11 - التحذير من كبائر الإثم
إن مما اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه في حجة الوداع التحذيرَ من الموبقات، والنهيَ عن كبائر الذنوب وعظائم الآثام ولاسيما الشرك بالله، وقتل الأنفس المعصومة، والزنى، والسرقة.
فعن سلمة بن قيس الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((ألا إنما هنَّ أربع: أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، ولا تزنوا ولا تسرقوا)). رواه أحمد والطبراني والحاكم وابن أبي عاصم في السنة بإسناد صحيح(1).
فحذر عليه الصلاة والسلام من هذه الكبائر العظيمة، والموبقات الوخيمة، ونهى عنها، وفي قوله: ((ألا إنما هنَّ أربع)) بيان لعظم خطر هؤلاء الأربع الموبقات، وأنهنَّ أكبر الكبائر وأخطرها.
والذنوب منقسمة إلى كبائر وصغائر، والكبيرة هي كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار، أو حدٍّ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة بأن توعد فاعله بأنه لا يدخل الجنة، أو لا يشم ريحها، أو نفي عنه الإيمان، أو قيل فيه من فعله فليس منا وأن صاحبه آثم، فهذا كلّه من الكبائر(2). ويدخل في هذا: الشرك، والقتل، والزنا، والسرقة، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وشرب الخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة وغيرها مما ثبت في النصوص أنه من الكبائر.
وقد مدح الله في مواضع من كتابه مجتنبي الكبائر وأثنى عليهم، ووعدهم بكريم المآب وعظيم الثواب والمدخل الكريم.
قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، وقال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31].
وأخبر سبحانه أنه أحصى على العباد كل ما اقترفوه من صغير وكبير، وأن كل ذلك مسطر مكتوب يجده العبد أمامه حاضراً يوم القيامة ليجزيَ سبحانه الذين أساءوا بما عملوا ويجزيَ الذين أحسنوا بالحسنى.
قال تعالى: { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال تعالى: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53].
وتوعدهم على فعلها أعظم الوعيد، وكلما عظمت الكبيرة عظم الوعيد، واشتد العقاب، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان : 68-69].
فالكبائر متفاوتة في غلظها وكبرها، كما أنها تغلظ بتكرارها وبالإصرار عليها وبما يقترن بها من سيئات أخر، وأكبر الكبائر الأربع التي نص عليها صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ونبّه عليها عموم الناس في حجته التي ودع الناس فيها، مؤكداً على التحذير منها، مشيراً إلى كبر خطرها وعظم ضررها على مرتكبها ومقترفها في دنياه وأخراه.
وأكبر هذه الأربع الإشراك بالله عز وجل وليس في الذنوب أكبرُ منه، ولهذا قدمه عليه الصلاة والسلام بالذكر، تنبيهاً بذلك إلى أنه أعظم ذنب وأكبر خطيئة، فهو ذنبٌ يحط بصاحبه يوم القيامة، ويكبُّه على رأسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابها، وتحرم عليه الجنة فلا يشم لها رائحة ولا يذوق منها لذّة { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
وكل ذنب دون الشرك يرجى لصاحبه المغفرة وإن عذبه الله في النار يوم القيامة فإنه لا يخلدْ فيها، وأما المشرك فلا مطمع له بمغفرة، ولا سبيل له لنيل عفو، ولا نجاة له من عذاب النار مخلداً فيها أبد الآبد.
قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحِبة تكون في حميل السيل)). رواه مسلم.
ويدل لهذا قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:116].
وعجباً ثم عجباً لأمر المشرك يخلقه الله رب العالمين ويعبد غيره من حجر أو شجر أو قبر أو نحو ذلك مما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا عطاءً ولا منعاً فضلاً من أن يملك شيئاً من ذلك لغيره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أيُّ الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك))، فأيُّ ذنب أعظم وأيُّ ظلم أشنع وأيُّ جرم أكبر من أن يُجعل المخلوق الناقص الضعيف شريكاً للرب الخالق العظيم؛ ولذا أخبر الله سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروا الله حق قدره في ثلاث مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً وشريكاً، تعالى الله عما يشركون.
ثم يلي الشرك في الخطر الثلاث المذكورة في الحديث: قتل الأنفس المعصومة، والزنا، والسرقة. وهي كلها اعتداء في حق المخلوقين، كما أن الشرك اعتداء في حق الخالق سبحانه.
وقتل الأنفس التي حرّم الله قتلها اعتداء على الدماء المعصومة، والزنا اعتداء على الأعراض المصونة، والسرقة اعتداء على الأموال المحترمة، وكل ذلك حرام، وقد سبق ذكرُ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفة، وكذلك في خطبته في منى: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))، فهناك بيّن حرمتها، وهنا حذّر من انتهاكها.
ومما ينبغي أن يعلم أن كل من تاب من أيِّ ذنبٍ كان، فإن الله يتوب عليه، فالتوبة تهدم ما كان قبلها كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
* * *
-----------------
(1) السلسلة الصحيحة (رقم:1759). وانظر في الصحيحين حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في ذكر مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على البعد عن هذه الأربع. البخاري (18).
(2) ينظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/650-652).
آخر تعديل: