عرضنا في السلسلة السابقة لسببين مهِمَين في تقوية الايمان، و اليوم أيضا نعرض لسببين أخرين هما أيضا من الأهمية بمكان، فإلى المقصود حفظكم ربي من كل سوء ووفقكم إلى كل خير.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمان بن ناصر السعدي رحمه الله عارضا أسباب قوة الايمان في كتابه الفريد المفيد شجرة الايمان و الذي منه كل هذا النقل المبارك إن شاء الله، ما ياتي:
3-وكذلك معرفة أحاديث النبي (عليه الصلاة و السلام) ، وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله –كلها من محصلات الإيمان ومقوياته . فكلما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله ، ازداد إيمانه ويقينه . وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين .
فقد وصف الله الراسخين في العلم . الذين حصل لهم العلم التام القوي . الذي يدفع الشبهات والريب ، ويوجب اليقين التام ؛ ولهذا كانوا سادة المؤمنين : الذين استشهد الله بهم ، واحتج بهم على غيرهم من المرتابين والجاحدين ؛ كما قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( 3/7) .
فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات ؛ وردوا المتشابه من الآيات إلى المحكم منها ، وقالوا : آمنا بالجميع ، فكلها من عند الله ؛ وما منه ، وما تكلم به وحكم به- كله حق وصدق .
وقال تعالى : ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ( 4/162) .
وقال : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( 3/18) .
ولعلمهم بالقرآن العلم التام ، وإيمانهم الصحيح –استشهد بهم في الدنيا والآخرة ؛ كما قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ( 30/56) .
وأخبر تعالى في عدة آيات( [1]) : أن القرآن آيات للمؤمنين ، و[آيات] للموقنين . لأنه يحصل لهم بتلاوته وتدبره -: من العلم واليقين والإيمان- بحسب ما فتح الله عليهم منه فلا يزالون يزدادون علماً وإيماناً ويقيناً .
فالتدبر للقرآن من أعظم الطرق والوسائل : الجالبة للإيمان ، والمقوية له . قال تعالى :( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( 38/29) .-
فاستخراج بركة القرآن –التي من أهمها حصول الإيمان- سبيله وطريقه : تدبر آياته وتأملها ؛ كما ذكر : [أن تدبره يوقف الجاحد عن جحوده ، ويمنع المعتدي على الدين من اعتدائه] .
قال تعالى : ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) ( 23/68) .
أي : فلو تدبروه حق تدبره ، لمنعهم مما هم عليه : من الكفر والتكذيب ؛ وأوجب لهم الإيمان واتباع من جاء به .
وقال تعالى : ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) ( [2]) ( 10/39) ؛ أي : فلو حصل لهم الإحاطة بعلمه ، لمنعهم من التكذيب ، وأوجب لهم الإيمان .
4-ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه –معرفة النبي ( عليه الصلاة و السلام) ، ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية ، والأوصاف الكاملة .
فإن من عرفه حق المعرفة لم يَرتب في صدقه ، وصدق ما جاء به : من الكتاب والسنة ، والدين الحق ، كما قال تعالى : ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) ( 23/69) أي: فمعرفته - صلى الله عليه و سلم- توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن لم يؤمن ، وزيادة الإيمان ممن آمن به .
وقال تعالى حاثاً لهم على تدبر أحوال الرسول الداعية للإيمان-: ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) ( 34/46) .
وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول ، وعظمة أخلاقه ، وأنه أكمل مخلوق –بقوله : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ( 68/1-4) .
فهو - صلى الله عليه و سلم- أكبر داع للإيمان في أوصافه الحميدة ، وشمائله الجميلة ، وأقواله الصادقة النافعة ، وأفعاله الرشيدة فهو الإمام الأعظم ، والقدوة الأكمل ، ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) ( [3]) ، ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ( [4]) .
وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا : (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا ) وهو : هذا الرسول الكريم ( يُنَادِي لِلْإِيمَانِ ) بقوله وخُلقه. وعمله ودينه ، وجميع أحواله ؛ ( أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا )
( 3/193) أي : إيماناً لا يدخله ريب .
ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله ، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله –توسلوا بإيمانهم : أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات ؛ فقالوا : ( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ )
ولهذا كان الرجل المنصف –الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق؛ مجرد ما يراه ويسمع كلامه –يبادر إلى الإيمان [به عليه الصلاة و السلام] ، ولا يرتاب في رسالته بل كثير منهم- مجرد ما يرى وجهه الكريم- يعرف : أنه ليس بوجه كذاب .
وقيل لبعضهم ( لَم بادرت إلى الإيمان بمحمد قبل أن تعرف رسالته ؟ ) فقال : ( ما أمر بشيء ، فقال العقل : ليته نهى عنه ؛ ولا نهى عن شيء ، فقال العقل : ليته أمر به) فاستدل هذا العاقل الموفق –بحسن شريعته عليه الصلاة و السلام ، وموافقتها للعقول الصحيحة –على رسالته ؛ فبادر إلى الإيمان [به] .
ولهذا استدل ملك الروم هرقل –لما وصف له ما جاء به الرسول، وما كان يأمر به ، وما ينهي عنه- استدل بذلك : أنه من أعظم الرسل ؛ واعترف بذلك اعترافاً جلياً . ولكن منعته الرئاسة وخشية زوال ملكه من اتباعه ؛ كما منعت كثيراً ممن اتضح لهم أنه رسول الله حقاً . وهذا من أكبر موانع الإيمان في حق أمثال هؤلاء .
وأما أهل البصائر والعقول الصحيحة ، فإنهم يرون هذه الموانع والرئاسات والشبهات والشهوات تضمحل ، ولا يرون لها قيمة : حتى يعارض بها الحق الصحيح النافع ، المثمر للسعادة : عاجلاً وآجلاً .
ولهذا السبب الأعظم ، كان المعتنون بالقرآن حفظاً ومعرفة ، والمعتنون بالأحاديث الصحيحة –أعظم إيماناً ويقيناً من غيرهم، وأحسن عملاً في الغالب .
يتبع بإذنه تعالى.....
.............................................................
( [1]) كما في سورة البقرة ( 2/97) ، والنساء ( 4/82) ، والأنفال ( 8/2) ، ويونس ( 10/57) ، والإسراء ( 17/9، 82) ، والنمل ( 27/2، 77)، ويس ( 36/69-70) والجاثية ( 45/20) ، والأحقاف ( 46/30) ، والجن ( 72/1-2) .
( [2]) بالأصل : "به" وهو سبق قلم من الناسخ .
( [3]) بالأصل : "كانت" ، والزيادة من الناسخ . وهو اقتباس من سورة الأحزاب : ( 33/21) .
( [4]) اقتباس من سورة الحشر ( 59/7) .