9-ومنها قوله تعالى : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } الآية ( 23/1-10) .
فهذه الصفات الثمان ، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه ؛ كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره كما تقدم .
فحضور القلب في الصلاة ، وكون المصلي يجاهد نفسه على استحضار ما يقوله ويفعله -: من القراءة والذكر والدعاء فيها ، ومن القيام والقعود ، والركوع والسجود – من أسباب زيادة الإيمان ونموه.
وتقدم : أن الله سمى الصلاة إيماناً ، بقوله : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) ( 2/143) ؛ وقوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) .
والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده ، وهي فرضها ونفلها : كما قال النبي r : ( الصدقة برهان) ؛ أي : على إيمان صاحبها . فهي دليل الإيمان . وتغذيه وتنميه .
والإعراض عن اللغو الذي هو : كل كلام لا خير فيه ، وكل فعل لا خير فيه –بل يقولون الخير ويفعلونه ، ويتركون الشر قولاً وفعلاً –لاشك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان ، ويثمر الإيمان .
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ، إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم ، يقول بعضهم لبعض : ( اجلس بنا نؤمن ساعة) : فيذكرون الله ، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية . فيتجدد بذلك إيمانهم .
وكذلك العفة عن الفواحش خصوصاً فاحشة الزنا ، لاريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمياته . فالمؤمن لخوفه مقامه بين يدي ربه ، - (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ) ( [1]) إجابة لداعي الإيمان ، وتغذية لما معه من الإيمان .
ورعاية الأمانات والعهود وحفظها : من علائم الإيمان . وفي الحديث( [2]) : ( لا إيمان لمن لا أمانة له) .
وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه ، فانظر حاله : هل يرعى الأمانات كلها ، مالية أو قولية ؛ أو أمانات الحقوق ؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله ، والتي بينه وبين العباد ؟
فإذا كان كذلك : فهو صاحب دين وإيمان . وإن لم يكن كذلك : نقص من دينه وإيمانه . بمقدار ما انتقص من ذلك .
وختمها بالمحافظة على الصلوات- على حدودها ، وحقوقها ، وأوقاتها- : لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان ، فيسقيه وينميه ويؤتي أُكله كل حين .
وشجرة الإيمان –كما تقدم-محتاجة إلى تعاهدها كل وقت بالسقي –وهو : المحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات- وإلى إزالة ما يضرها من الصخور والنوابت الغريبة الضارة ؛ وهو العفة عن المحرمات قولاً وفعلاً . فمتى تمت هذه الأمور حيا( [3]) هذه البستان وزها ، وأخرج الثمار المتنوعة .
10-ومن دواعي الإيمان وأسبابه : الدعوة إلى الله وإلى دينه ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، والدعوة إلى أصل الدين ، والدعوة إلى التزام شرائعه : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبذلك يكمل العبد نفسه ، ويُكمِّلُ غيره كما أقسم تعالى بالعصر: أن جنس الإنسان لفي خسر ، إلا من اتصف بصفات أربع : الإيمان والعمل الصالح اللذين بهما تكميل النفس ، والتواصي بالحق –الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق- وبالصبر على ذلك كله ؛ وبه يكمل غيره .
وذلك : أن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده ، من أكبر مقومات الإيمان وصاحب الدعوة لابد أن يسعى بنصر هذه الدعوة ، ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها ، ويأتي الأمور من أبوابها ، ويتوسل إلى الأمور من طرقها ، وهذه الأمور من طريق الإيمان وأبوابه .
وأيضاً : فإن الجزاء من جنس العمل ؛ فكما سعى إلى تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم بالحق ؛ وصبر على ذلك لابد أن يجازيه الله من جنس عمله ، ويؤيده بنور منه ، وروح وقوة وإيمان ، وقوة التوكل ، فإن الإيمان وقوة التوكل على الله ، يحصل به النصر على الأعداء : من شياطين الإنس ، وشياطين الجن . كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( 16/99).
وأيضاً : فإنه متصد لنصر الحق ؛ ومن تصدى لشيء ، فلابد أن يفتح عليه فيه -: من الفتوحات العلمية والإيمانية –بمقدار صدقه وإخلاصه .
11-ومن أهم مواد الإيمان ومقوياته : توطين النفس على مقاومات ما ينافي الإيمان : من شعب الكفر والنفاق ، والفسوق والعصيان .
فإنه كما أنه لابد في الإيمان من فعل جميع الأسباب المقوية المنمية له ، فلابد مع ذلك –من دفع الموانع والعوائق ؛ وهي : الإقلاع عن المعاصي ، والتوبة مما يقع منها ، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات ، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان ، المضعفة له ، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان . فإن الإرادات التي أصلها : الرغبة في الخير ومحبته والسعي فيه- لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها: من رغبة النفس في الشر ؛ ومقاومة النفس الأمارة بالسوء .
فمتى حفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات ، وفتن الشهوات،-: تم إيمانه،وقوي يقينه ؛ وصار مثل بستان إيمانه :( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( [4]) .
ومتى كان الأمر بالعكس :- بأن استولت عليه النفس الأمارة بالسوء ، ووقع في فتن الشبهات أو الشهوات ، أو كليهما –انطبق عليه هذا المثل وهو قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )
( 2/266) .
فالعبد المؤمن لا يزال يسعى في أمرين : أحدهما : تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتحقق بها علماً وعملاً وحالاً .
والثاني : السعي في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها : من الفتن الظاهرة والباطنة ؛ ويداوي ما قصر فيه من الأول ، وما تجرأ عليه من الثاني- : بالتوبة النصوح ، وتدارك الأمر قبل فواته .
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( 7/201) ؛
أي : مبصرون الخلل الذي وقعوا فيه ، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان ، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان ؛ فإذا أبصروا. تداركوا هذا الخلل بسده ، وهذا الفتق برتقه ؛ فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدوهم حسيراً ذليلاً ؛ وإخوان الشياطين-: (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ) ( [5]) : الشياطين لا تقصر عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك ؛ والمستجيبون( [6]) لهم لا يقصرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك ؛ ويحق عليهم الخسار .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ؛ وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ؛ واجعلنا من الراشدين ؛ بفضلك ومنتك إنك أنت العليم الحكيم .
* * * *
( [1]) اقتباس من سورة النازعات : ( 79/40) .
( [2]) الحسن أو الصحيح عن أنس ، بدون زيادة : كما في المصابيح ( 1/5)، أو بزيادة مشهورة : كما في مسند أحمد وصحيح ابن حبان أو الضعيف عن ابن عمر ، بزيادة أخرى كما في معجم الطبراني الأوسط . انظر : الجامع الصغير ( 2/157)، والفتح الكبير ( 3/311) .
( [3]) كذا بالأصل . وهو صحيح بل الأكثر استعمالاً ، والوارد في قوله تعالى –في سورة الأنفال : (إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ ) ( 8/42) . وهو إدغام "حي" انظر المختار .
( [4]) بالأصل : "خبير" ، وهو سهو من الناسخ . وهذا اقتباس من سورة البقرة ( 2/265) .
( [5]) من سورة الأعراف : ( 7/202) .
( [6]) بالأصل : ( والمستجيبين) ، وهو خطأ وتخويف .