- إنضم
- 24 ديسمبر 2011
- المشاركات
- 24,462
- نقاط التفاعل
- 27,827
- النقاط
- 976
- محل الإقامة
- فار إلى الله
- الجنس
- ذكر
لا يخفى أنّ من عوائق حفظ العلم و بقائه في الصدور عدم العمل به ,و على قدرما يكون هذا العمل موافقا للعلم يكون حظه من ميراث النبوّة ,و من عُدم عنده هذا الشرط الأكد ,يكون كالذي يحمل أسفارا فلا حظ له منها إلاّ حملها , بل ربما تكون وبالا عليه و حسرة يتكبدها إلاّ أن يتداركه ربه برحمة من عنده , و هوبعد ذلك مسؤول لا محال عن هذا الحمل بين يدي ربّه
قال الله تعالى مثل الذين حًُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) - سورة الجمعة ,أية 5 -
و كان نبيّنا صلوات الله و سلامه عليه يقول : ‘‘ اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ‘‘- أخرجه مسلم -
و جاء عن الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الماتع ‘‘ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع‘‘ ما مفاده :
(...وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول:”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”
و عن أبي بكر الرازي قال سمعت إبراهيم الخوّاص يقول ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم) -اقتضاء العلم العمل- للخطيب البغدادي
ونقل عن الحسن البصري رحمه الله أنّه قال : ( العلم علمان : علم اللسان ،فذلك حجة الله على ابن آدم ، وعلم في القلب فذلك العلم النافع , ثم قال : فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوقر فيه معرفة الله تعالى ، وعظمته ، وخشيته ، وإجلاله ، وتعظيمه ، ومحبته ، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح تبعا له )
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ‘‘هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل‘‘ - الجامع لأخلاق الراوي، واقتضاء العلم العمل -
وقال الشافعي رحمه الله : "ليس العلم ما حٌفِظ، العلم ما نفع" - تذكرة السامع والمتكلم - .
فالمتأمل لهذه الأثار المباركة يدرك بأنّ أصحابها كانوا رعاة للعلم قبل أن يكونوا روّاة له ,
و قد أخطأ من ظنّ أنّ العلم هو مجرد الرواية بل الرعاية والعناية ,و بمثل هذا كان يقول الحسن البصري رحمه الله همّة العلماء الرعاية ، وهمّة السّفهاء الرواية ) - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع -
و كان أبو بكرالخطيب البغدادي رحمه الله يوصي طلاّب العلم قائلا: (..وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية ، فإن روّاة العلم كثير ، ورعاته قليل ، وربّ حاضر كالغائب ، وعالم كالجاهل ، وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه)
لأجل هذا , كان لزاما على أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين , إعطاء هذه الرعاية المقام الأول كونها اللبنة الأولى في الطلب و أفردوها بالتأليف والبحث , لمكانتها و عظم شأنها في مسيرة طالب العلم .
ولقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله, يتواصون بهذه ,و يحثّون أبناءهم على ذلك ويأمرونهم بمعالي الأخلاقِ وينهَونهم عن سفاسِفها فكانت لهم يد السبق في إرساءها في النفوس و تقديمها عن كل شيئ , إذ كانوا من أشد الناس حرصا في إعمالها في حياتهم اليومية , فقد اشتهر عنهم إرسال أبناءهم عند نعومة أظافرهم إلى مؤدبّين ليتعلموا القراءة و الكتابة و حفظ القرأن و يوطّنوا أنفسهم على ملازمة السّمت والهدي والخلق الحسن , و عند بلوغهم سن التكليف , يجلسونهم في حلق الأكابر من أهل الحديث لينهلوا من سمتهم و هديهم و أخلاقهم التي هي أصل متأصّل من نبع النبوّة , حتى إذا ما اشتدّ عودهم وأشربوا هذه الصفات و تمكنت منهم أيما تمكن , إنتصبوا لتلقي هذا العلم و تفرّغوا لتحمّله و حفظه في وعاء نقي صاف لا يعتريه خلل .
و كانوا يقولون : ‘‘ الأدب قبل الطلب ‘‘
فقد ورد في كتاب - بهجة المجالس و أنس المجالس لابن عبد البر- عن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أنه قال لمؤدب بنيه: ( إنه - والله- ما يخفى علي ما تعلمهم وتلقيه إليهم، فاحفظ عني ما أوصيك به: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وعلمهم الشعر يسمحوا ويمجدوا وينجدوا، وجنبهم شِعرعروة بن الورد، فإنه يحمل على البخل، وأطعمهم اللحم يقووا ويشجعوا، وجز شعورهم تغلظ رقابهم، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس أدباً وهدياً، ومرهم فليستاكوا، وليمصوا الماء مصاً، ولا يعبوه عباً، ووقرهم في العلانية، وأدبهم في السر، واضربهم على الكذب كما تضربهم على القرآن، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار... )
وقال الإمام مالك رحمه الله : (كانت أمي تعمّمني وتقول لي : اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه ) - ترتيب المدارك وتقريب المسالك -
وجاء عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال : (نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ) - مدارج السالكين -
و قال أيضا كانوا يطلبون الأدب ثم العلم ) - غاية النهاية في طبقات القُراء لابن الأثير -
و قال كذلك : ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم ) - صفة الصفوة لابن الجوزي -
ويقول سفيان الثوري رحمه الله : (ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم ، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة )
- حلية الأولياء -
أمّا اليوم ,قلّ من يتقيّد بهذه الأداب و يحرص عليها و يعطيها حقّّها إلاّ النّزر القليل , بل بالعكس , قد تجد من ينددن حولها بالأقوال و الكلام المنمّق و ربما يوصي غيره بها و لكن حينما ترقبه ,تستشعر منه الكبر و الفضاضة و رمي الأخر بأسوء الصفات من غير بيّنة , وإذا تكلّم الذي يقابله حمل كلامه على أسوء المحامل مرتكزّا على قرائن واهية هو منها براء و رشقه بألفاظ و ألفاظ , ناهيك عن الازدراء الذي يتخلله والنظر بعين الإنتقاص و و و .. ,
و كم تجد من أدعياء نضحت ألسنتهم و أقلامهم بضد ما علموه ,فتراهم يخطّون الأسطر ويحرصون على تنميق العبارات و تزويقها و حشرها بشواهد حق ملبسين إيّاها لباس الباطل لضرب أخرين و لمزهم و الإفتراء عليهم بمحض الظّن ,لا نصرةً للحق و لكن نصرة للنفّس التي رجّت لها الجوارح ,فثارت و تشتتت بسببها الأذهان ,فداخلتها إنفعالات و اضطرابات ,فانطوى تحتها مدخل من مداخل الشيطان , ألا و هو الغضب , فظّنّ الظّان أنّه لله وإنما ذالكم الشيطان ألبسه ثوب الغضب لله و هو في حقيقة الأمر, ما هو إلاّ للنفس الامّارة بالسّوء ,وكل إناء بالذي فيه ينضح
قال بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب ‘‘ مختصر منهاج القاصدين ‘‘ : ‘‘ ومن أبوابه العظيمة: الغضب، والشهوة، والحدة، فإن الغضب غول العقل، وإذا ضعف جند العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالإنسان. وقد روى أن إبليس يقول: إذا كان العبد حديداً، قلبنّاه كما يقلب الصبيان الكرة ‘‘ ,
ومن هنا يظهرهذا الانحرافَ ,جليا في السّلوك والأخلاق ,و قد يؤدي بصاحبه إلى هدم ما بناه , فيصبح (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)- سورة النحل 92 - و بالتالي تصبح مَعلماً دالاًّ عن منطلق خاطئ .
فإذا كانت هذه الصفات الردّية لا تليق بعوام المسلمين فكيف لا يملك من وضع أوّل خطوة في طريق طلب العلم أن يتحاشاها . سبحان الله !
كان الإمام الشافعي رحمه الله و هو من هو, يغضّ الطرف عن سفاهة السفهاء و يحلم عليهم و يرجو لهم الهداية و يقول :
يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الاحراق طيبا
فكيف كانت أخلاقه نحو من قدّم له النصح ؟
قال ابن جماعة رحمه الله : "فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة؛ فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى، ولا سيما الحسد والعجب والرياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب" - تذكرة السامع والمتكلم -
و قال محدّث الديار المصرية الليث بن سعد رحمه الله و كان يشرف على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئاً : "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم" - شرف أصحاب الحديث -
و عن عبد الله بن المبارك قال :‘‘ من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة‘‘. - مدارج السالكين -
نعم هكذا ينبغي أن نرى الأشياء , فهذا كلام لا يصدر إلا من الذين وضعوا أيديهم على حقيقة هذا العلم و علموا جوهره و لبّه و أدركوا غايته وحقيقة معانيه فأنزلوها منزلا يليق بها ,فجعل الله لكلامهم وزنا و أثرا في النفوس و أبقى ذكرهم و جعلهم هداة مهتدين ,فلله ذرّهم .
فالله الله في الأخلاق , فما نال سلفنا الصّالح الشموخ و الرسّوخ من عدم , لكن كانوا إذا تكلّموا اشرأبّت لهم الأعناق وأسمعوا أذان القلوب قبل أذان الرؤوس وإذا صمتوا مالت إليهم النفوس و إذا غابوا حنّت إلى مجالسهم القلوب و إذا ماتوا خلّد الله ذكرهم و رفع منازلهم ,لا لأنهم كانوا أوعية للعلم فحسب بل كانوا يملكون النفوس قبل الأبدان بأخلاقهم و هديهم .
وكتب الإمام مالك إلى الرشيد: "إذا علمت علماً فليُرَ عليك أثره وسكينته وسمته ووقاره وحلمه" - تذكرة السامع والمتكلم -
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العَيش وخدمة العلماء أفلح" - تذكرة السامع والمتكلم -
وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: "يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثير من الحديث" - الجامع لأخلاق الراوي -
فهذا غيض من فيض ما قيل في أداب طالب العلم , و لسنا نصدر أحكاما كما قيل ,بل كل هذا معلوم ومنصوص عليه متداول بين أهله وهو مبثوت
في متناول الأيدي لا يجهله أحاد النّاس و لله الحمد و المنّة , و لكّن لتذكير نفسي و إياّكم ‘‘ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ‘‘
و من ضمن ما ذُكر في الأداب ,إستخلصها بعض العلماء في نقاط :
-الإخلاص في طــــلب العلم .
- احترام أهل العلم وتوقيرهم .
-المراجعة والاستذكار لما تم حفظه سابقا .
- تقوى الله والبعد عن الذنوب والمعاصي .
-حسن الخـــلق فــي التعامل مــع الآخـرين .
- السـؤال عـــمـا أشــكل بأدب وحســن طـــرح .
- القــيا م بــما أوكل وأسند إليه من واجب ومهام .
- النصح للآخرين بأسلوب ليس فيه تشهير وجرح للمشاعر .
- أن يكون قدوة حسنة للآخرين في أخلاقه وسلوكه وتعامله .
- تطبيق ما تعلم في حيا ته ,فعـلم بـلا عمل كشـجر بلا ثـمـر .
نسأل الله بأسماءه الحسنى و صفاته العليا أن يجعلنا من السّائرين على درب علماءنا الربّانيين المقتدين بنبيّهم صلى الله عليه و سلّم أحسن الإقتداء
في أخلاقه و هديه و سمته و أن يثبثّنا على ذلك إلى أن نلقاه عند حوضه المورود.
و سبحانك اللهم و بحمده نشهد ألاّ إله إلاّ أنت نستغفرك و نتوب إليك
و صلى الله على نبينا محمد و أله و صحيه و سلّم, و الحمد لله رب العالمين .
قال الله تعالى مثل الذين حًُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) - سورة الجمعة ,أية 5 -
و كان نبيّنا صلوات الله و سلامه عليه يقول : ‘‘ اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ‘‘- أخرجه مسلم -
و جاء عن الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الماتع ‘‘ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع‘‘ ما مفاده :
(...وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول:”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”
و عن أبي بكر الرازي قال سمعت إبراهيم الخوّاص يقول ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم) -اقتضاء العلم العمل- للخطيب البغدادي
ونقل عن الحسن البصري رحمه الله أنّه قال : ( العلم علمان : علم اللسان ،فذلك حجة الله على ابن آدم ، وعلم في القلب فذلك العلم النافع , ثم قال : فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوقر فيه معرفة الله تعالى ، وعظمته ، وخشيته ، وإجلاله ، وتعظيمه ، ومحبته ، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح تبعا له )
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ‘‘هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل‘‘ - الجامع لأخلاق الراوي، واقتضاء العلم العمل -
وقال الشافعي رحمه الله : "ليس العلم ما حٌفِظ، العلم ما نفع" - تذكرة السامع والمتكلم - .
فالمتأمل لهذه الأثار المباركة يدرك بأنّ أصحابها كانوا رعاة للعلم قبل أن يكونوا روّاة له ,
و قد أخطأ من ظنّ أنّ العلم هو مجرد الرواية بل الرعاية والعناية ,و بمثل هذا كان يقول الحسن البصري رحمه الله همّة العلماء الرعاية ، وهمّة السّفهاء الرواية ) - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع -
و كان أبو بكرالخطيب البغدادي رحمه الله يوصي طلاّب العلم قائلا: (..وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية ، فإن روّاة العلم كثير ، ورعاته قليل ، وربّ حاضر كالغائب ، وعالم كالجاهل ، وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه)
لأجل هذا , كان لزاما على أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين , إعطاء هذه الرعاية المقام الأول كونها اللبنة الأولى في الطلب و أفردوها بالتأليف والبحث , لمكانتها و عظم شأنها في مسيرة طالب العلم .
ولقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله, يتواصون بهذه ,و يحثّون أبناءهم على ذلك ويأمرونهم بمعالي الأخلاقِ وينهَونهم عن سفاسِفها فكانت لهم يد السبق في إرساءها في النفوس و تقديمها عن كل شيئ , إذ كانوا من أشد الناس حرصا في إعمالها في حياتهم اليومية , فقد اشتهر عنهم إرسال أبناءهم عند نعومة أظافرهم إلى مؤدبّين ليتعلموا القراءة و الكتابة و حفظ القرأن و يوطّنوا أنفسهم على ملازمة السّمت والهدي والخلق الحسن , و عند بلوغهم سن التكليف , يجلسونهم في حلق الأكابر من أهل الحديث لينهلوا من سمتهم و هديهم و أخلاقهم التي هي أصل متأصّل من نبع النبوّة , حتى إذا ما اشتدّ عودهم وأشربوا هذه الصفات و تمكنت منهم أيما تمكن , إنتصبوا لتلقي هذا العلم و تفرّغوا لتحمّله و حفظه في وعاء نقي صاف لا يعتريه خلل .
و كانوا يقولون : ‘‘ الأدب قبل الطلب ‘‘
فقد ورد في كتاب - بهجة المجالس و أنس المجالس لابن عبد البر- عن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أنه قال لمؤدب بنيه: ( إنه - والله- ما يخفى علي ما تعلمهم وتلقيه إليهم، فاحفظ عني ما أوصيك به: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وعلمهم الشعر يسمحوا ويمجدوا وينجدوا، وجنبهم شِعرعروة بن الورد، فإنه يحمل على البخل، وأطعمهم اللحم يقووا ويشجعوا، وجز شعورهم تغلظ رقابهم، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس أدباً وهدياً، ومرهم فليستاكوا، وليمصوا الماء مصاً، ولا يعبوه عباً، ووقرهم في العلانية، وأدبهم في السر، واضربهم على الكذب كما تضربهم على القرآن، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار... )
وقال الإمام مالك رحمه الله : (كانت أمي تعمّمني وتقول لي : اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه ) - ترتيب المدارك وتقريب المسالك -
وجاء عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال : (نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ) - مدارج السالكين -
و قال أيضا كانوا يطلبون الأدب ثم العلم ) - غاية النهاية في طبقات القُراء لابن الأثير -
و قال كذلك : ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم ) - صفة الصفوة لابن الجوزي -
ويقول سفيان الثوري رحمه الله : (ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم ، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة )
- حلية الأولياء -
أمّا اليوم ,قلّ من يتقيّد بهذه الأداب و يحرص عليها و يعطيها حقّّها إلاّ النّزر القليل , بل بالعكس , قد تجد من ينددن حولها بالأقوال و الكلام المنمّق و ربما يوصي غيره بها و لكن حينما ترقبه ,تستشعر منه الكبر و الفضاضة و رمي الأخر بأسوء الصفات من غير بيّنة , وإذا تكلّم الذي يقابله حمل كلامه على أسوء المحامل مرتكزّا على قرائن واهية هو منها براء و رشقه بألفاظ و ألفاظ , ناهيك عن الازدراء الذي يتخلله والنظر بعين الإنتقاص و و و .. ,
و كم تجد من أدعياء نضحت ألسنتهم و أقلامهم بضد ما علموه ,فتراهم يخطّون الأسطر ويحرصون على تنميق العبارات و تزويقها و حشرها بشواهد حق ملبسين إيّاها لباس الباطل لضرب أخرين و لمزهم و الإفتراء عليهم بمحض الظّن ,لا نصرةً للحق و لكن نصرة للنفّس التي رجّت لها الجوارح ,فثارت و تشتتت بسببها الأذهان ,فداخلتها إنفعالات و اضطرابات ,فانطوى تحتها مدخل من مداخل الشيطان , ألا و هو الغضب , فظّنّ الظّان أنّه لله وإنما ذالكم الشيطان ألبسه ثوب الغضب لله و هو في حقيقة الأمر, ما هو إلاّ للنفس الامّارة بالسّوء ,وكل إناء بالذي فيه ينضح
قال بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب ‘‘ مختصر منهاج القاصدين ‘‘ : ‘‘ ومن أبوابه العظيمة: الغضب، والشهوة، والحدة، فإن الغضب غول العقل، وإذا ضعف جند العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالإنسان. وقد روى أن إبليس يقول: إذا كان العبد حديداً، قلبنّاه كما يقلب الصبيان الكرة ‘‘ ,
ومن هنا يظهرهذا الانحرافَ ,جليا في السّلوك والأخلاق ,و قد يؤدي بصاحبه إلى هدم ما بناه , فيصبح (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)- سورة النحل 92 - و بالتالي تصبح مَعلماً دالاًّ عن منطلق خاطئ .
فإذا كانت هذه الصفات الردّية لا تليق بعوام المسلمين فكيف لا يملك من وضع أوّل خطوة في طريق طلب العلم أن يتحاشاها . سبحان الله !
كان الإمام الشافعي رحمه الله و هو من هو, يغضّ الطرف عن سفاهة السفهاء و يحلم عليهم و يرجو لهم الهداية و يقول :
يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الاحراق طيبا
فكيف كانت أخلاقه نحو من قدّم له النصح ؟
قال ابن جماعة رحمه الله : "فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة؛ فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى، ولا سيما الحسد والعجب والرياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب" - تذكرة السامع والمتكلم -
و قال محدّث الديار المصرية الليث بن سعد رحمه الله و كان يشرف على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئاً : "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم" - شرف أصحاب الحديث -
و عن عبد الله بن المبارك قال :‘‘ من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة‘‘. - مدارج السالكين -
نعم هكذا ينبغي أن نرى الأشياء , فهذا كلام لا يصدر إلا من الذين وضعوا أيديهم على حقيقة هذا العلم و علموا جوهره و لبّه و أدركوا غايته وحقيقة معانيه فأنزلوها منزلا يليق بها ,فجعل الله لكلامهم وزنا و أثرا في النفوس و أبقى ذكرهم و جعلهم هداة مهتدين ,فلله ذرّهم .
فالله الله في الأخلاق , فما نال سلفنا الصّالح الشموخ و الرسّوخ من عدم , لكن كانوا إذا تكلّموا اشرأبّت لهم الأعناق وأسمعوا أذان القلوب قبل أذان الرؤوس وإذا صمتوا مالت إليهم النفوس و إذا غابوا حنّت إلى مجالسهم القلوب و إذا ماتوا خلّد الله ذكرهم و رفع منازلهم ,لا لأنهم كانوا أوعية للعلم فحسب بل كانوا يملكون النفوس قبل الأبدان بأخلاقهم و هديهم .
وكتب الإمام مالك إلى الرشيد: "إذا علمت علماً فليُرَ عليك أثره وسكينته وسمته ووقاره وحلمه" - تذكرة السامع والمتكلم -
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العَيش وخدمة العلماء أفلح" - تذكرة السامع والمتكلم -
وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: "يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثير من الحديث" - الجامع لأخلاق الراوي -
فهذا غيض من فيض ما قيل في أداب طالب العلم , و لسنا نصدر أحكاما كما قيل ,بل كل هذا معلوم ومنصوص عليه متداول بين أهله وهو مبثوت
في متناول الأيدي لا يجهله أحاد النّاس و لله الحمد و المنّة , و لكّن لتذكير نفسي و إياّكم ‘‘ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ‘‘
و من ضمن ما ذُكر في الأداب ,إستخلصها بعض العلماء في نقاط :
-الإخلاص في طــــلب العلم .
- احترام أهل العلم وتوقيرهم .
-المراجعة والاستذكار لما تم حفظه سابقا .
- تقوى الله والبعد عن الذنوب والمعاصي .
-حسن الخـــلق فــي التعامل مــع الآخـرين .
- السـؤال عـــمـا أشــكل بأدب وحســن طـــرح .
- القــيا م بــما أوكل وأسند إليه من واجب ومهام .
- النصح للآخرين بأسلوب ليس فيه تشهير وجرح للمشاعر .
- أن يكون قدوة حسنة للآخرين في أخلاقه وسلوكه وتعامله .
- تطبيق ما تعلم في حيا ته ,فعـلم بـلا عمل كشـجر بلا ثـمـر .
نسأل الله بأسماءه الحسنى و صفاته العليا أن يجعلنا من السّائرين على درب علماءنا الربّانيين المقتدين بنبيّهم صلى الله عليه و سلّم أحسن الإقتداء
في أخلاقه و هديه و سمته و أن يثبثّنا على ذلك إلى أن نلقاه عند حوضه المورود.
و سبحانك اللهم و بحمده نشهد ألاّ إله إلاّ أنت نستغفرك و نتوب إليك
و صلى الله على نبينا محمد و أله و صحيه و سلّم, و الحمد لله رب العالمين .