الهدوء المزعج
:: عضو مُتميز ::
- إنضم
- 29 نوفمبر 2013
- المشاركات
- 953
- نقاط التفاعل
- 2,882
- النقاط
- 51
- العمر
- 28
- محل الإقامة
- khenchela
- الجنس
- ذكر
قصة قصيرة من أزمنة الإرهاب: المجاهد يسترد بندقيته
مدخل: هذه القصة المتخيلة بنيت على واقعة حقيقية حول جريمة اغتيال حقيقية وقعت فعلا وتناقلتها وسائل الإعلام عام 1994، ثم سرعان ما طواها النسيان شأنها شأن كل الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الإرهابيون الإسلاميون في الجزائر، ومع ذلك يصر حكامنا على مد يد المصالحة لهم دون مبرر. لعلني بنشر هذه القصة وقصص أخرى كتبتها في أزمنة الإرهاب، ضد النسيان، أساهم، ولو بقدر متواضع، في إبقاء ذاكرة شعبنا حية.
القصة: المجاهد يسترد بندقيته
كان من عادة الشيخ عبد الحميد أو الشامبيط، كما يسميه الناس في القرية منذ أن كان حارس غابات، أن يستلقي على حصيرة بعد أن يعود من مسجد القرية بعد أداء صلاة الظهر، ويستسلم لقيلولة تمتد، أحيانا، إلى وقت العصر، منذ أن تقاعد قبل عدة سنوات. لكن هذه المرة لم يقو على النوم. لقد انشغل باله بالتفكير في ابنه الوحيد الذي عاد، هذا الصباح الباكر، غاضبا، إلى العاصمة، حيث يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، بعد تخرجه من الجامعة طبيبا قبل حوالي عامين.
لقد مرت قرابة السنتين على التحاقه بالجيش لأداء هذا الواجب الوطني. شعر الشامبيط بغبطة تجتاح كل جسده، ومن حقه ذلك، إن ابنه أول طبيب في القرية، بل في البلدية والعرش كله. حتى أبناء الأسر الميسورة في الناحية لم ينالوا هذا الشرف. وابتسم ابتسامة ممزوجة بشيء من الاعتزاز والشماتة. هؤلاء الحساد تكاد الغيرة تقبض أرواحهم. كيف يعقل أن يتخرج ابن حارس الغابة الفقير طبيبا بينما توقف أبناء الذوات في منتصف الطريق؟
كان قلب الشيخ يعتصر، في هذه الشهور الأخيرة، كلما جاء ابنه من العاصمة وكلما عزم على العودة، بسبب هذه الأحوال الأمنية التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، رغم كل الاحتياطات التي كان يأخذها. فهو لا يرتدي اللباس العسكري وهو يتفادى حمل أي وثيقة تشي بانتمائه للجيش، ولو كان هذا الانتماء مؤقتا في إطار الخدمة الوطنية الإجبارية. لكن هذه المرة استبد بالشيخ قلق حاد ومزدوج مصدره ما حدث بينه وبين ابنه البارحة. كان الابن قد أسرّ إلى أمه، قبل شهر، أنه تعرف على فتاة في العاصمة، وهو ينوي الإقدام على خطبتها، وأوعز إلى أمه التكفل بالتمهيد للأمر قبل مفاتحة والده بعد عودته المقبلة.
وعندما عاد هذه المرة دار بينهما حديث ساخن عبر الأب من خلاله عن عدم رضاه تجاه مشروع ابنه. لقد جاء قرار ابنه مخالفا لكل حساباته وحسابات زوجته. كان قد قر قراره، منذ مدة طويلة، على مصاهرة إحدى العائلات الميسورة في القرية. ولم يكن يتوقع أبدا أن يقرر ابنه الزواج من بنت حضرية لا يعرف الناس هنا أصلها ولا فصلها. وعبثا حاول الابن إقناعه بحسن اختياره وبانتماء الفتاة إلى عائلة محترمة لا تشوبها شائبة، لكن الأب ظل مصرا على رأيه. أما الأم فقد كانت تتمنى لو يستقر ابنها في القرية مع زوجته القادمة، على أن يجد عملا له في إحدى مصحات أو مستشفيات البلدات القريبة إن أمكن. كيف لا وقد فرغ البيت عليها بعد أن تزوجت جميع البنات؟ فما أحوجهما إلى أحفاد يملئون عليهما هذا البيت صياحا وصخبا بعد أن صار يخيم عليه هدوء لا يطاق لم تتعود عليه أبدا. ثم أليس في القرية فتيات جديرات به؟ وهن متعودات على حياة القرية وعاداتها وخشونة الحياة بها. أما هذه المرأة الحضرية، وهي فوق ذلك من العاصمة البعيدة فسوف تجره، لا محالة، وراءها حيث أهلها. ماذا لو طاوعها فخطبت له إحدى بنات القرية، حسبا ونسبا وجمالا؟ وكانت المسألة بالنسبة إليها سهلة، فمن يتردد في مصاهرة ابنها الطبيب؟
وسرح خيال الشيخ في ماضيه البعيد. وكيف تم زواجه. كان عمره ست عشر سنة ونيف عندما أخبرته أمه بقرار تزويجه، وما هي إلا أيام معدودات حتى أخبرته بموعد زواجه، بعد أن كان الوالد قد بت في الأمر، واتفق مع والد العروس وقرئت الفاتحة وقررت الجماعة كل شيء. ولم يكن يملك أمام قرار والده إلا الإذعان، ولا يزال يتذكر كيف عاش أياما طويلة أخرى لا يجرؤ على رفع رأسه أمام والده وأعمامه حياء واحتراما، وكيف عاش أياما أخرى بعد الزواج يتحاشاهم، ولا يرتاح إلا بصحبة بعض أنداده من الفتيان، كما هي عادة العرسان حديثي العهد بالزواج يومئذ.
ثم قفزت به الذاكرة إلى اليوم الذي ولد فيه ابنه. ما أسرع ما تمر السنون. ها هو يرى نفسه، وكأنما حدث ذلك بالأمس فقط، كيف ظل جالسا خارج البيت، ينتظر زوجته وهي تلد للمرة السابعة، وهو فريسة للقلق واليأس والرجاء. لم يتأخر أبدا في التماس بركة ولي من الأولياء الصالحين مهما بعدت المسافات، ولا تأخرت زوجته عن زيارة مرابط (درويش) الناحية ولا تردد في تجرع نقيع أية عشبة من الأعشاب الطبية كلما سمع أحدهم يعدد له مزاياها، من أجل تحقيق رغبته في ولد، ولد واحد فقط قبل أن يتقدم به العمر أو تتوقف زوجته عن الإنجاب، أو يتخطفه الموت، ولد واحد يحمل اسمه فلا ينقطع ذكره بعد رحيله من هذه الدنيا، ويكون عونا له في آخر عمره، كما يكون صدرا رحيما وأخا كريما لأخواته الست، يلجأن إليه ويجدن البيت مفتوحا لهن في السراء والضراء.
ظل القلق يستبد به ويعصر قلبه عصرا، وشيء من اليأس ممزوج بالأمل رافقه طوال فترة الحمل. وها هو اليوم الموعود. لم يتوقف، منذ الصباح، عن الابتهال إلى الله وعيناه متعلقتان بالسماء، وأذناه تتسمعان وتتابعان الجلبة الدائرة في البيت، راجيا من الله أن يرزقه هذه المرة، ولدا ذكرا، بعد انتظار طويل ويأس نغص عليه حياته، بعد ست بنات جئن متتاليات. وأخيرا تناهت إلى سمعه زغرودة حادة طويلة لتطل عليه بعدها أمه تبشره بمولود ذكر.
انفتحت أساريره وغمرته فرحة لا تضاهى، وراح يحمد الله ويشكره بعد أن استجاب أخيرا إلى تضرعه.
كان ميلاد ابنه يحيى، هكذا سماه، تيمنا ودفعا لكل مكروه، كما جرت العادة، مناسبة عظيمة في القرية، كلف نفسه فيها فوق طاقتها، ذبح شاة وأقام وليمة دعا إليها جميع سكان القرية، شكرا لله.
وترعرع الفتى يحيى بين أخواته البنات، فكان محل دلال وعناية وتبجيل. ومع ذلك لم تفسد هذه العناية الزائدة الفتى، مثلما هو الشأن في كثيرة من هذه الحالات. كان الفتى محل رضا وإعجاب الجميع، أهلال وجيرانا ومعلمين ، طوال هذه السنين. كان يحيى ضمن الفوج الأول من فتيان وفتيات القرية الذين استقبلتهم أول مدرسة جديدة بالناحية بعد الاستقلال. وراح الفتى يجتاز المراحل التعليمية بتفوق، في القرية أولا، ثم في الدائرة حيث ارتاد مدرستها الإكمالية، ثم في عاصمة الولاية حيث تابع دراسته الثانوية بامتياز، ثم أخيرا في الجامعة. ولم يضن الوالد عليه بشيء لتمكينه من مواصلة تعليمه رغم فقره وتواضع دخله.
صحا الشامبيط من هذه الغيبوبة الطويلة وهو يشعر بألم حاد في جنبه لطول ما توكأ عليه فوق هذه الحصيرة الخشنة. ثم استغرق مرة أخرى في تأملاته. كان عليّ ألا أتركه يرجع إلى العاصمة غاضبا حتى قبل أن تنتهي عطلته. لست أدري؟ لعلني مخطئ في حقه. إن الزمان قد تبدل، وهو طبيب ومتعلم ومن حقه أن يكون له رأي في زواجه. بل من حقه أن يتزوج فتاة حضرية في مستوى تعليمه. وهنا شعر بالندم وبشيء من وخز الضمير وأحس أنه ارتكب ذنبا جراء أنانيته، وهم بمناداة زوجته ليفاتحها في الموضوع، وإذا بها تقتحم عليه الغرفة مرتاعة لتخبره أن سيارة الدرك الوطني متوقفة بمحاذاة الباب، وهم يريدونه لأمر يخصه.
شعر الشامبيط بشيء من الخوف. ماذا حدث؟ لماذا رجال الدرك يريدونني؟ لم يحدث أن ارتكبت مخالفة أو كان لي مع الدولة قضية، فأنا رجل أعيش دائما في وفاق مع القانون وفوق ذلك كله فأنا مجاهد قضيت سنين طويلة في صفوف الثورة التحريرية.
لقد تعودت القرية على زيارة هؤلاء الرجال، في الآونة الأخيرة، مع تدهور الأوضاع الأمنية والشكوك التي أصبحت تحوم حول بعض الأسر وبعض الشباب واحتمال تعاونهم مع الإرهابيين وتقديم العون المادي والإعلامي لهم. انتشرت الكثير من الشائعات حول اختفاء مجموعة من الناس، قيل إنهم التحقوا بالجبال أو أنهم اختطفوا في ظروف غامضة لعلاقتهم بالجماعات الإسلامية المسلحة.
الله يستر، قالها الشيخ، وفكر في ابنه، هل فعل شيئا ضد الدولة؟ مستحيل، صحيح أن ابنه متدين، يصلي ويصوم ويرتاد المسجد أحيانا، وخاصة لصلاة الجمعة، ولكنه بعيد عن السياسة وعن هذه الفتنة التي أطلت بقرونها على البلاد. إنه شاب مسالم مستقيم السلوك وفوق ذلك كله فهو متعلم وطبيب ولا يمكن أن يأتي منه ما يبرر مجيء رجال الدرك.
خرج الشيخ ورحب بالقادمين رغم شيء من الضيق. فلقد أصبح الناس، عموما، يتجنبون التعامل مع قوات الأمن، خاصة في المناطق المشبوهة، وكثيرا ما جرى اغتيال الناس لمجرد علاقات عادية بهم، تجارية أو مجرد صداقة قديمة مع أحدهم. بالنسبة للإرهابيين كان هؤلاء من جنس الطواغيت، وقد أفتوا بمقاطعتهم وعزلهم وحكموا بالموت على كل من يخترق هذه المقاطعة.
سلم الدركي برقية للشيخ عبد الحميد وهو يطلعه على فحواها. لقد قتل يحيى ابنك في حاجز أمني مزيف أقامته جماعة إرهابية. لم يتمالك الشامبيط نفسه، بعد أن نزلت كلمات الدركي عليه كالصاعقة، ولم تستطع ركبتاه حمل جسمه رغم هزاله، وخر جاثيا على ركبتيه في عتبه بيته. كانت الأم تتنصت وراء الباب وسمعت كل شيء، فانفجرت بكاء وصراخا وعويلا. وشيئا فشيئا تسامع ناس القرية بالخبر وراح البيت يمتلئ بالرجال والنساء والأقارب الذين هزهم هول المصيبة التي ألمت بعائلة الشيخ عبد الحميد.
لم ينتبه الشيخ إلى حاله إلا وهو ملقى على فراش في إحدى غرف البيت أعدت بسرعة لاستقبال رجال القرية، وقد كان أحدهم يشده شدا وهو لا يزال في غيبوبته. كانت اليد التي انتشلته من هذه الغيبوبة يد سي عيسى إمام مسجد القرية: يا شيخ عبد الحميد، اتق الله. وحّد الله، الله أعطى، الله أخذ. كل نفس ذائقة الموت ولو كنتم في بروج مسورة، الله حق والموت حق. المؤمن الصادق هو الذي يتقبل قضاء الله وقدره بنفس راضية صابرة، إنما المؤمنون الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. ابنك يحيى مات غدرا، مات مظلوما فهو شهيد يبعث، إن شاء الله، يوم القيامة، مع النبيين والصديقين.
استرسل الإمام في حديث مطول، مؤيدا كلامه بالآيات والأحاديث التي تناسب المقام، بينما ظل الشامبيط يحملق، بعيون فارغة، في الحاضرين الذين غصت بهم الغرفة دون أن يشعر بوجودهم، متى جاؤوا؟ كيف دخلوا؟ كيف جلسوا، لم يشعر بكل هذا ولم يأبه له. وعاد إلى شبه الغيبوبة التي كان فيها، إنه لا يعرف ما يقول ولا ما يفعل.
استفاق الشيخ عبد الحميد مرة أخرى بينما كان أحدهم يهزه هزا، فرفع رأسه وإذا برجل كهل غريب لم يسبق له أن رآه في القرية أو في مكان آخر، ينحني عليه ليعزيه في ابنه. قالوا له إنه سائق التاكسي التي استقلها يحيى للعودة إلى العاصمة. هل تريد أن تسأله؟ حملق الشيخ في وجه الرجل ولم يقل شيئا. بادر أحد الحاضرين بالسؤال عما جرى. شرح السائق، وهو يتلعثم من شدة التأثر، كيف أن حاجزا أمنيا أوقف سيارته مع مطلع الشمس، كان معه أربعة ركاب، يحيى الطبيب وأسرة مكونة من أب وأم وبنتهما. لقد اعتقدنا أنهم من رجال الأمن لأنهم كانوا يشبهونهم تماما من حيث اللباس والتسليح. لكنهم، على غير العادة، أنزلونا تحت تهديد بنادقهم ثم فتشونا وقيدونا وأخذوا كل ما عندنا من مال وأمتعة وأمروا الفتاة أن ترافقهم. راح الوالدان يتوسلان لهم ويبكيان ويستميتان في التشبث بابنتهما رغم ما كانا يتعرضان له من ركل ورفس وضرب مبرح بأعقاب بنادقهم. في هذه الأثناء خرجت مجموعة أخرى كانت متخفية بين الأشجار، بلباس مدني، وكان أغلبهم ملثمين. تقدم أحدهم من يحيى الطبيب وناداه باسمه، أهلا يحيى مازلت تزور والدك في القرية؟ وكيف حال الطاغوت الذي تنتمي إليه؟
وعبثا حاول الطبيب شرح موقفه لهم وكيف أن وجوده في صفوف الجيش إنما يرجع إلى كونه ما زال يقضي واجب الخدمة الوطنية، ولم يبق له سوى شهرين ليعود للحياة المدنية. لكن أحدهم لم يمهله حتى يشرح موقفه وبسرعة خاطفة اقترب منه مرر خنجره على رقبته فتدفقت الدماء فوارة غزيرة وسقط يحيى ميتا. لم تستطع الفتاة تحمل هذه المشهد الرهيب فسقطت مغشيا عليها. وبينما سيطر على الآخرين الذهول حمل أحد الجماعة الفتاة على كتفيه، واختفوا في الغابة المحاذية للطريق.
مرت بضعة أسابيع على هذه المأساة، عاشها الشامبيط معتزلا في بيته بين نوم ملؤه الكوابيس ويقظة لا يستسيغ فيها طعاما ولا يتحمل فيها أحدا.
في أحد الأيام خرج باكرا قاصدا مركز الدرك الوطني مصمما على استرجاع بندقيته التي كان قد سلمها لهم، شأنه شأن الكثير من الناس، استجابة لطلب السلطات الأمنية، عند بداية هذه المحنة، مخافة انتزاعها منهم من طرف الجماعات الإرهابية التي كانت تجوب القرى والمداشر ليلا بحثا عن الأسلحة.
آخر مرة زرت فيها القرية وجدت الشيخ عبد الحميد على رأس مجموعة من المقاومين الأشداء، أغلبهم كانوا ممن خاضوا حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي وكانوا شبابا، وها هم اليوم في شيخوختهم يضطرون إلى حمل السلاح من جديد ضد عدو داخلي هذه المرة. وقد تمكن هؤلاء المقاومون إلى جانب قوات الأمن من تصفية الجبال والأحراش المجاورة من جميع الجماعات الإرهابية التي عاثت فيها فسادا وألحقت بالبلاد والعباد أضرارا لن تمحى.
مدخل: هذه القصة المتخيلة بنيت على واقعة حقيقية حول جريمة اغتيال حقيقية وقعت فعلا وتناقلتها وسائل الإعلام عام 1994، ثم سرعان ما طواها النسيان شأنها شأن كل الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الإرهابيون الإسلاميون في الجزائر، ومع ذلك يصر حكامنا على مد يد المصالحة لهم دون مبرر. لعلني بنشر هذه القصة وقصص أخرى كتبتها في أزمنة الإرهاب، ضد النسيان، أساهم، ولو بقدر متواضع، في إبقاء ذاكرة شعبنا حية.
القصة: المجاهد يسترد بندقيته
كان من عادة الشيخ عبد الحميد أو الشامبيط، كما يسميه الناس في القرية منذ أن كان حارس غابات، أن يستلقي على حصيرة بعد أن يعود من مسجد القرية بعد أداء صلاة الظهر، ويستسلم لقيلولة تمتد، أحيانا، إلى وقت العصر، منذ أن تقاعد قبل عدة سنوات. لكن هذه المرة لم يقو على النوم. لقد انشغل باله بالتفكير في ابنه الوحيد الذي عاد، هذا الصباح الباكر، غاضبا، إلى العاصمة، حيث يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، بعد تخرجه من الجامعة طبيبا قبل حوالي عامين.
لقد مرت قرابة السنتين على التحاقه بالجيش لأداء هذا الواجب الوطني. شعر الشامبيط بغبطة تجتاح كل جسده، ومن حقه ذلك، إن ابنه أول طبيب في القرية، بل في البلدية والعرش كله. حتى أبناء الأسر الميسورة في الناحية لم ينالوا هذا الشرف. وابتسم ابتسامة ممزوجة بشيء من الاعتزاز والشماتة. هؤلاء الحساد تكاد الغيرة تقبض أرواحهم. كيف يعقل أن يتخرج ابن حارس الغابة الفقير طبيبا بينما توقف أبناء الذوات في منتصف الطريق؟
كان قلب الشيخ يعتصر، في هذه الشهور الأخيرة، كلما جاء ابنه من العاصمة وكلما عزم على العودة، بسبب هذه الأحوال الأمنية التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، رغم كل الاحتياطات التي كان يأخذها. فهو لا يرتدي اللباس العسكري وهو يتفادى حمل أي وثيقة تشي بانتمائه للجيش، ولو كان هذا الانتماء مؤقتا في إطار الخدمة الوطنية الإجبارية. لكن هذه المرة استبد بالشيخ قلق حاد ومزدوج مصدره ما حدث بينه وبين ابنه البارحة. كان الابن قد أسرّ إلى أمه، قبل شهر، أنه تعرف على فتاة في العاصمة، وهو ينوي الإقدام على خطبتها، وأوعز إلى أمه التكفل بالتمهيد للأمر قبل مفاتحة والده بعد عودته المقبلة.
وعندما عاد هذه المرة دار بينهما حديث ساخن عبر الأب من خلاله عن عدم رضاه تجاه مشروع ابنه. لقد جاء قرار ابنه مخالفا لكل حساباته وحسابات زوجته. كان قد قر قراره، منذ مدة طويلة، على مصاهرة إحدى العائلات الميسورة في القرية. ولم يكن يتوقع أبدا أن يقرر ابنه الزواج من بنت حضرية لا يعرف الناس هنا أصلها ولا فصلها. وعبثا حاول الابن إقناعه بحسن اختياره وبانتماء الفتاة إلى عائلة محترمة لا تشوبها شائبة، لكن الأب ظل مصرا على رأيه. أما الأم فقد كانت تتمنى لو يستقر ابنها في القرية مع زوجته القادمة، على أن يجد عملا له في إحدى مصحات أو مستشفيات البلدات القريبة إن أمكن. كيف لا وقد فرغ البيت عليها بعد أن تزوجت جميع البنات؟ فما أحوجهما إلى أحفاد يملئون عليهما هذا البيت صياحا وصخبا بعد أن صار يخيم عليه هدوء لا يطاق لم تتعود عليه أبدا. ثم أليس في القرية فتيات جديرات به؟ وهن متعودات على حياة القرية وعاداتها وخشونة الحياة بها. أما هذه المرأة الحضرية، وهي فوق ذلك من العاصمة البعيدة فسوف تجره، لا محالة، وراءها حيث أهلها. ماذا لو طاوعها فخطبت له إحدى بنات القرية، حسبا ونسبا وجمالا؟ وكانت المسألة بالنسبة إليها سهلة، فمن يتردد في مصاهرة ابنها الطبيب؟
وسرح خيال الشيخ في ماضيه البعيد. وكيف تم زواجه. كان عمره ست عشر سنة ونيف عندما أخبرته أمه بقرار تزويجه، وما هي إلا أيام معدودات حتى أخبرته بموعد زواجه، بعد أن كان الوالد قد بت في الأمر، واتفق مع والد العروس وقرئت الفاتحة وقررت الجماعة كل شيء. ولم يكن يملك أمام قرار والده إلا الإذعان، ولا يزال يتذكر كيف عاش أياما طويلة أخرى لا يجرؤ على رفع رأسه أمام والده وأعمامه حياء واحتراما، وكيف عاش أياما أخرى بعد الزواج يتحاشاهم، ولا يرتاح إلا بصحبة بعض أنداده من الفتيان، كما هي عادة العرسان حديثي العهد بالزواج يومئذ.
ثم قفزت به الذاكرة إلى اليوم الذي ولد فيه ابنه. ما أسرع ما تمر السنون. ها هو يرى نفسه، وكأنما حدث ذلك بالأمس فقط، كيف ظل جالسا خارج البيت، ينتظر زوجته وهي تلد للمرة السابعة، وهو فريسة للقلق واليأس والرجاء. لم يتأخر أبدا في التماس بركة ولي من الأولياء الصالحين مهما بعدت المسافات، ولا تأخرت زوجته عن زيارة مرابط (درويش) الناحية ولا تردد في تجرع نقيع أية عشبة من الأعشاب الطبية كلما سمع أحدهم يعدد له مزاياها، من أجل تحقيق رغبته في ولد، ولد واحد فقط قبل أن يتقدم به العمر أو تتوقف زوجته عن الإنجاب، أو يتخطفه الموت، ولد واحد يحمل اسمه فلا ينقطع ذكره بعد رحيله من هذه الدنيا، ويكون عونا له في آخر عمره، كما يكون صدرا رحيما وأخا كريما لأخواته الست، يلجأن إليه ويجدن البيت مفتوحا لهن في السراء والضراء.
ظل القلق يستبد به ويعصر قلبه عصرا، وشيء من اليأس ممزوج بالأمل رافقه طوال فترة الحمل. وها هو اليوم الموعود. لم يتوقف، منذ الصباح، عن الابتهال إلى الله وعيناه متعلقتان بالسماء، وأذناه تتسمعان وتتابعان الجلبة الدائرة في البيت، راجيا من الله أن يرزقه هذه المرة، ولدا ذكرا، بعد انتظار طويل ويأس نغص عليه حياته، بعد ست بنات جئن متتاليات. وأخيرا تناهت إلى سمعه زغرودة حادة طويلة لتطل عليه بعدها أمه تبشره بمولود ذكر.
انفتحت أساريره وغمرته فرحة لا تضاهى، وراح يحمد الله ويشكره بعد أن استجاب أخيرا إلى تضرعه.
كان ميلاد ابنه يحيى، هكذا سماه، تيمنا ودفعا لكل مكروه، كما جرت العادة، مناسبة عظيمة في القرية، كلف نفسه فيها فوق طاقتها، ذبح شاة وأقام وليمة دعا إليها جميع سكان القرية، شكرا لله.
وترعرع الفتى يحيى بين أخواته البنات، فكان محل دلال وعناية وتبجيل. ومع ذلك لم تفسد هذه العناية الزائدة الفتى، مثلما هو الشأن في كثيرة من هذه الحالات. كان الفتى محل رضا وإعجاب الجميع، أهلال وجيرانا ومعلمين ، طوال هذه السنين. كان يحيى ضمن الفوج الأول من فتيان وفتيات القرية الذين استقبلتهم أول مدرسة جديدة بالناحية بعد الاستقلال. وراح الفتى يجتاز المراحل التعليمية بتفوق، في القرية أولا، ثم في الدائرة حيث ارتاد مدرستها الإكمالية، ثم في عاصمة الولاية حيث تابع دراسته الثانوية بامتياز، ثم أخيرا في الجامعة. ولم يضن الوالد عليه بشيء لتمكينه من مواصلة تعليمه رغم فقره وتواضع دخله.
صحا الشامبيط من هذه الغيبوبة الطويلة وهو يشعر بألم حاد في جنبه لطول ما توكأ عليه فوق هذه الحصيرة الخشنة. ثم استغرق مرة أخرى في تأملاته. كان عليّ ألا أتركه يرجع إلى العاصمة غاضبا حتى قبل أن تنتهي عطلته. لست أدري؟ لعلني مخطئ في حقه. إن الزمان قد تبدل، وهو طبيب ومتعلم ومن حقه أن يكون له رأي في زواجه. بل من حقه أن يتزوج فتاة حضرية في مستوى تعليمه. وهنا شعر بالندم وبشيء من وخز الضمير وأحس أنه ارتكب ذنبا جراء أنانيته، وهم بمناداة زوجته ليفاتحها في الموضوع، وإذا بها تقتحم عليه الغرفة مرتاعة لتخبره أن سيارة الدرك الوطني متوقفة بمحاذاة الباب، وهم يريدونه لأمر يخصه.
شعر الشامبيط بشيء من الخوف. ماذا حدث؟ لماذا رجال الدرك يريدونني؟ لم يحدث أن ارتكبت مخالفة أو كان لي مع الدولة قضية، فأنا رجل أعيش دائما في وفاق مع القانون وفوق ذلك كله فأنا مجاهد قضيت سنين طويلة في صفوف الثورة التحريرية.
لقد تعودت القرية على زيارة هؤلاء الرجال، في الآونة الأخيرة، مع تدهور الأوضاع الأمنية والشكوك التي أصبحت تحوم حول بعض الأسر وبعض الشباب واحتمال تعاونهم مع الإرهابيين وتقديم العون المادي والإعلامي لهم. انتشرت الكثير من الشائعات حول اختفاء مجموعة من الناس، قيل إنهم التحقوا بالجبال أو أنهم اختطفوا في ظروف غامضة لعلاقتهم بالجماعات الإسلامية المسلحة.
الله يستر، قالها الشيخ، وفكر في ابنه، هل فعل شيئا ضد الدولة؟ مستحيل، صحيح أن ابنه متدين، يصلي ويصوم ويرتاد المسجد أحيانا، وخاصة لصلاة الجمعة، ولكنه بعيد عن السياسة وعن هذه الفتنة التي أطلت بقرونها على البلاد. إنه شاب مسالم مستقيم السلوك وفوق ذلك كله فهو متعلم وطبيب ولا يمكن أن يأتي منه ما يبرر مجيء رجال الدرك.
خرج الشيخ ورحب بالقادمين رغم شيء من الضيق. فلقد أصبح الناس، عموما، يتجنبون التعامل مع قوات الأمن، خاصة في المناطق المشبوهة، وكثيرا ما جرى اغتيال الناس لمجرد علاقات عادية بهم، تجارية أو مجرد صداقة قديمة مع أحدهم. بالنسبة للإرهابيين كان هؤلاء من جنس الطواغيت، وقد أفتوا بمقاطعتهم وعزلهم وحكموا بالموت على كل من يخترق هذه المقاطعة.
سلم الدركي برقية للشيخ عبد الحميد وهو يطلعه على فحواها. لقد قتل يحيى ابنك في حاجز أمني مزيف أقامته جماعة إرهابية. لم يتمالك الشامبيط نفسه، بعد أن نزلت كلمات الدركي عليه كالصاعقة، ولم تستطع ركبتاه حمل جسمه رغم هزاله، وخر جاثيا على ركبتيه في عتبه بيته. كانت الأم تتنصت وراء الباب وسمعت كل شيء، فانفجرت بكاء وصراخا وعويلا. وشيئا فشيئا تسامع ناس القرية بالخبر وراح البيت يمتلئ بالرجال والنساء والأقارب الذين هزهم هول المصيبة التي ألمت بعائلة الشيخ عبد الحميد.
لم ينتبه الشيخ إلى حاله إلا وهو ملقى على فراش في إحدى غرف البيت أعدت بسرعة لاستقبال رجال القرية، وقد كان أحدهم يشده شدا وهو لا يزال في غيبوبته. كانت اليد التي انتشلته من هذه الغيبوبة يد سي عيسى إمام مسجد القرية: يا شيخ عبد الحميد، اتق الله. وحّد الله، الله أعطى، الله أخذ. كل نفس ذائقة الموت ولو كنتم في بروج مسورة، الله حق والموت حق. المؤمن الصادق هو الذي يتقبل قضاء الله وقدره بنفس راضية صابرة، إنما المؤمنون الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. ابنك يحيى مات غدرا، مات مظلوما فهو شهيد يبعث، إن شاء الله، يوم القيامة، مع النبيين والصديقين.
استرسل الإمام في حديث مطول، مؤيدا كلامه بالآيات والأحاديث التي تناسب المقام، بينما ظل الشامبيط يحملق، بعيون فارغة، في الحاضرين الذين غصت بهم الغرفة دون أن يشعر بوجودهم، متى جاؤوا؟ كيف دخلوا؟ كيف جلسوا، لم يشعر بكل هذا ولم يأبه له. وعاد إلى شبه الغيبوبة التي كان فيها، إنه لا يعرف ما يقول ولا ما يفعل.
استفاق الشيخ عبد الحميد مرة أخرى بينما كان أحدهم يهزه هزا، فرفع رأسه وإذا برجل كهل غريب لم يسبق له أن رآه في القرية أو في مكان آخر، ينحني عليه ليعزيه في ابنه. قالوا له إنه سائق التاكسي التي استقلها يحيى للعودة إلى العاصمة. هل تريد أن تسأله؟ حملق الشيخ في وجه الرجل ولم يقل شيئا. بادر أحد الحاضرين بالسؤال عما جرى. شرح السائق، وهو يتلعثم من شدة التأثر، كيف أن حاجزا أمنيا أوقف سيارته مع مطلع الشمس، كان معه أربعة ركاب، يحيى الطبيب وأسرة مكونة من أب وأم وبنتهما. لقد اعتقدنا أنهم من رجال الأمن لأنهم كانوا يشبهونهم تماما من حيث اللباس والتسليح. لكنهم، على غير العادة، أنزلونا تحت تهديد بنادقهم ثم فتشونا وقيدونا وأخذوا كل ما عندنا من مال وأمتعة وأمروا الفتاة أن ترافقهم. راح الوالدان يتوسلان لهم ويبكيان ويستميتان في التشبث بابنتهما رغم ما كانا يتعرضان له من ركل ورفس وضرب مبرح بأعقاب بنادقهم. في هذه الأثناء خرجت مجموعة أخرى كانت متخفية بين الأشجار، بلباس مدني، وكان أغلبهم ملثمين. تقدم أحدهم من يحيى الطبيب وناداه باسمه، أهلا يحيى مازلت تزور والدك في القرية؟ وكيف حال الطاغوت الذي تنتمي إليه؟
وعبثا حاول الطبيب شرح موقفه لهم وكيف أن وجوده في صفوف الجيش إنما يرجع إلى كونه ما زال يقضي واجب الخدمة الوطنية، ولم يبق له سوى شهرين ليعود للحياة المدنية. لكن أحدهم لم يمهله حتى يشرح موقفه وبسرعة خاطفة اقترب منه مرر خنجره على رقبته فتدفقت الدماء فوارة غزيرة وسقط يحيى ميتا. لم تستطع الفتاة تحمل هذه المشهد الرهيب فسقطت مغشيا عليها. وبينما سيطر على الآخرين الذهول حمل أحد الجماعة الفتاة على كتفيه، واختفوا في الغابة المحاذية للطريق.
مرت بضعة أسابيع على هذه المأساة، عاشها الشامبيط معتزلا في بيته بين نوم ملؤه الكوابيس ويقظة لا يستسيغ فيها طعاما ولا يتحمل فيها أحدا.
في أحد الأيام خرج باكرا قاصدا مركز الدرك الوطني مصمما على استرجاع بندقيته التي كان قد سلمها لهم، شأنه شأن الكثير من الناس، استجابة لطلب السلطات الأمنية، عند بداية هذه المحنة، مخافة انتزاعها منهم من طرف الجماعات الإرهابية التي كانت تجوب القرى والمداشر ليلا بحثا عن الأسلحة.
آخر مرة زرت فيها القرية وجدت الشيخ عبد الحميد على رأس مجموعة من المقاومين الأشداء، أغلبهم كانوا ممن خاضوا حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي وكانوا شبابا، وها هم اليوم في شيخوختهم يضطرون إلى حمل السلاح من جديد ضد عدو داخلي هذه المرة. وقد تمكن هؤلاء المقاومون إلى جانب قوات الأمن من تصفية الجبال والأحراش المجاورة من جميع الجماعات الإرهابية التي عاثت فيها فسادا وألحقت بالبلاد والعباد أضرارا لن تمحى.