سبق لنا في الحلقة الأولى أن الهداية منة ربانية أصل عظيم في هذا الباب ؛ ذلك أن تزكية النفس وزكاءها بيد الله ، فمن أراد لنفسه أن تزكو وأن تثبُت وأن تستقيم على الزكاة فعليه باللجوء إلى الله ، وطلب ذلك من الله ، وحُسن الإقبال على الله جل وعلا ؛ لأن الأمر بيده عز وجل.
- وهذا ينقلنا إلى الأصل الثاني في هذا الباب العظيم ألا وهو : أهمية الدعاء وعظيم مكانته في هذا الباب العظيم وفي كل باب ، والدعاء - كما قال أهل العلم - مفتاح كل خير ، قال بعض السلف : " تأملتُ الخير فإذا هو أبواب كثيرة ؛ الصلاة خير ، والصيام خير، والصدقة خير، وبر الوالدين خير ، وعلمتُ أن ذلك كله بيد الله " أي لا يمكن أن تصلي إلا إذا أعانك الله ، ولا أن تصوم إلا إذا أعانك الله ، ولا أن تبرّ والديك إلا إذا أعانك الله ، كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
كل ذلكم بيد الله عز وجل ، يقول " فأيقنت أن الدعاء مفتاح كل خير " فكل خيرٍ ترجوه لنفسك وتريده من خيرات الدنيا والآخرة – من الخيرات الدينية والدنيوية - فاطلبه من الله والجأ إلى الله في نيله وتحصيله ، ولهذا جاء في صحيح مسلم من دعائه عليه الصلاة والسلام : (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ )) . تأمل!! أصلح لي .. أصلح لي .. أصلح لي . فلا يمكن أن تصلح دنياك ، ولا يمكن أن يصلح دينك ، ولا أن تصلح آخرتك إلا إذا أصلحها الله لك ؛ فصلاح ذلك كله بيد الله ؛ ولهذا جاء أيضا في دعاء الكرب: ((اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ؛ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ )) فهذا أمرٌ بيد الله .
وفي باب التزكية: صح عن النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم أنه عليه الصلاة والسلام قال في دعاءه : (( اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ؛ أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا )) فسأل الله سبحانه وتعالى تزكية النفس ((آت نفسي تقواها )) ، فالنفس لا تؤتى التقوى ولا تؤتى الزكاة إلا إذا آتاها الله سبحانه وتعالى ذلك ومنَّ عليها جل وعلا به ، فهو أمرٌ بيده ، ولهذا فقر العبد إلى الله سبحانه وتعالى فقرٌ ذاتي من كل وجه ؛ كما أن غنى الله سبحانه عن عباده غنىً ذاتي من كل وجه ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15 ) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) [فاطر:15-17] ، وقال جل وعلا في الحديث القدسي : ((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي )) ؛ فالأمر بيد الله عز وجل ، والعبد بحاجةٍ شديدة إلى دعاء مستمر وإلحاحٍ على الله سبحانه وحُسن إقبالٍ على الله عز وجل ؛ راجياً طامعاً راغباً مقبلاً ، والله عز وجل لا يخيِّب عبداً دعاه ، ولا يردُّ مؤمناً ناجاه .قد قال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة:186] . قال عمر رضي الله عنه: " إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء " .