«وَاجِبُنَا تُجَاهَ إِخْوانِنَا في فلَسْطين»
لفضيلة الشيخ:
مُحمَّد بوسنَّة -حفظه الله-
خطبة ألقاها فضيلته عام 1429هـ
لتحميل المادّة الصّوتية: من هُنا
أو من المرفقات
التَّفريغ:
الخُطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أمّا بعد:
فإنّ أصدق الحديث كلامُ الله تعالى، وأحسن الهُدى هُدى محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمَّا بعد:
لقد روى ابنُ ماجة في سُننه عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبكِ وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفسُ محمد بيده لحُرمة المؤمن أعظمُ عند الله حُرمةً منكِ ماله ودمه).
وأخرج الترمذي عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المنبر فنادى بصوتٍ رفيع فقال: (يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفض الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين ولا تُعيّروهم ولا تبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله).
قال الترمذي: ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حُرمتك، والمؤمن أعظمُ حُرمةً عند الله منكِ).
عباد الله: إنَّ الواجبَ علينا إذا رأينا دماءَ المسلمين تُراقُ وأنفسَهُم تُقتَل وقلوبَهم تُروَّع أن نستعظمَ هذا الأمر ونستشعرَ عِظَمَ حُرمة دماء المسلمين وعظيم حقِّهم علينا.
أرأيتم لو أنّ أحدنا رأى من يُهدِّم الكعبة ويُريد خرابها والعبث بها كيف سنُعظِّم ذلك؟
الرسول –صلوات الله وسلامه عليه- يُقسم بالله فيقول: (والذي نفس محمد بيده لحُرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منكِ ماله ودمه).
فأوَّلُ واجبٍ علينا تُجاه ما يحدث لإخواننا في فلسطين وفي غزّة الأبيَّة: أن نُعظِّم حُرمة الدّماء المؤمنة الزكيّة الطّيّبة المتابعة لِسُنّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التي تسير على الإسلام وأن نتألم لمصيبتهم ونقول: هذه الدماء لها حُرمةٌ عظيمة في قلوبنا، ونحنُ لا نرضى واللهِ بأن تُراق قطرةُ دمٍ مؤمنةٍ بغير حقّ، فما بالكم بمثل هذه الوحشيَّة وبمثل تلك الهمجيَّة التي حصلت من هؤلاء الطغاة المعتدين المحتلِّين لهذه البلاد المقدّسة والأرض المقدّسة وما حولها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فلا ينبغي لأحدٍ أن يستهينَ بهذه الدماء وبحقِّها وبحُرمتها وبحُرمة كلّ مسلم أينما كان في هذه الدنيا.
ولا نرضى أن تَعتديَ عليهِ يدُ كافرٍ آثمة باغية معتدية ظالمة بمثل هذه الصورة أو حتى أقلّ منها.
من واجبنا عبادَ الله تُجاه ما يحدث لإخواننا المسلمين في فلسطين –ردّها الله إلى المسلمين وخلّصها من أيدي إخوان القردة والخنازير-: أن ننصرهم، وأن تكون نُصرتنا لهم بالوجه الشّرعيّ لا بالأمور المخالفة لشرع الله جلّ وعلا، فمن حقِّهم علينا أن ننصرهم بالدعاء لهم؛ ندعو لهم في الأسحار، ندعو لهم في السجود، ندعو لهم في القنوت في الصلوات، ننصر إخواننا بالدعاء في أحوال ذكرنا لله أن نتضرع إلى الله أن ينصر أهل الإسلام المستضعفين، ولقد صدق من قال:
أحلّ الكُفر بالإسلام ضيما *** يطول عليه للدين النحيب
نسأل الله أن يرفع عنهم هذه اليد الظالمة، وأن يُثبّتهم بالقول الحقّ، وينصرهم على عدوّنا وعدوّهم وعدوّ الله.
من واجبنا المحتّم علينا تُجاه إخواننا: أن ننتبه للذين يصطادون في الماء العكر ويَدْعون بدعواتٍ حماسيّةٍ عاطفيَّةٍ قد توقع أمّتنا في مزيدٍ من المشكلات؛ وأعظمها: أن نُلقيَ بأبنائنا وخيرة شبابنا طُعمةً لأعدائنا.
تعلمون عباد الله جميعا في سيرة رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لما كان في مكة وكان الكفار يسومون المسلمين سوء العذاب حتى كان الصَّحابة يطلبون من الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لهم بالقتال، فقد جاء في الحديث عن خباب بن الأرت –رضي الله عنه- قال: جئنا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بردة له في ظلّ الكعبة فشكونا له فقلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ -أي: ألا تطلب من الله أن ينصرنا؟- ألا تدعو الله لنا؟ قال –صلى الله عليه وسلم-: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيها فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين وما يصدّه ذلك عن دينه، ويُمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فبقي الرسول –صلى الله عليه وسلم- على هذا الحال في مكة صابرًا حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة فمكث بها سنتين ثم نزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
فكان الإذن بالقتال، ثم جاء بعدها قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
ثم نزل بعدها قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
ثم نزل قوله سبحانه: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِاليَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآيات.
فانظروا -رحمكم الله-: لم يكن الأمر المباشر بالجهاد إلا بعد ستّ عشرة سنة أو سبع عشرة من بداية البعثة، فإذا كان زمن دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم- ثلاثا وعشرين سنة بأن منها سبع عشرة سنة أُمر بالصبر؛ فما بالنا نستعجل؟
فنقول لإخواننا: اصبروا ولا تستعجلوا وتثيروا المشكلة فتُحوّلوا القضيَّة من الصبر والاحتمال إلى مواجهةٍ يُراق فيها مزيد من الدماء.
لقد بلغ عدد القتلى والجرحى حجمًا كبيرًا، فكيف تهونُ عباد الله علينا هذه الدماء، أين نحن من الصبر؟! أين نحن من التّحمّل؟!
عباد الله: إن الصبر عبادة، كما أن الجهاد عبادة، بل الصبر قال الله فيه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، الله عز وجل تعبَّدنا بالصَّبر في وقت الضعف.
فالواجبُ علينا: أن لا تجرّنا العواطف والحماس إلى الاندفاع وعدم الصّبر والّتحمّل.
قد يقول قائل: وإلى متى الصبر؟
فأقول: رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صبر صبرا طويلا على أذى قريش وعلى أذى الكفار؛ حتى أنه –صلى الله عليه وسلم- ترك مكة وهي أحبُّ البلاد إليه وإلى الله، والمسلمون صبروا معه طيلة تلك السنوات، فلماذا نغفل جانب الصبر ونستعجل الأمور.
إذا كان النبي–صلى الله عليه وسلم- أشْفق على أمته في الصلاة وهي الركن الثاني من أركان الإسلام فقال لمعاذ: (أفتّان أنت يا معاذ) من أجل أنه أطال في الصلاة، فما بالكم في الذين يتسبّبون بالعاطفة والحماس فيجرّوا الناس إلى إراقة الدماء وإلى مواجهاتٍ لا يملكون فيها حتى عُشر ما يُؤهّلهم للمواجهة، أفلا يصحّ أن يُقال: أتفتنون الناس بهذه المواجهة ولمَّا يقدروا بعدُ عليها.
وأيضا: الرسول –صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب بعد شهرٍ من الحصار ماذا صنع الرسول -صلوات ربي وسلامه عليه-؟ أرسل إلى غطفان يقول لهم: (أنا أعطيكم شطر تمر المدينة من أجل ألا تُساعدوا الكفار علينا) فقال –صلى الله عليه وسلم- لزعماء الأنصار: ترَوْن ما بلغ به حال الناس من الشدة والمشقة، ما هان عليه –صلى الله عليه وسلم- تعب الناس ولا مشقّتهم بأبي هو وأمي –صلوات ربي وسلامه عليه-.
فقال زعماء الأنصار: (يا رسول الله والله ما أكلوها ونحن في الجاهلية أفيأكلوها منا في الإسلام؟ لا، نحن نصبر)، ولما صبروا وتابعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضوا بما رضي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءهم النصر من جهة لا يعلمونها؛ جاءهم النصر من عند الله فجاءت الريح وجاء المطر وجاءت الملائكة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾.
فرسولنا –صلى الله عليه وسلم- لم يرض أن يقود أصحابه إلى مواجهةٍ ليس لهم بها طاقة ولا قدرة، فهل نحن أكثر إيمانا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ هل نحن أكثر دينا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ وهل نحن أكثر حبا لله ولدينه من الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟
فالله الله، لا يجرّنّكم أحد بعاطفة أو بحماس فيقلب عليكم الحقائق، والله المستعان، وعليه التكلان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإننا نسمع من حينٍ إلى آخر دعواتٍ تنادي بالجهاد مستدلين بقوله –صلى الله عليه وسلم-: (إذا تبايعتم بالعينة) يعني إذا تعاملتم بالربا (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى يترجعوا إلى دينكم).
فصدق النبي –صلى الله عليه وسلم-، ما تسلّط علينا أعداؤنا وما أهانونا وما ذلّونا إلا بعدما تركنا فريضةَ الجهاد، هذا ما يقوله هؤلاء، وهذا كلامٌ فيه حقّ ولا شكّ، ولكنْ فيه أيضا إغفالٌ عن جوانبَ كثيرة من هذا الدِّين؛ بسبب هذا الإغفال سلَّط الله علينا هذا الذّلّ ولن يرفعه عنّا حتى نعود إلى ديننا الحق، نعود إلى الدين الذي جاء به نبينا –صلوات الله وسلامه عليه-، نعود إلى هذا الدين عودة صادقة مخلصة، وليست مجرد شعارات وهتافات وحماسات، تُخالِف ما نحن عليه اليوم من مخالفات في جميع الميادين؛ في العقيدة، في العبادة، في المعاملات؛ وفي الأمور كلها.
نعم عباد الله؛ الجهاد من الدّين ولا يُنكر ذلك إلا جاهل أو مكابر أو معاند، ولكن أي جهاد ندعو إليه؟ إنه الجهاد السُّنّيّ المشروع الذي هو ذروة سنام الإسلام وأعلاه ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الذّروة العليا منه؛ فجاهد في الله حقّ جهاده، جاهد بقلبه ولسانه، جاهد بدعوته وبيانه، جاهد بسيفه وسنانه، فكان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم قدرا.
لكن هذا الجهاد يجب أنْ يُؤدّى كما شرعه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم-، فلا نخرج عن طريقه الواضحة ونتبع أهواءنا واجتهاداتنا القاصرة من أجل ظُلمٍ رأيناه وجور لمسناه أو حقّ سُلب منا، بل يلزم علينا أن نجتمع ونُذعن ونُسلِّم للحق.
وَليكن نصب أعيننا أنَّ النصر لن نظفر به إلا أن ننصر دينَ الله نصرا حقيقيا، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
وقال سبحانه: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
إذا أردنا عباد الله عِزّة الله حقاّ فلا بدّ أن نسير في جهادنا على سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن نعتقد أن النصر بيد الله ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
والجهاد الشرعي له ضوابطه، ونقولها بكلّ صراحة: إنَّ ضوابطَ الجهاد ليست متوفّرة فينا اليوم، فالآن لا قدرة لنا على المواجهة و ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، فإذا كان عيسى –عليه الصلاة والسلام- سيحكم في آخر الزمان بشريعة محمد –صلى الله عليه وسلم- وعيسى نبيُّ الله ومعه المؤمنون يوحي إليه الله تعالى أن اصعد بعبادي إلى جبل الطور فإنِّي أخرجتُ أقوامًا أو عبادًا لا يُدان لكم بهم، يعني: لا طاقة ولا قدرة لكم بهم، وهم يأجوج ومأجوج.
إنَّ اكتساح يأجوج ومأجوج لمنطقة الشام وما حولها وهم من بني آدم هم مثل اكتساح أهل الكفر والباطل لمنطقة من مناطق الإسلام؛ فجهادهم من باب جهاد الدفع؛ ومع ذلك الله عز وجل يوحي إلى عيسى أن اصعد بعبادي إلى جبل الطور فإني أخرجت عبادا لا يُدان لكم بهم.
فما قال الله له: اذهب لمواجتهم، ما قال الله له: كيف تتركهم يستولون على البلاد والعباد، ولكن قال له: (اصعد بعبادي إلى جبل الطور) هذا حكم الله.
إذن: حتى في جهاد دفع الكفار والمعتدين لا بدّ أن ننظر إلى القدرة، وإلا لو كانت المسألة مواجهة على أيّ صورة كانت وعلى أيّ حال فما معنى أن يُشرّع الله الصّلح والهدنة والعهد بيننا وبين الكفار، ألم يقل ربنا تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.
ولذلك عباد الله: لا نستغرب إذا سمعنا أنَّ الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- أفتى -وله الحق في الفتوى- أفتى بجواز الصّلح مع اليهود وإن كانوا مَستَوْلين على هذه الجهات في فلسطين، ولماذا أفتى بذلك؟ حقنا لدماء الناس، وحفظا لأملاكهم وأرواحهم، مع أخذ الاستعداد اللازم لإعداد العُدّة للجهاد، وإعداد العُدّة للجهاد أمر يبدأ أول ما يبدأ بالإعداد الإيمانيّ المعنويّ ثمَّ بالأمر الماديّ الحسّيّ.
إذن؛ علينا عباد الله تُجاه إخواننا في غزة وفي فلسطين جميعًا: أن ننصرهم بما نقدر عليه من الدعاء لهم، وأنْ نتعبَّد الله سبحانه بتذكير أنفسنا وتذكير إخواننا بالصبر كما ذكّر الله عبده ونبيه محمدا –صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، فإنَّ الصَّبر هو السّياسة الحكيمة الرّشيدة الحميدة في مثل هذه الأحوال، والصبر والتحمل وعدم الاستعجال تُحَلّ به -إن شاء الله- الأزمات.
ومن واجبنا أيضا: أن نُقدّم الدعم المادي لإخواننا من أموالٍ وأدويةٍ وغذاءٍ ولباسٍ وغير ذلك مما يحتاجونه إخواننا هناك حاجة شديدة، وحبّذا لو كان هذا الدعم الماديّ يمرُّ عن طريق الجهات الرسمية التي هي من جهات ولاّة الأمور، فهبّوا أيها الناس بأموالكم وما تستطيعون إلى مساعدة إخوانكم، ولا تُعطي يا عبد الله مساعدتك وتبرّعاتك إلا للجهات الرسميَّة حتى نضمن -إن شاء الله تعالى- وصولها إلى جهاتها.
هذا ما يُمكن قوله فيما يجب علينا أمام هذه النَّازلة التي ألمَّت بإخواننا في غزة.
وأسأل الله تعالى أن ينصرهم، وأن يُثبِّت أقدامهم، وأن يرفع عنهم ما هم فيه.
وأسأله سبحانه وتعالى بأنه منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب أن يُريَنا عجائبَ قدرته في هؤلاء الصهاينة المعتدين الغاصبين الظالمين الغاشمين.
اللهم أحصهم عددا، واقتلهم مددا، ولا تبق منهم أحدا.
اللهم اجعل بأسهم بينهم شديدا، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم يا ربّ العالمين.
وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ.
فرَّغه:/ أبو عبد الرحمن أسامة
04 / من ذي القعدة / 1438هـ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
نقلا عن منتديات التصفية و التربية السلفية.
لفضيلة الشيخ:
مُحمَّد بوسنَّة -حفظه الله-
خطبة ألقاها فضيلته عام 1429هـ
لتحميل المادّة الصّوتية: من هُنا
أو من المرفقات
التَّفريغ:
الخُطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أمّا بعد:
فإنّ أصدق الحديث كلامُ الله تعالى، وأحسن الهُدى هُدى محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمَّا بعد:
لقد روى ابنُ ماجة في سُننه عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبكِ وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفسُ محمد بيده لحُرمة المؤمن أعظمُ عند الله حُرمةً منكِ ماله ودمه).
وأخرج الترمذي عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المنبر فنادى بصوتٍ رفيع فقال: (يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفض الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين ولا تُعيّروهم ولا تبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله).
قال الترمذي: ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حُرمتك، والمؤمن أعظمُ حُرمةً عند الله منكِ).
عباد الله: إنَّ الواجبَ علينا إذا رأينا دماءَ المسلمين تُراقُ وأنفسَهُم تُقتَل وقلوبَهم تُروَّع أن نستعظمَ هذا الأمر ونستشعرَ عِظَمَ حُرمة دماء المسلمين وعظيم حقِّهم علينا.
أرأيتم لو أنّ أحدنا رأى من يُهدِّم الكعبة ويُريد خرابها والعبث بها كيف سنُعظِّم ذلك؟
الرسول –صلوات الله وسلامه عليه- يُقسم بالله فيقول: (والذي نفس محمد بيده لحُرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منكِ ماله ودمه).
فأوَّلُ واجبٍ علينا تُجاه ما يحدث لإخواننا في فلسطين وفي غزّة الأبيَّة: أن نُعظِّم حُرمة الدّماء المؤمنة الزكيّة الطّيّبة المتابعة لِسُنّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التي تسير على الإسلام وأن نتألم لمصيبتهم ونقول: هذه الدماء لها حُرمةٌ عظيمة في قلوبنا، ونحنُ لا نرضى واللهِ بأن تُراق قطرةُ دمٍ مؤمنةٍ بغير حقّ، فما بالكم بمثل هذه الوحشيَّة وبمثل تلك الهمجيَّة التي حصلت من هؤلاء الطغاة المعتدين المحتلِّين لهذه البلاد المقدّسة والأرض المقدّسة وما حولها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فلا ينبغي لأحدٍ أن يستهينَ بهذه الدماء وبحقِّها وبحُرمتها وبحُرمة كلّ مسلم أينما كان في هذه الدنيا.
ولا نرضى أن تَعتديَ عليهِ يدُ كافرٍ آثمة باغية معتدية ظالمة بمثل هذه الصورة أو حتى أقلّ منها.
من واجبنا عبادَ الله تُجاه ما يحدث لإخواننا المسلمين في فلسطين –ردّها الله إلى المسلمين وخلّصها من أيدي إخوان القردة والخنازير-: أن ننصرهم، وأن تكون نُصرتنا لهم بالوجه الشّرعيّ لا بالأمور المخالفة لشرع الله جلّ وعلا، فمن حقِّهم علينا أن ننصرهم بالدعاء لهم؛ ندعو لهم في الأسحار، ندعو لهم في السجود، ندعو لهم في القنوت في الصلوات، ننصر إخواننا بالدعاء في أحوال ذكرنا لله أن نتضرع إلى الله أن ينصر أهل الإسلام المستضعفين، ولقد صدق من قال:
أحلّ الكُفر بالإسلام ضيما *** يطول عليه للدين النحيب
نسأل الله أن يرفع عنهم هذه اليد الظالمة، وأن يُثبّتهم بالقول الحقّ، وينصرهم على عدوّنا وعدوّهم وعدوّ الله.
من واجبنا المحتّم علينا تُجاه إخواننا: أن ننتبه للذين يصطادون في الماء العكر ويَدْعون بدعواتٍ حماسيّةٍ عاطفيَّةٍ قد توقع أمّتنا في مزيدٍ من المشكلات؛ وأعظمها: أن نُلقيَ بأبنائنا وخيرة شبابنا طُعمةً لأعدائنا.
تعلمون عباد الله جميعا في سيرة رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لما كان في مكة وكان الكفار يسومون المسلمين سوء العذاب حتى كان الصَّحابة يطلبون من الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لهم بالقتال، فقد جاء في الحديث عن خباب بن الأرت –رضي الله عنه- قال: جئنا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بردة له في ظلّ الكعبة فشكونا له فقلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ -أي: ألا تطلب من الله أن ينصرنا؟- ألا تدعو الله لنا؟ قال –صلى الله عليه وسلم-: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيها فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين وما يصدّه ذلك عن دينه، ويُمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فبقي الرسول –صلى الله عليه وسلم- على هذا الحال في مكة صابرًا حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة فمكث بها سنتين ثم نزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
فكان الإذن بالقتال، ثم جاء بعدها قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
ثم نزل بعدها قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
ثم نزل قوله سبحانه: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِاليَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآيات.
فانظروا -رحمكم الله-: لم يكن الأمر المباشر بالجهاد إلا بعد ستّ عشرة سنة أو سبع عشرة من بداية البعثة، فإذا كان زمن دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم- ثلاثا وعشرين سنة بأن منها سبع عشرة سنة أُمر بالصبر؛ فما بالنا نستعجل؟
فنقول لإخواننا: اصبروا ولا تستعجلوا وتثيروا المشكلة فتُحوّلوا القضيَّة من الصبر والاحتمال إلى مواجهةٍ يُراق فيها مزيد من الدماء.
لقد بلغ عدد القتلى والجرحى حجمًا كبيرًا، فكيف تهونُ عباد الله علينا هذه الدماء، أين نحن من الصبر؟! أين نحن من التّحمّل؟!
عباد الله: إن الصبر عبادة، كما أن الجهاد عبادة، بل الصبر قال الله فيه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، الله عز وجل تعبَّدنا بالصَّبر في وقت الضعف.
فالواجبُ علينا: أن لا تجرّنا العواطف والحماس إلى الاندفاع وعدم الصّبر والّتحمّل.
قد يقول قائل: وإلى متى الصبر؟
فأقول: رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صبر صبرا طويلا على أذى قريش وعلى أذى الكفار؛ حتى أنه –صلى الله عليه وسلم- ترك مكة وهي أحبُّ البلاد إليه وإلى الله، والمسلمون صبروا معه طيلة تلك السنوات، فلماذا نغفل جانب الصبر ونستعجل الأمور.
إذا كان النبي–صلى الله عليه وسلم- أشْفق على أمته في الصلاة وهي الركن الثاني من أركان الإسلام فقال لمعاذ: (أفتّان أنت يا معاذ) من أجل أنه أطال في الصلاة، فما بالكم في الذين يتسبّبون بالعاطفة والحماس فيجرّوا الناس إلى إراقة الدماء وإلى مواجهاتٍ لا يملكون فيها حتى عُشر ما يُؤهّلهم للمواجهة، أفلا يصحّ أن يُقال: أتفتنون الناس بهذه المواجهة ولمَّا يقدروا بعدُ عليها.
وأيضا: الرسول –صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب بعد شهرٍ من الحصار ماذا صنع الرسول -صلوات ربي وسلامه عليه-؟ أرسل إلى غطفان يقول لهم: (أنا أعطيكم شطر تمر المدينة من أجل ألا تُساعدوا الكفار علينا) فقال –صلى الله عليه وسلم- لزعماء الأنصار: ترَوْن ما بلغ به حال الناس من الشدة والمشقة، ما هان عليه –صلى الله عليه وسلم- تعب الناس ولا مشقّتهم بأبي هو وأمي –صلوات ربي وسلامه عليه-.
فقال زعماء الأنصار: (يا رسول الله والله ما أكلوها ونحن في الجاهلية أفيأكلوها منا في الإسلام؟ لا، نحن نصبر)، ولما صبروا وتابعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضوا بما رضي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءهم النصر من جهة لا يعلمونها؛ جاءهم النصر من عند الله فجاءت الريح وجاء المطر وجاءت الملائكة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾.
فرسولنا –صلى الله عليه وسلم- لم يرض أن يقود أصحابه إلى مواجهةٍ ليس لهم بها طاقة ولا قدرة، فهل نحن أكثر إيمانا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ هل نحن أكثر دينا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ وهل نحن أكثر حبا لله ولدينه من الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟
فالله الله، لا يجرّنّكم أحد بعاطفة أو بحماس فيقلب عليكم الحقائق، والله المستعان، وعليه التكلان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإننا نسمع من حينٍ إلى آخر دعواتٍ تنادي بالجهاد مستدلين بقوله –صلى الله عليه وسلم-: (إذا تبايعتم بالعينة) يعني إذا تعاملتم بالربا (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى يترجعوا إلى دينكم).
فصدق النبي –صلى الله عليه وسلم-، ما تسلّط علينا أعداؤنا وما أهانونا وما ذلّونا إلا بعدما تركنا فريضةَ الجهاد، هذا ما يقوله هؤلاء، وهذا كلامٌ فيه حقّ ولا شكّ، ولكنْ فيه أيضا إغفالٌ عن جوانبَ كثيرة من هذا الدِّين؛ بسبب هذا الإغفال سلَّط الله علينا هذا الذّلّ ولن يرفعه عنّا حتى نعود إلى ديننا الحق، نعود إلى الدين الذي جاء به نبينا –صلوات الله وسلامه عليه-، نعود إلى هذا الدين عودة صادقة مخلصة، وليست مجرد شعارات وهتافات وحماسات، تُخالِف ما نحن عليه اليوم من مخالفات في جميع الميادين؛ في العقيدة، في العبادة، في المعاملات؛ وفي الأمور كلها.
نعم عباد الله؛ الجهاد من الدّين ولا يُنكر ذلك إلا جاهل أو مكابر أو معاند، ولكن أي جهاد ندعو إليه؟ إنه الجهاد السُّنّيّ المشروع الذي هو ذروة سنام الإسلام وأعلاه ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الذّروة العليا منه؛ فجاهد في الله حقّ جهاده، جاهد بقلبه ولسانه، جاهد بدعوته وبيانه، جاهد بسيفه وسنانه، فكان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم قدرا.
لكن هذا الجهاد يجب أنْ يُؤدّى كما شرعه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم-، فلا نخرج عن طريقه الواضحة ونتبع أهواءنا واجتهاداتنا القاصرة من أجل ظُلمٍ رأيناه وجور لمسناه أو حقّ سُلب منا، بل يلزم علينا أن نجتمع ونُذعن ونُسلِّم للحق.
وَليكن نصب أعيننا أنَّ النصر لن نظفر به إلا أن ننصر دينَ الله نصرا حقيقيا، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
وقال سبحانه: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
إذا أردنا عباد الله عِزّة الله حقاّ فلا بدّ أن نسير في جهادنا على سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن نعتقد أن النصر بيد الله ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
والجهاد الشرعي له ضوابطه، ونقولها بكلّ صراحة: إنَّ ضوابطَ الجهاد ليست متوفّرة فينا اليوم، فالآن لا قدرة لنا على المواجهة و ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، فإذا كان عيسى –عليه الصلاة والسلام- سيحكم في آخر الزمان بشريعة محمد –صلى الله عليه وسلم- وعيسى نبيُّ الله ومعه المؤمنون يوحي إليه الله تعالى أن اصعد بعبادي إلى جبل الطور فإنِّي أخرجتُ أقوامًا أو عبادًا لا يُدان لكم بهم، يعني: لا طاقة ولا قدرة لكم بهم، وهم يأجوج ومأجوج.
إنَّ اكتساح يأجوج ومأجوج لمنطقة الشام وما حولها وهم من بني آدم هم مثل اكتساح أهل الكفر والباطل لمنطقة من مناطق الإسلام؛ فجهادهم من باب جهاد الدفع؛ ومع ذلك الله عز وجل يوحي إلى عيسى أن اصعد بعبادي إلى جبل الطور فإني أخرجت عبادا لا يُدان لكم بهم.
فما قال الله له: اذهب لمواجتهم، ما قال الله له: كيف تتركهم يستولون على البلاد والعباد، ولكن قال له: (اصعد بعبادي إلى جبل الطور) هذا حكم الله.
إذن: حتى في جهاد دفع الكفار والمعتدين لا بدّ أن ننظر إلى القدرة، وإلا لو كانت المسألة مواجهة على أيّ صورة كانت وعلى أيّ حال فما معنى أن يُشرّع الله الصّلح والهدنة والعهد بيننا وبين الكفار، ألم يقل ربنا تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.
ولذلك عباد الله: لا نستغرب إذا سمعنا أنَّ الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- أفتى -وله الحق في الفتوى- أفتى بجواز الصّلح مع اليهود وإن كانوا مَستَوْلين على هذه الجهات في فلسطين، ولماذا أفتى بذلك؟ حقنا لدماء الناس، وحفظا لأملاكهم وأرواحهم، مع أخذ الاستعداد اللازم لإعداد العُدّة للجهاد، وإعداد العُدّة للجهاد أمر يبدأ أول ما يبدأ بالإعداد الإيمانيّ المعنويّ ثمَّ بالأمر الماديّ الحسّيّ.
إذن؛ علينا عباد الله تُجاه إخواننا في غزة وفي فلسطين جميعًا: أن ننصرهم بما نقدر عليه من الدعاء لهم، وأنْ نتعبَّد الله سبحانه بتذكير أنفسنا وتذكير إخواننا بالصبر كما ذكّر الله عبده ونبيه محمدا –صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، فإنَّ الصَّبر هو السّياسة الحكيمة الرّشيدة الحميدة في مثل هذه الأحوال، والصبر والتحمل وعدم الاستعجال تُحَلّ به -إن شاء الله- الأزمات.
ومن واجبنا أيضا: أن نُقدّم الدعم المادي لإخواننا من أموالٍ وأدويةٍ وغذاءٍ ولباسٍ وغير ذلك مما يحتاجونه إخواننا هناك حاجة شديدة، وحبّذا لو كان هذا الدعم الماديّ يمرُّ عن طريق الجهات الرسمية التي هي من جهات ولاّة الأمور، فهبّوا أيها الناس بأموالكم وما تستطيعون إلى مساعدة إخوانكم، ولا تُعطي يا عبد الله مساعدتك وتبرّعاتك إلا للجهات الرسميَّة حتى نضمن -إن شاء الله تعالى- وصولها إلى جهاتها.
هذا ما يُمكن قوله فيما يجب علينا أمام هذه النَّازلة التي ألمَّت بإخواننا في غزة.
وأسأل الله تعالى أن ينصرهم، وأن يُثبِّت أقدامهم، وأن يرفع عنهم ما هم فيه.
وأسأله سبحانه وتعالى بأنه منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب أن يُريَنا عجائبَ قدرته في هؤلاء الصهاينة المعتدين الغاصبين الظالمين الغاشمين.
اللهم أحصهم عددا، واقتلهم مددا، ولا تبق منهم أحدا.
اللهم اجعل بأسهم بينهم شديدا، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم يا ربّ العالمين.
وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ.
فرَّغه:/ أبو عبد الرحمن أسامة
04 / من ذي القعدة / 1438هـ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
نقلا عن منتديات التصفية و التربية السلفية.
آخر تعديل: