فارس البوح
:: عضو مُتميز ::
...كعادته وكلّ صبيحة ثلاثاء.. وفي نفس المكان..
وقف سالم.. المدعو أبو توفيق أمام البحر.. شاحب الوجه..
يتأمّل أمواجه الهائجة.. وهيّ ترتطم بقوّة على الصّخور..
والرّياح الباردة تداعب معطفه الأسود.. بعنف..
أخرج من جيبه علبة سجائر.. وسحب منها سيجارة..
بالكاد استطاع إشعالها.. فالجوّ اليوم مضطرب.. والسماء مكفهرّة..
أخذ يجذب أنفاسا منها.. وينفث عباب دخانها ببطء..
وهو يتأمّل تارة ثوران أمواج البحر الصاخبة..
وتارة أخرى يحملق في الأفق البحريّ البعيد..
وكأنّه ينتظر قدوم شيء ما..
هذه عادة أبو توفيق.. يزور هذا الشاطئ الصخريّ..
كلّ صبيحة يوم ثلاثاء.. ليمارس نفس طقوس التأمّل الغريب..
ويعود في آخر المساء إلى بيته.. وهو مطأطئ الرأس.. يجرّ خطاه ببطء شديد..!!
لهذا الشاطئ الصخريّ حكاية أخرى.. فهذا المكان كان مقصد ابنه الوحيد توفيق..
هو شاب في منتصف العشرينات.. كان يهوى اعتلاء صخوره.. وممارسة هوايته المحبوبة.. الصيد بالصنّارة..
مع شلّة من أصدقائه وأبناء حيّه..
في يوم من الأيام قرّر.. الابن توفيق.. مع بعض أصدقائه المقرّبين..
الهجرة سرّا "حرّاقة".. إلى الضفّة الأخرى..
لقد خططوا كثيرا لهذه السفر البحريّ.. الخطير والمجهول العواقب..
وفعلا.. في إحدى اللّيالي المقمرة.. نفذوا الفكرة..
بعد أن تركوا رسائل وداع وطلب صفح.. من أوليائهم..
الثلاثاء هو ذلك اليوم المشؤوم.. الّذي وصلت فيه.. أخبار مأسويّة.. انتشرت كالنّار في الهشيم..
في الحيّ الشعبيّ الذي يسكن فيه أبو توفيق.. لقد مات ابنه توفيق غرقا.. مع ثلاثة من أصدقائه وأبناء حيّه..
بسبب سوء الأحوال الجويّة.. واضطراب البحر.. انقلب بهم قاربهم الصغير في عرض البحر..
نزلت الخبر كالصاعقة.. على مسامع أبو توفيق..
فأصيب بانهيار عصبي وحزن شديد.. كاد يفقده عقله.. أو قد يكون فعل..
لم يستطع تصديق.. أنّ ابنه مات غرقا..
فلم يصل أيّ خبر آخر يؤكد عثورهم على جثّته.. ولا على جثث من كان معه.. من أبناء الحيّ..
ثلاثاء آخر.. ككلّ ثلاثاء.. هاهو أبو توفيق.. يخرج من منزله..
متجها صوب.. مقهى الحيّ.. كعادته ليرتشف فنجانا من القهوة..
قبل أن يمضي إلى وجهته المعلومة..
يسأله "قهواجي" الحيّ بنبرة فيها كثير من الشّفقة.. بعد أن يقدّم إليه فنجان قهوة..
- هاه.. عمي سالم.. !! أين تقصد..؟
- اليوم ثلاثاء..!! هل ستذهب إلى الشاطئ كعادتك..؟
يجيبه أبو توفيق.. وهو يحدّق في وجه الفنجان..
- "أنعم إيه".. يا وليدي رشيد..!!
- اليوم إن شاء الله.. سأكون في استقبال ابني توفيق..
ربما سيعود اليوم من الغربة.. أأمل ذلك..
بعد صمت محيّر.. يردف قائلا...
- لقد اشتقت إليه كثيرا.. وأعلم أنّ اشتياقه لي.. ولوالدته المريضة أكبر..
حتما سيدفعه إلى.. العودة إلينا..
وفجأة يصرخ في وجه القهواجي.. بنبرة حادة وحزينة..
- الكلّ يخبرني أنّ ابني توفيق.. مات غرقا ولن يعود..
ما بال الناس.. ألا يشفقون عليّ قليلا.. ويرحموني بإمساك ألسنتهم المسعورة..!!
- لا.. لا.. هم متوهّمون.. بل هم كاذبون.. ابني توفيق مازال حيّا يرزق.. !!
- ولا أحبّ أن يجادلني أحدٌ.. في عودته.. أكيد سوف يعود..
أنا من أنجبته وربيته.. وأنا من يعرف جيّدا كيف يفكّر..!!
يشرب قهوته على مضض.. ويخرج مستعجلا من المقهى.. وهو يتمتم.. بكلام غير مفهوم..!!
مسكين أبو توفيق.. لقد فقد عقله.. بسبب فقدانه لابنه الوحيد..
من تأليفي...
آخر تعديل بواسطة المشرف: