أيُّها الإخوة الكرام : نأتي بعد هذا إلى الحديث عن حقيقة تزكية النّفس ، وما هي الأمور التي تزكو بها النّفس البشرية ؟ ويُمكنُ إجمال ذلك أيُّها الإخوة الكرام في أمورٍ ثلاثة :
§ الأمر الأول ؛ وهو أساس تزكية النّفس ، ولا زكاء لنفسٍ إلّا إذا قامت عليه وتأسست عليه ألا وهو : الإيمان بالله وتوحيده سبحانه وتعالى وإخلاص الدِّين له ، ألا وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلّا الله بما تعنيه هذه الكلمة من توحيد وإخلاص وإفراد لله سبحانه وتعالى بالذّل والخضوع والمحبة والامتثال وجميع أنواع العبادة ، وهذا أساس تزكية النفس .
والنفس بأعمالها الصالحة وطاعاتها الزَاكية مَثلها مَثل شجرةٍ مُباركة ، ومن المعلوم أنَّ الأشجار لا قيام لها إلّا على أصُولها ، وقد قال الله تعالى في سورة إبراهيم : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) ؛ وبهذا يُعلم أنَّ تزكية النّفس له أساس لا تقوم التزكية إلا عليه ؛ وهو توحيد الله وإخلاصُ الدّين له جل وعلا ، قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) [الشمس:9-10 ] ، وقال الله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) [فصلت:6-7] ، قال ابن عباس : لا يشهدون أنَّ لا إله إلا الله . وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم أي : ليست زاكية . وقيل : لا يُطهرونها بالإخلاص ، كأنّه أراد والله أعلم أهل الرِّياء فإنَّه شِرك . وقال الله سبحانه وتعالى في قصة موسى مع فرعون : ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) [النازعات:18] أي بالإخلاص والتوحيد لله جل وعلا .
فالتّزكية شجرةٌ مباركة عظيمة الثَمر كبيرة الأثر لها أصل لا قيام لها إلّا عليه ألا وهو : توحيد الله عز وجل وإخلاص الدين له سبحانه وتعالى . وكُـلما كان هذا التوحيد والإخلاص والإيمان بالله مُتمكناً من القلب كان هذا أبلغ في نَماء هذه الشّجرة وكونها مُثمرةً أطايب الثَمر ولذيذه وحسَنه ونافعه .
§ الأمر الثاني من جوانب تزكية النّفس : تزكيتها بفرائض الإسلام وواجبات الدّين وحُسن التّـقرب إلى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه تبارك وتعالى وزجـر .
ولهذا ينبغي أنْ يُعلَم أنّ التزكية لها جانبان لا تكون إلّا بهما ، يدُل عليهما أصل هذه الكلمة اللُّغوي ، وأيضاً دلالة هذه الكلمة في نصوص الشرع ، وإذا نظرنا في كتب اللّغة في معنى التّزكية ومدلولها نجِد أنَّ لها جانبان كلاهما من معاني التزكية وهما : الطهارة والنّماء ؛ فالتزكية : طهارة ونماء ، ولهذا يُقال : زكى الزّرع إذا طاب وزالت عنه المؤذيات التي تُضعِف نماءَه . وتُسمى الصدقة المفروضة زكاة لأّنها تُطهر المال ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) [التوبة:103] ، ولأنَّها أيضاً في الوقت نفسه سببٌ لنماء المال . فالتزكية طهارة وفي الوقت نفسه نماء ؛ طهارة بالبُعد عن الأعمال المحرمة والمعاصي والآثام ، ونماءٌ بفعل الطاعات والعبادات المقرِّبة إلى الله سبحانه وتعالى.
وعليه - أيّها الإخوة - فإنّ التّـزكية لابد فيها من فعل الأوامر التي فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده وأوجبها عليهم ، ولابد أيضاً في الوقت نفسه من البُعد عن النّواهي والآثام ، ففِعْل الأمر تزكية ، وترك النَّهي أيضاً تزكية ، فالتزكية تخْليةٌ وتحلية ؛ تخليةٌ للنّفس بإبعادها عن الرذائل والخسائس ، وتحليةٌ لها بفعل الأوامر والطاعات المقربة إلى الله سبحانه .
- فالصّلاة تزكية ، قد قال الله عز وجل : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [العنكبوت:45] ، وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ، قَالَ : فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا )) .
- الزكاة تزكية ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) .
- والصيام تزكية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة:183] .
- الحج تزكية .
- جميع الطاعات التي أمر الله عزّ وجل عباده بها كُـلها داخلة في هذا الباب - باب تزكية النَّفس - ولهذا قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) [الأعلى:14-15]
- الذّكر تزكيةٌ للنَّفس ، بل هو أعظم باب تزكو به النُّفوس وتتطهر به القلوب وتطمئن ، وكم للأذكار المشروعة من الآثار المباركة على أهلها في الدنيا والآخرة من تطهيرٍ وتنقيةٍ للنّفس من أدرانها وتفريطها وتقصيرها ، والحديث في هذا الجانب قد يطول لكـنني أكتفي بمَثلٍ واحد في هذا الباب من السنة وهو ما رواه الترمذي في جامعه : أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مرَّ - وكان مع أصحابه - بشجرة يابسة الورق ، وبيده عليه الصلاة والسلام عصا ، فضرب الشّجرة بالعصا التي بيده فأخذ الورق يتناثر ويتساقط من تلك الشجرة ، فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة وهم ينظرون في هذا الورق يتساقط من هذه الشّجرة : (( إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَتُسَاقِطُ مِنْ ذُنُوبِ الْعَبْدِ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)) ؛ فذِكر الله عز وجل تزكية للنُّفوس وطهارة لها .
- وعُـموم الطاعات والعبادات المقرِّبة إلى الله جل وعلا كلّها داخلة في هذا الباب ؛ باب تزكية النفس .
- كذلك ترك النواهي والمحرمات واجتنابُ الكبائر والموبقات بابٌ مهم للغاية في تزكية النّفس ، فإذا غـشي العبد الحرام وارتكب الآثام يكون بذلك دنّس نفسه ودسّاها وحقّرها بحسب فِعله لتلك المحرمات وارتكابه لتلك الآثام ، وفي هذا تأمل قول الله سبحانه : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور:30] . فالبُعد عن المحرمات واجتناب الكبائر والآثام كل ذلكم -أيّها الإخوة الكرام - داخل في باب تزكية النّفس . في هذا المعنى أيضا قول الله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) [النور:28] .
§ الأمر الثالث في باب تزكية النّفس : تزكيتها بفعل الرّغائب والمستحبات ، وهذه مرحلة تأتي بعد مرحلة الفرائض ، في الحديث القدسي يقول الله تعالى : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )) .
فهذه مجالات التزكية وجوانبها وهي تتلخص في أمور ثلاثة :
§ الأول الأصل : وهو توحيد الله والإيمان به وبكل ما أمر سبحانه وتعالى عباده بالإيمان به .
§ والثاني : تزكيتها بفعل الفرائض والواجبات وترك الكبائر والمحرمات .
§ والثالث : تزكيتُها بفعل الرّغائب والنّوافل والمستحبات .