الإمام محمد بن الحسن الشيباني

إلياس

:: أستاذ ::
أحباب اللمة
إنضم
24 ديسمبر 2011
المشاركات
24,417
نقاط التفاعل
27,760
النقاط
976
محل الإقامة
فار إلى الله
الجنس
ذكر
ما أكثر ما نجد من منارات ومعالم في تاريخنا الإسلامي المجيد! فلتكن هذه المقالة عن واحد من هذه المنارات، عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، الذي تتلمذ على أبى حنيفة النعمان وتأثر بفقهه، ونبغ في مدرسته، حتى أصبح مرجع أهل الرأي في حياة أبي يوسف بعد وفاة أبي حنيفة، وهو الذي رحل إلى المدينة وأخذ عن الإمام مالك، وله رواية خاصة في الموطأ، وهى رواية مشهورة من أوثق الروايات وأجلها، يعقب أحاديثها بما عليه العمل عند أبي حنيفة، ويبين السبب الذي من أجله وقع الخلاف. قال الإمام محمد: "أقمت على باب مالك ثلاث سنين، وسمعت منه لفظًا سبعمائة حديث ونيفًا". وقال الإمام الشافعي: "كان محمد بن الحسن إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثروا، حتى يضيق بهم الموضع".

مولد محمد بن الحسن:
في سنة 132هـ رُزق أبو عبد الله الحسن بن فرقد الشيباني، من أهل حرستا، في غوطة دمشق ببلاد الشام، بولده محمد بن الحسن، في واسط بالعراق، فقد كان أبو عبد الله في جند الشام، وانتقلت أسرته إلى مدينة واسط، وفيها ولد محمد بن الحسن الشيباني الحرستانى، ثم انتقل إلى الكوفة مع والده.

حياته العلمية:
وفي العراق نشأ محمد بن الحسن وترعرع، ثم حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ تعليمه، وبدأ يختلف إلى حلقة أبي حنيفة في الكوفة، وقد جرى معه ما يدل على نبوغه المبكر وذكائه المتوقد، ولم تكن حلقة أبي حنيفة مجرد حلقة عادية لتعليم مبادئ الفقه، بل كانت مدرسة تضم النوابغ من الطلبة الذين يذكي فيهم شيخهم روح الاجتهاد والبحث بمسائله التي يطرحها عليهم ثم مناقشتها بكل حرية وشورى ليصل إلى رأي ناضج، يأمر بعد ذلك بكتابتها وتدوينها في بابها من كتاب الفقه الإسلامي العظيم.

وانصرف محمد بن الحسن بكليته إلى العلم انصرافًا ملك على جوانب حياته، حتى إنه قال لأهله: "لا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا تشغلوا بها قلبي، وخذوا ما تحتاجون إليه من وكيلي، فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي".

شيوخ محمد بن الحسن:
لازم محمد بن الحسن شيخه الأول أبا حنيفة، وسمع منه وكتب عنه، وبعد وفاته لازم أبا يوسف حتى برع في الفقه، وسمع أيضًا من مسعر بن كدام، ومالك بن مغول، وعمر بن ذر الهمداني، وسفيان الثوري، والأوزاعي، ومالك ابن أنس، ولازم مالك بن أنس مدة -كما سبق- حتى انتهت إليه رياسة الفقه بالعراق بعد أبي يوسف.

تلامذة محمد بن الحسن:
وتفقه به أئمة أعلام كالإمام الشافعي، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وهشام بن عبيد الله الرازي، ويحيي بن معين، ومحمد بن سماعة، وأسد بن الفرات، وغيرهم كثير.

ثناء العلماء على محمد بن الحسن:
وقد أثنى عليه العلماء ثناء عاطرًا يدل على علو مكانته ومنزلته، وحسبك شهادة الإمام الشافعي فيه. قال الإمام الشافعي: "أخذت من محمد بن الحسن وِقْرَ بعير من علم، وما رأيت رجلًا سمينًا أفهم منه -أو أخف روحًا منه، وكان يملأ القلب والعين". وقال: "كان إذا تكلم خُيِّل لك أن القرآن نزل بلغته".

وكان الشافعي أيضًا يقول: "ما رأيت أحدًا سئل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهية في وجهه إلا محمد بن الحسن، وما رأيت رجلًا أعلم بالحلال والحرام، والعلل، والناسخ والمنسوخ من محمد بن الحسن، ولو أنصف الناس لعلموا أنهم لم يروا مثل محمد بن الحسن، ما جالست فقيهًا قط أفقه ولا أفتق لسانًا بالفقه منه، إنه كان يحسن من الفقه وأسبابه أشياء تعجز عنها الأكابر".

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "ما رأيت أعلم بكتاب الله منه". وقال إبراهيم الحربي: "قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدقيقة؟ قال: هي من كتب محمد بن الحسن". هذه شهادة إمام أهل السنة، وتلكم شهادة ناصر السنة واضع علم الأصول في الإمام الرباني محمد بن الحسن الشيباني، تغنيان عن كل شهادة بعدهما.

محمد بن الحسن .. إمام مجتهد:
وذلك كله يشير إلى طرف من منزلة الإمام محمد بن الحسن رحمه الله في الفقه الإسلامي ومكانته فيه. وقد رتب العلماء طبقات المجتهدين في الفقه الإسلامي ووضعوا محمدًا رحمه الله في الطبقات الأولى، إن لم يكن في الأولى منها، وجعلها ابن كمال باشا الحنفي سبع طبقات، وتبعه في ذلك الشيخ ابن عابدين الحنفي.

فالأولى: طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة، ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط الأحكام والفروع من الأدلة الأربعة من غير تقليد لأحد لا في الفروع، ولا في الأصول.

الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كالإمام أبي يوسف، ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من الأدلة المذكورة، على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكامالفروع، لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول.

والثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، كالخصاف والطحاوي والكرخي.

الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالرازي الجصاص وأضرابه.

الخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كالقدوري، وصاحب. الهداية المرغيناني وأضرابهما.

والسادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضيف، وظاهر المذهب، وظاهر الرواية والرواية النادرة، كأصحاب المتون.

والسابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر.

إلا أن هذا التقسيم لطبقات الفقهاء، ليس تقسيمًا دقيقًا، ولا تقسيمًا حاصرًا مميزًا لكل طبقة عن الأخرى، ولذلك أبدى بعضهم نظرًا في ذلك، فقال الشيخ هارون بن بهاء الدين المرجاني الحنفي: "ليت شعري، ما معنى قولهم: "إن أبا يوسف ومحمدًا وزفر، وإن خالفوا أبا حنيفة في بعض الأحكام، لكنهم يقلدونه في الأصول -في معرض عدهم من الطبقة الثانية السابقة- ما الذي يريد به؟ فإن أراد منه الأحكام الإجمالية التي يبحث عنها في كتب الأصول، فهي قواعد عقلية وضوابط برهانية، يعرفها المرء متن حيث أنه ذو عقل وصاحب فكر ونظر، سواء كان مجتهدًا أو غير مجتهد، ولا تعلق لها بالاجتهاد قط. وشأن الأئمة الثلاثة -أبو يوسف ومحمد وزفر- أرفع وأجل من أن لا يُعرفوا بها كما هو اللازم من تقليدهم غيرهم فيها، فحاشاهم ثم حاشاهم عن هذه النقيصة، وحالهم في الفقه، وإن لم يكن أرفع من مالك والشافعي فليسوا بدونهما، وقد اشتهر في أفواه الموافق والمخالف وجرى مجرى الأمثال قولهم: أبو حنيفة أبو يوسف، بمعنى أن البالغ إلى الدرجة القصوى في الفقاهة: أبو يوسف".

وقال الخطيب البغدادي: قال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، أفقه أهل عصره ..، وكذلك محمد بن الحسن، قد بالغ الشافعي في الثناء عليه، وذكر ابن خلدون أن الشافعي رحل إلى العراق ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، وكذلك أحمد بن حنبل أخذ عنهم مع وفور بضاعته في الحديث. ولكل واحد منهم أصول مختصة تفرد بها عن أبي حنيفة، وخالفه فيها، ونقل عن الغزالي أنه قال: إنهما خالفا أبا حنيفة في ثلثي مذهبه!

وهذا ما أبداه أيضًا العلامة ابن بدران الحنبلي في (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل) عندما عرض للسبب الذي لأجله اختار كثير من العلماء مذهب الإمام أحمد على غيره، وفي بحثه عن الاجتهاد والتقليد، ومن ذلك قوله عن الطبقة الأولى من المفتتين والمجتهدين المنتسبين إلى مذهب فقهي معين: "ثم إن للمفتي -المجتهد- المنتسب إلى أحد المذاهب أربع أحوال: أحدها: أن لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في مذهبه، ولا في دليله، لكنه سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرًا منه على أهله، فوجده صوابًا، وأولى من غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه ..، وحكي عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم لأنهم وجدوا طريقتهم في الاجتهاد والفتاوى أسد الطرق ..، وحكى اختلافًا بين الحنفية والشافعية في أبي يوسف ومحمد والمزني وابن سريج: هل كانوا مستقلين في الاجتهاد أم لا؟ قال: ولا تستنكر دعوى ذلك فيهم في فن من فنون الفقه بناء على جواز تجزئ منصب الاجتهاد، ويبعد جريان الخلاف في حق هؤلاء المتبحرين الذين عم نظرهم الأبواب كلها".

مكانة الإمام محمد بن الحسن العلمية:
ومع هذا الخلاف في كون الإمام محمد مجتهدًا مطلقًا أم لا؛ فإن مكانته في العلم مكانة بارزة، ففي التفسير تعرف مكانته من قول الشافعي رحمه الله: لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت، لفصاحته. ويقول محمد رحمه الله: ينبغي لقارئ القرآن أن يفهم ما يقرأ. فله مكانته في معرفة أسلوب القرآن الكريم وبيان أحكامه وناسخه ومنسوخه، ومن ثم كان من أعلم الناس بكتاب الله.

وفي الحديث والسنة: كان للإمام محمد عناية خاصة، فهو قد رحل إلى الإمام مالك وسمع منه الموطأ، وله روايته الدقيقة، التي تتميز عن رواية يحيى الليثي بأنه يعقب بقول أبي حنيفة وقوله في كل مسألة غالبًا. والكتاب مطبوع وله شروح متعددة كشرح (ملا علي القاري) .

وله كتاب "الآثار" الذي يروي فيه أحاديث مرفوعة وموقوفة ومرسلة، وعليه شروح، وقد عني الحافظ ابن حجر برجاله فكتب رسالته "الإيثار بمعرفة رجال الآثار"، وله كتاب "الحجة على أهل المدينة" فيه كثير من الآثار التي يرويها بسنده، وفي سائر كتبه جملة صالحة من الأحاديث والآثار.

وأما ثقافته اللغوية، فحسبك قول الإمام الشافعي: إنه كان من أفصح الناس، وكان ثعلب يقول: محمد عندنا حجة من أقران سيبويه. وكان قوله حجة في اللغة. وذكر ابن يعيش في شرحه خطبه (كتاب المفصَّل) أن محمدًا ضمَّن كتابه المعروف بـ "الجامع الكبير" في كتاب الأيمان منه، مسائل فقه تُبتنى على أصول العربية، لا تتضح إلا لمن له قدم راسخة في هذا العلم. وكان أبو علي الفارسي يتعجب من تغلغل الإمام محمد في النحو، في الجامع الكبير. وقال ابن جني عن كتب الإمام محمد وأثرها في علم النحو: إنما ينتزع أصحابنا منها العلل، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق.

مؤلفات الإمام محمد بن الحسن:
والذي يشهد للإمام محمد ومكانته؛ تصانيفه ومؤلفاته، الجيدة المتقنة، التي كانت عماد الكتب المدونة في الفقه الإسلامي "كالأسدية" التي هي أصل "المدونة" في مذهب الإمام مالك، وكتاب "الأم" للإمام الشافعي رحمه الله، وهذه الكتب هي التي حفظت فقه المذهب الحنفي، وتعتبر أصولًا له، وبخاصة الكتب المعروفة بـ "ظاهر الرواية"، فمن كتبه:

الجامع الصغير" في الفقه، وقد طبع مع شرح له للكندي سماه "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" وفي مقدمة الشرح تفصيل لشراح الجامع الصغير منذ القديم.

و"الجامع الكبير" وهو كتاب جامع لجلائل المسائل، مشتمل على عيون الروايات ومتون الدرايات، حتى قال بعضهم: ما وضع في الإسلام مثل جامع محمد بن الحسن، وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة بعناية أبي الوفاء الأفغاني، وللكتاب شروح ومختصرات كثيرة.

"السير الصغير" و"السير الكبير"، الأول: يرويه عن أبي حنيفة، والثاني من آخر مؤلفاته، وكلاهما في العلاقات الدولية وأحكام الجهاد، وعليه شروح كثيرة.

ومن أهم كتب الإمام محمد بن الحسن "الأصل" أو "المبسوط"، وهو من أول تصانيفه، وأجمعها لأبواب الفقه، وفيه يسجل آراء أبي حنيفة وأبي يوسف وآرائه هو، ويناقش ويعلل للأحكام ويستدل لها، ويقبل ويرفض من الآراء، حسب منهجه الفقهي. وقد طبع هذا الكتاب، أو قسم كبير منه، في خمس مجلدات، وصور أخيرًا في الباكستان، ومعه ما سبق أن حققه ونشره الدكتور شحاتة، وهو ما يتضمن كتاب "السلم" من أصل الكتاب.

وله كتاب "الزيادات" ألفها بعد الجامع الكبير، استدراكًا لما فاته فيه من المسائل.

وهذه الكتب الستة المتقدمة، هي التي تعرف في المذهب الحنفي بكتب "ظاهر الرواية" أو "مسائل الأصول" لأنها رويت بطريق الشهرة، أو التواتر عن الإمام محمد بن الحسن، بخلاف الكتب الأخرى التي رويت عنه بطريق الآحاد.

وقد جمع هذه الكتب كلها الحاكم الشهيد في كتاب واحد سماه (الكافي) وقد شرحه السرخي في كتابه الضخم (المبسوط) الذي طبع في القاهرة في ثلاثين جزءًا ثم صور حديثًا عن هذه الطبعة، وما أجدره بطبعة علمية حديثة محققة مخرجة الأحاديث.

ومن كتبه الأخرى: (الرقّيات) و(الكيسانيات) و(الجرجانيات) و(الهارونيات) و(النوادر)، وله أيضًا (الحجة على أهل المدينة) وفيه احتجاج على فقهاء أهل المدينة في مسائل الفقه ومناقشتها، وقد طبع في أربع مجلدات بعناية أبي الوفاء الأفغاني، وتعليق المفتي السيد حسن الكيلاني.

و كتاب الآثار وهو مسنده يرويه عن أبي حنيفة، وقد طبع أكثر من مرة وترجم الحافظ ابن حجر لرجاله في رسالته (الإيثار بمعرفة رواة الآثار)، وقد طبع أخيرًا في كراتشي بالباكستان عام 1407هـ.

ولهذه الكتب مخطوطات كثيرة في كثير من بلدان العالم الإسلامي، عنيت بذكرها كتب التراث وتاريخ الأدب العربي، والكتب التي ترجمت حديثًا للإمام محمد بن الحسن الشيباني، ومنها: رسالة (الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وأثره في الفقه الإسلامي) للدكتور محمد الدسوقي، وقد طبع حديثًا في قطر، وفي كشوف الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة الأزهر (الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي) مسجلة عام 1968م.

وفاة الإمام محمد بن الحسن:
توفي الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في سنة 189هـ، بعد حياة حافلة بالعلم: دراسة وتدريسًا وتأليفًا ورئاسة للقضاة، في عهد هارون الرشيد رحمه الله، فقد خرج والكسائي مع الرشيد إلى الريِّ في بلاد ما وراء النهر، والتي تقع الآن في بلاد إيران، وفي هذا العام أيضًا توفي الكسائي، بل في يوم واحد، فروي أن الرشيد جزع لموتهما، وقال: "دفنت الفقه والنحو بالري".

فسلام على الإمام الرباني، محمد بن الحسن الشيباني، ورحمه الله، في الأولين والآخرين، كفاء ما قدم من خدمة جليلة للفقه الإسلامي العظيم. والحمد لله رب العالمين.
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top