16-ومنها أن الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في الموبقات المهلكة . كما ثبت في الصحيح( [1]) عن النبي (صلى الله عليه و سلم) أنه قال : ( لا يزني الزاني-حين يزني- وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق –حين يسرق- وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر- حين يشربها- وهو مؤمن) الحديث .
ومن وقعت منه : فإنه لضعف إيمانه ، وذهاب نوره ، وزوال الحياء ممن يراه حيث نهاه ، وهذا معروف مشاهد .
والإيمان الصادق الصحيح ، يصحبه الحياء من الله ، والحب له ، والرجاء القوي لثوابه ، والخوف من عقابه ، والنور الذي ينافي الظلمة. وهذه الأمور- التي هي من مكملات الإيمان لاريب أنها تأمر صاحبها بكل خير ، وتزجره عن كل قبيح .
فأخبر ، أن الإيمان إذا صحبه- عند وجود أسباب هذه الفواحش-، فإن نور إيمانه يمنعه من الوقوع فيها ، فإن النور الذي يصحب الإيمان الصادق ووجود حلاوة الإيمان ، والحياء من الله- الذي هو من أعظم شعب الإيمان ، بلا شك- يمنع من مواقعة هذه الفواحش .
17-ومنها أنه ثبت عنه (صلى الله عليه و سلم) في الصحيحين –من حديث أبي موسى (رضي الله عنه) - أنه قال : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ، كمثل الأترجة طعمها طيب ، وريحها طيب . و[مثل المؤمن] ( [2]) الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة : طعمها طيب ، ولا ريح لها) .
وهؤلاء القسمان هم خير الخليقة ، فإن الناس أربعة أقسام :
[الأول] : خير في نفسه ، متعد خيره إلى غيره . وهو خير الأقسام. فهذا : المؤمن الذي قرأ القرآن ،
وتعلم علوم الدين فهو نافع لنفسه ، متعد نفعه إلى غيره ، مبارك أينما كان كما قال الله تعالى عن عيسى [عليه السلام] : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ) ( 19/31) .
و[الثاني] : طيب في نفسه . صاحب خير . وهو : المؤمن الذي ليس عنده من العلم . ما يعود به على غيره .
فهذان القسمان هما خير الخليقة ، والخير الذي فيهم عائد إلى ما معهم : من الإيمان القاصر والمتعدي نفعه إلى الغير بحسب أحوال المؤمنين .
و[القسم الثالث] : من هو عادم للخير ، ولكنه لا يتعدى ضرره على غيره .
و[الرابع] : من هو صاحب شر على نفسه ، وعلى غيره . فهذا شر الأقسام (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) ( [3]) .
فعاد الخير كله إلى الإيمان وتوابع ، وعاد الشر إلى فقد الإيمان ، والإتصاف بضده . والله الموفق .
شبيه بهذا المعنى ، قوله (صلى الله عليه و سلم) ( [4]) : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير) .
فقسم (صلى الله عليه و سلم) المؤمنين ، إلى قسمين : قسم قوي في عمله وقوة إيمانه، وفي نفعه لغيره ، وقسم ضعيف في هذه الأشياء .
ومع ذلك ، ففي كل من القسمين خير : لأن الإيمان وآثاره كله خير ، وإن تفاوت المؤمنون في هذا الخير .
* * * *
( [1]) الذي أخرجه أحمد والبغوي مع الستة : من طريق أبي هريرة ، ومع البخاري والنسائي من طريق ابن عباس . باختلاف أو زيادة أو اختصار راجع : صحيح البخاري ( 3/136 و7/104 و9/157 و164) ، ومسلم ( 1/54-56) ، وسنن أبي داود ( 4/221) ، والترمذي ( 10/91-92) ، والفتح الكبير ( 3/363) ، والمصابيح ( 1/6)، وهداية الباري ( 2/316) .
( [2]) هذه الزيادة مفيدة ، ثابتة : في المصابيح ( 1/101) ، وغيره . والحديث أخرجه أحمد والستة : من هذا الطريق ، وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه : من طريق أنس باختلاف أو زيادة أو اختصار . انظر : صحيح البخاري ( 6/191-192 و198، و7/77 و9/161) ، ومسلم ( 2/194) ، وسنن أبي داود ( 4/259) ، والترمذي ( 10/308-309) ، والجامع الصغير ( 2/153) ، والفتح الكبير ( 3/130) ، وفيض القدير ( 5/454-455) ، وهداية الباري ( 2/238) .
( [3]) اقتباس من سورة النحل ( 16/88) .
( [4]) كما في المصابيح ( 2/130) بزيادة مشهورة ، وقد أخرجه- من طريق أبي هريرة مسلم ( 8/56) وأحمد بن ماجه كما في الفتح الكبير ( 3/250-251) .