بيت الله الحرام ومعالم التوحيد
إنَّ بيت الله الحرام بيتٌ مبارك ببركة الله تعالى له، وهو محفوظ بحفظ الله تعالى له على مرِّ الدُّهور والعصور، وهو حرم آمن مطمئنٌّ يجبى إليه ثمر كل شيء بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم له، وهو بيت تطير إليه أفئدة أهل الإيمان وتهوي إليه وتشتاق إلى رؤيته، وجعل الله فيه سرًّا عجيبًا جاذبًا للقلوب، فهي تحجُّه ولا تقضي منه وطرًا على الدَّوام، بل كلَّما أكثر العبد التَّردُّد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه به، وتاقت نفسه للتنعُّم بقُرْبه والتَّقلُّبِ في أكنافه والبكاءِ على أعتابه والدُّعاءِ عند بابه، وذرفَت عيناه عند ذكره؛ كما خصَّ الله تعالى هذا البيت الذي أضافه إلى نفسه المقدسة بأنواع من المزايا والألطاف من تأمَّلها وأجالَ الفكر فيها جرَّه ذلك إلى القطع بصحَّة هذا الدِّين دين التَّوحيد والحنيفيَّة السَّمحة والإسلام لله ربِّ العالمين وحده لا شريك له، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران:96-97].
فلم يشرع الله تعالى لعباده أن يتوجَّهوا في صلاتهم إلَّا إليه فهو القبلة الَّتي ارتضاها لهم، كما لم يأذن الله تعالى في الطَّواف بمكان في الأرض سواه(1)، ولم يشرع استلام حجر من الأحجار إلَّا الركنين اليمانيين، ولا تقبيل حجر من الأحجار إلَّا الحجر الأسود، ولا التزام جدار من الجدران إلَّا جهة الملتزم منه وهو ما بين الركن والباب، كما شرعت الصَّلاة عنده والتَّوجُّه إليه والاعتكاف بفنائه ومجاورته، والأجر فيه مضاعف، إذ الصَّلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد، ومن أعظم ما ميَّز الله تعالى به هذا البيت أن جعلَ الرُّكن الخامس في الإسلام وهو الحجُّ لا يتمُّ إلَّا بقصده والسَّفر إليه وجعل الطَّواف به ركنًا من أركان الحجِّ ولا يتمُّ إلَّا به، فيطوف به الحاج عند القدوم، وعند الوداع، ويوم النَّحر ـ يوم الحجِّ الأكبر ـ طواف الإفاضة أو الزيارة.
كلّ ذلك يدلُّك على عظم شأن هذا البيت الَّذي لم يأمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم عليه السلام ببنائه إلَّا لإقامة التَّوحيد وقطع دابر الشِّرك قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود﴾ [الحج:26]، ولم يشرع للحاج أن يأتيه إلَّا مستهلًّا ورافعًا صوتَه بالتَّلبية الَّتي تضمَّنت التَّوحيد الخالص الصَّريح بقوله: «لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك» على عكس المشركين الَّذين كانوا يُهلّون في إحرامهم بالحجِّ بالشِّرك والتَّنديد، فكانوا يقولون في تلبيتهم: «لبَّيك لا شريك لك إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك»؛ فعلى الملبِّي أن يستشعر ما دلَّت عليه كلمات التَّلبية(2) من وجوب إفراد الله وحده بالعبادة والبعدِ عن الشِّرك، وليعلم أنَّه كما طولب أن يقصِد في حجِّه اللهَ وحدَه، فهو مطالب أيضًا أن يستصحب هذا القصد في كلِّ عبادة وقربة وطاعة، فلا يسألُ إلَّا الله، ولا يستغيث إلَّا بالله، ولا يتوكَّل إلَّا على الله، ولا يطلب المددَ والعونَ والنَّصرَ إلَّا من الله، فمن صَرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد أشرك، ومن أشرك حبط عمله وخسر خسرانا مبينًا.
ولا ريب أن السَّفر إلى بيت الله الحرام للحجِّ له آثار جميلة وفوائد عديدة قد لا يحصيها العاد، قال الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج:27-28] منافعُ دينيةٌ أخروية من العبادات الفاضلة والطَّاعات الجليلة الَّتي لا تحصل إلَّا لمن كان حاجًّا عند بيت الله الحرام، ومنافعُ دنيويةٌ مادِّيَّة من التَّكسُّب والتِّجارة والتَّعارف والملاقاة؛ إلَّا أن أعظم منفعة للمسلم هي الثواب أو الجائزة الَّتي يظفر بها بعد حجِّه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(3)، وفي البخاري (1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الجَنَّة».
ولمَّا كانت مناسكُ الحجِّ وأفعالُه تعبديَّة توقيفيَّة لا مجال للعقل فيها، لم يحسُن بالمسلم الحاجِّ الرَّاجي ثوابَ ربِّه عزَّ وجل إلَّا تجريد الإخلاص ومتابعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في كيفيَّة حجِّه، خاصَّةً وأنَّه صلى الله عليه وسلم قد رسم في حجّته لأُمَّته ـ عمليًّا ـ كيفيَّة أداء هذه الفريضةِ العظيمةِ، وحثَّ على تلقِّي كلَّ ما يصدر منه من أعمالٍ وأقوالٍ، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(4).
وقد فهم الصَّحابة صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وعلموه وعملوا به فأطاعوا الله واتَّبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوجز ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كلمته الشهيرة لمَّا جَاءَ إِلى الحجَرِ الأَسْود فَقَبَّلَهُ؛ قَالَ: «إنّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»(5) فعاشت الأمَّة في زمنها الأوَّل رَدحا من الدَّهر على هذا الاعتقاد الصافي، لا تعبد أحجار بيت الله الحرام فضلًا عن غيرها من الأحجار، وإنَّما تعبد ربَّ هذا البيت الَّذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ومعالم التَّوحيد فيها فاشية، ومظاهر الشرك لم تعد بادية، إلى أن بُليت الأمَّة بطوائف من المنتسبين إلى الإسلام استبدلوا الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير وتركوا هدي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وخرقوا جَناب التَّوحيد بمعاول زيفِهم وباطلهم، بتقديسهم الأشخاص وتعظيمهم المشايخ والصَّالحين والأموات، فشيَّدوا القباب والأضرحة، وبنوا المساجد والمشاهد على القبور، وعلقوا عليها الستور، وأوقدوا عندها القناديل والسُّرج والشموع، وبالغوا في تعظيمها، فطافوا حول تلك القبور وتمسَّحوا بها، وتبرَّكوا بترابها واستلموا جدرانها وأركانها، وعفّروا وجوههم عند عَتباتها، ورفعوا أكفَّ الدُّعاء والضَّراعة والاستغاثة عند أبوابها، يرجون عندها إجابةَ الدَّعوات، ونزولَ البركات، وقضاءَ الحاجات، وتفريجَ الكُربات، ويتقربون إليها بأنواع القُربات من النُّذور والذبائح والصَّدقات، فشدُّوا إليها الرِّحال، ولازموها بالوصال، وأدرُّوا عليها بالأموال، وجعلوا لها مواسم يحجُّون فيها إليها كما يحجُّ الناس إلى بيت الله الحرام، وأحدثوا عندها طقوسًا غريبة، وشعائر عجيبة تمجُّها نفوس ذوي الحسِّ الرَّشيد والعقل السديد من تمايل ورقص ولطم وأنين وصراخ وعويل في سلسلة طويلة من المنكرات المحدثات المستبشعات التي هي من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن، ويحسبون بعد هذا كلِّه أنَّ أفعالهم هذه من أعظم أعمال البرِّ والدِّين، وواللهِ الذي لا إله إلا هو ما أُتِيَ هؤلاء إلَّا من جهة جهلِهم العظيم بحقيقة شريعة الإسلام، وما بعث الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم من تحقيق التَّوحيد وقطع أسباب الشِّرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وما أُحدثَ في الإسلام من المساجد والمشاهد على القُبور والآثار فهو من البدع المحدَثة في الإسلام من فعلِ من لم يعرف شريعةَ الإسلام، وما بَعث الله به محمَّدًا من كمال التَّوحيد وإخلاص الدِّين لله، وسدِّ أبواب الشِّرك الَّتي يفتحها الشَّيطان لبني آدم؛ ولهذا يوجد مَن كان أبعدَ عن التَّوحيد وإخلاص الدِّين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيمًا لمواضع الشِّرك؛ فالعارفون بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتَّوحيد وإخلاص الدِّين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشِّرك والبدع»(6).
والمتأمِّل في واقع النَّاس اليوم يدرك يقينًا أنَّ الَّذي أخذ بنصيب وافر من هذه البلايا والشِّركيات هم المتصوِّفة والرَّافضة، وما ذاك إلَّا لقلَّة نصيبهم من العلم الموروث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعدم عنايتهم بالسُّنَّة والحديث.
اللهم أظهر دينَك وكتابَك وسنَّة نبيِّك صلى الله عليه وسلم وعبادَك الصالحين.
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن اعتقد أنَّ الطَّواف بغيرها مشروع، فهو شرٌّ ممَّن يعتقد جواز الصَّلاة إلى غير الكعبة» «الفتاوى» (27/10).
(2) ذكر الإمام ابن القيم معاني جليلةٍ، ومقاصدَ نبيلةٍ، وفوائدَ نفيسة اشتملت عليها هذه الكلمات العظيمة بلغ بها إحدى وعشرين فائدة في كتابه «تهذيب السُّنن» (5/177 ـ 182).
(3) رواه البخاري 1723 ومسلم 1350.
(4) «صحيح الجامع» (7882).
(5) البخاري 1597، مسلم 1270.
(6) مجموع الفتاوى 17/497.
إنَّ بيت الله الحرام بيتٌ مبارك ببركة الله تعالى له، وهو محفوظ بحفظ الله تعالى له على مرِّ الدُّهور والعصور، وهو حرم آمن مطمئنٌّ يجبى إليه ثمر كل شيء بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم له، وهو بيت تطير إليه أفئدة أهل الإيمان وتهوي إليه وتشتاق إلى رؤيته، وجعل الله فيه سرًّا عجيبًا جاذبًا للقلوب، فهي تحجُّه ولا تقضي منه وطرًا على الدَّوام، بل كلَّما أكثر العبد التَّردُّد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه به، وتاقت نفسه للتنعُّم بقُرْبه والتَّقلُّبِ في أكنافه والبكاءِ على أعتابه والدُّعاءِ عند بابه، وذرفَت عيناه عند ذكره؛ كما خصَّ الله تعالى هذا البيت الذي أضافه إلى نفسه المقدسة بأنواع من المزايا والألطاف من تأمَّلها وأجالَ الفكر فيها جرَّه ذلك إلى القطع بصحَّة هذا الدِّين دين التَّوحيد والحنيفيَّة السَّمحة والإسلام لله ربِّ العالمين وحده لا شريك له، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران:96-97].
فلم يشرع الله تعالى لعباده أن يتوجَّهوا في صلاتهم إلَّا إليه فهو القبلة الَّتي ارتضاها لهم، كما لم يأذن الله تعالى في الطَّواف بمكان في الأرض سواه(1)، ولم يشرع استلام حجر من الأحجار إلَّا الركنين اليمانيين، ولا تقبيل حجر من الأحجار إلَّا الحجر الأسود، ولا التزام جدار من الجدران إلَّا جهة الملتزم منه وهو ما بين الركن والباب، كما شرعت الصَّلاة عنده والتَّوجُّه إليه والاعتكاف بفنائه ومجاورته، والأجر فيه مضاعف، إذ الصَّلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد، ومن أعظم ما ميَّز الله تعالى به هذا البيت أن جعلَ الرُّكن الخامس في الإسلام وهو الحجُّ لا يتمُّ إلَّا بقصده والسَّفر إليه وجعل الطَّواف به ركنًا من أركان الحجِّ ولا يتمُّ إلَّا به، فيطوف به الحاج عند القدوم، وعند الوداع، ويوم النَّحر ـ يوم الحجِّ الأكبر ـ طواف الإفاضة أو الزيارة.
كلّ ذلك يدلُّك على عظم شأن هذا البيت الَّذي لم يأمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم عليه السلام ببنائه إلَّا لإقامة التَّوحيد وقطع دابر الشِّرك قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود﴾ [الحج:26]، ولم يشرع للحاج أن يأتيه إلَّا مستهلًّا ورافعًا صوتَه بالتَّلبية الَّتي تضمَّنت التَّوحيد الخالص الصَّريح بقوله: «لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك» على عكس المشركين الَّذين كانوا يُهلّون في إحرامهم بالحجِّ بالشِّرك والتَّنديد، فكانوا يقولون في تلبيتهم: «لبَّيك لا شريك لك إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك»؛ فعلى الملبِّي أن يستشعر ما دلَّت عليه كلمات التَّلبية(2) من وجوب إفراد الله وحده بالعبادة والبعدِ عن الشِّرك، وليعلم أنَّه كما طولب أن يقصِد في حجِّه اللهَ وحدَه، فهو مطالب أيضًا أن يستصحب هذا القصد في كلِّ عبادة وقربة وطاعة، فلا يسألُ إلَّا الله، ولا يستغيث إلَّا بالله، ولا يتوكَّل إلَّا على الله، ولا يطلب المددَ والعونَ والنَّصرَ إلَّا من الله، فمن صَرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد أشرك، ومن أشرك حبط عمله وخسر خسرانا مبينًا.
ولا ريب أن السَّفر إلى بيت الله الحرام للحجِّ له آثار جميلة وفوائد عديدة قد لا يحصيها العاد، قال الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج:27-28] منافعُ دينيةٌ أخروية من العبادات الفاضلة والطَّاعات الجليلة الَّتي لا تحصل إلَّا لمن كان حاجًّا عند بيت الله الحرام، ومنافعُ دنيويةٌ مادِّيَّة من التَّكسُّب والتِّجارة والتَّعارف والملاقاة؛ إلَّا أن أعظم منفعة للمسلم هي الثواب أو الجائزة الَّتي يظفر بها بعد حجِّه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(3)، وفي البخاري (1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الجَنَّة».
ولمَّا كانت مناسكُ الحجِّ وأفعالُه تعبديَّة توقيفيَّة لا مجال للعقل فيها، لم يحسُن بالمسلم الحاجِّ الرَّاجي ثوابَ ربِّه عزَّ وجل إلَّا تجريد الإخلاص ومتابعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في كيفيَّة حجِّه، خاصَّةً وأنَّه صلى الله عليه وسلم قد رسم في حجّته لأُمَّته ـ عمليًّا ـ كيفيَّة أداء هذه الفريضةِ العظيمةِ، وحثَّ على تلقِّي كلَّ ما يصدر منه من أعمالٍ وأقوالٍ، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(4).
وقد فهم الصَّحابة صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وعلموه وعملوا به فأطاعوا الله واتَّبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوجز ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كلمته الشهيرة لمَّا جَاءَ إِلى الحجَرِ الأَسْود فَقَبَّلَهُ؛ قَالَ: «إنّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»(5) فعاشت الأمَّة في زمنها الأوَّل رَدحا من الدَّهر على هذا الاعتقاد الصافي، لا تعبد أحجار بيت الله الحرام فضلًا عن غيرها من الأحجار، وإنَّما تعبد ربَّ هذا البيت الَّذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ومعالم التَّوحيد فيها فاشية، ومظاهر الشرك لم تعد بادية، إلى أن بُليت الأمَّة بطوائف من المنتسبين إلى الإسلام استبدلوا الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير وتركوا هدي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وخرقوا جَناب التَّوحيد بمعاول زيفِهم وباطلهم، بتقديسهم الأشخاص وتعظيمهم المشايخ والصَّالحين والأموات، فشيَّدوا القباب والأضرحة، وبنوا المساجد والمشاهد على القبور، وعلقوا عليها الستور، وأوقدوا عندها القناديل والسُّرج والشموع، وبالغوا في تعظيمها، فطافوا حول تلك القبور وتمسَّحوا بها، وتبرَّكوا بترابها واستلموا جدرانها وأركانها، وعفّروا وجوههم عند عَتباتها، ورفعوا أكفَّ الدُّعاء والضَّراعة والاستغاثة عند أبوابها، يرجون عندها إجابةَ الدَّعوات، ونزولَ البركات، وقضاءَ الحاجات، وتفريجَ الكُربات، ويتقربون إليها بأنواع القُربات من النُّذور والذبائح والصَّدقات، فشدُّوا إليها الرِّحال، ولازموها بالوصال، وأدرُّوا عليها بالأموال، وجعلوا لها مواسم يحجُّون فيها إليها كما يحجُّ الناس إلى بيت الله الحرام، وأحدثوا عندها طقوسًا غريبة، وشعائر عجيبة تمجُّها نفوس ذوي الحسِّ الرَّشيد والعقل السديد من تمايل ورقص ولطم وأنين وصراخ وعويل في سلسلة طويلة من المنكرات المحدثات المستبشعات التي هي من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن، ويحسبون بعد هذا كلِّه أنَّ أفعالهم هذه من أعظم أعمال البرِّ والدِّين، وواللهِ الذي لا إله إلا هو ما أُتِيَ هؤلاء إلَّا من جهة جهلِهم العظيم بحقيقة شريعة الإسلام، وما بعث الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم من تحقيق التَّوحيد وقطع أسباب الشِّرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وما أُحدثَ في الإسلام من المساجد والمشاهد على القُبور والآثار فهو من البدع المحدَثة في الإسلام من فعلِ من لم يعرف شريعةَ الإسلام، وما بَعث الله به محمَّدًا من كمال التَّوحيد وإخلاص الدِّين لله، وسدِّ أبواب الشِّرك الَّتي يفتحها الشَّيطان لبني آدم؛ ولهذا يوجد مَن كان أبعدَ عن التَّوحيد وإخلاص الدِّين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيمًا لمواضع الشِّرك؛ فالعارفون بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتَّوحيد وإخلاص الدِّين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشِّرك والبدع»(6).
والمتأمِّل في واقع النَّاس اليوم يدرك يقينًا أنَّ الَّذي أخذ بنصيب وافر من هذه البلايا والشِّركيات هم المتصوِّفة والرَّافضة، وما ذاك إلَّا لقلَّة نصيبهم من العلم الموروث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعدم عنايتهم بالسُّنَّة والحديث.
اللهم أظهر دينَك وكتابَك وسنَّة نبيِّك صلى الله عليه وسلم وعبادَك الصالحين.
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن اعتقد أنَّ الطَّواف بغيرها مشروع، فهو شرٌّ ممَّن يعتقد جواز الصَّلاة إلى غير الكعبة» «الفتاوى» (27/10).
(2) ذكر الإمام ابن القيم معاني جليلةٍ، ومقاصدَ نبيلةٍ، وفوائدَ نفيسة اشتملت عليها هذه الكلمات العظيمة بلغ بها إحدى وعشرين فائدة في كتابه «تهذيب السُّنن» (5/177 ـ 182).
(3) رواه البخاري 1723 ومسلم 1350.
(4) «صحيح الجامع» (7882).
(5) البخاري 1597، مسلم 1270.
(6) مجموع الفتاوى 17/497.