ذلك لمن كان إيمانه بين إيمان المقتصد و الظالم لنفسه، بينما إذا كان إيمانه بين إيمان المتقصد و المحسن كانت نفسه بين اللوم و الطمئنينة، أما حال السابقين للخيرات من أولياء الله الصالحين فهؤلاء نفوسهم تحي في جنة الذكر و الطاعة تتذوق فيها أحلى معاني السعادة لتحقيقهم أوثق عرى الايمان.
قال ابن القيم -رحمه الله-: «سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه-
يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ إن رحت فهي معي لا تفارقني, إنَّ حبسي خلوة, وقتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة!
وكان يقول -في محبسه في القلعة-: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير, ونحو هذا, وكان يقول في سجوده -وهو محبوس-: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ما شاء الله! وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه -تعالى-, والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة, وصار داخل سورها؛ نظر إليه وقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط, مع ما كان فيه من ضيق العيش, وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها, ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق, وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً, وأشرحهم صدراً, وأقواهم قلباً, وأسرهم نفساً, تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه, فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله, وينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينةً! فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه, وفتح لهم أبوابها في دار العمل؛ فآتاهم من روحها, ونسيمها, وطيبها, ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها!
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله -تعالى- ومعرفته وذكره. أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً, وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فمحبة الله -تعالى-, ومعرفته, ودوام ذكره, والسكون إليه, والطمأنينة إليه, وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة, بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته؛ هو جنة الدنيا, والنعيم الذي لا يشبهه نعيم, وهو قوة عين المحبين, وحياة العارفين, وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله -عز و جل-, فمن قرّت عينه بالله قرّت به كل عين, ومن لم تقرّ عينه بالله تقطَّعت نفسه على الدنيا حسرات.
وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة, وأما ميت القلب فيوحشك ما له ثَمَّ, فاستأنس بغيبته ما أمكنك, فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك, فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك, وترحَّل عنه بقلبك, وفارقه بسرِّك, ولا تشغل به عما هو أولى بك.
واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله -عز و جل-, وانقطاعك عنه, وضياع وقتك, وضعف عزيمتك, وتفرق همك.
فإذا بليت بهذا -ولا بد لك منه- فعامل الله -تعالى- فيه واحتسب عليه ما أمكنك, وتقرب إلى الله -تعالى- بمرضاته فيه, واجعل اجتماعك به متجراً لك لا تجعله خسارة, وكن معه كرجل سائر في طريقه عرض له رجل وقفه عن سيره, فاجتهد أن تأخذه معك وتسير به فتحمله ولا يحملك, فإن أبى ولم يكن في سيره مطمع؛ فلا تقف معه, بل اركب الدرب ودعه ولا تلتفت إليه, فإنه قاطع الطريق ولو كان من كان, فانج بقلبك, وضنَّ بيومك وليلتك, لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة, فتؤخذ أو يطلع الفجر أنى لك بلحاقهم!».اهـ «الوابل الصيب» (ص53, 54).