعرض الفتن على شبابنا وفتياتنا على صور عظيمة من الإغراء، في محال لا ينظر إليهم فيها إلا الله، وعبر وسائل لا تخفي عليكم، فوا أسفي على منهج يوسف، في هذا الواقع المؤسف، صورة عارية، وكأس وجارية، وشهوات سارية، كلها تقول: هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة معاذ الله ! فاتقوا الله يا مجد هذه الأمة، واتقوا الحرام !!.
واستبقا الباب.. وهرب يوسف عليه السلام من الوقوع في الفاحشة، وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب.. فماذا قالت له؟ وبأي شيء حكموا عليه؟ وما خبر النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ ولماذا اختار يوسف أن يسجن؟ أتدرون أن يوسف عليه السلام لما سجن لم يترك الدعوة إلى الله، لم يترك الدعوة إلى الله وهو في داخل السجن، بل دعا السجناء إلى توحيد الله وحذرهم من خطر الإشراك به، دعونا نقف عند هذا الحد؛ لنواصل في خطبة لاحقة إن شاء الله الوقوف على آيات هذه الأحداث.
[1] بتاريخ 18 ربيع أول 1428هـ.
رابط الموضوع: يوسف عليه الصلاة والسلام من حسد إخوته إلى ملك مصر (3)