نضال ابن فوزي
:: عضو منتسِب ::
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حثَّ الإسلام على الزَّواج، واهتمَّ به اهتمامًا عظيمًا، فجعله الله تعالى مِن آياته الدَّالَّة على عظمته وكمال قُدرته، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾[الروم:21].
فمِن نِعمه تعالى على عباده أنْ جعل لهم مِن أنفسهم أزواجًا مِن جِنْسهم وشكلهم وزيِّهم، ولو جعل الأزواج مِن نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودَّة ورحمة؛ ومِن رحمته خلق مِن بني آدم ذُكورًا وإناثًا، وجعل الإناث أزواجًا للذُّكور، فلا أُلفة بين زَوْجين أعظم ممَّا بين الزَّوجين؛ ولهذا ذَكر تعالى أنَّ السَّاحر ربَّما توصَّل بكيده إلى التَّفرقة بين المرء وزوجه(1).
وبالزَّواج يتكاثر النَّاس، ويَعْمُرُون الأرض، قال تعالى: ﴿وَالله جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾[النحل:72].
وقد نبَّه الله تعالى على أنَّه خلق جميع النَّاس من آدم عليه السلام وخلق منه زوجه حوَّاء، ثمَّ بثَّ النَّاس منهما ونشرهم، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾[الحُجُرات:13]، وقال ـ أيضًا ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾[النساء:1]، أي: ذَرَأ مِن آدم وحـوَّاء رجالاً كثيرًا ونساءً عن طريق تزاوجهـم، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم(1).
والزَّواجُ سبيلٌ لإحصان النَّفس وإعفافها، وهو أََخْفَض وَأَدْفَع لِعَيْنِ الْمُتَزَوِّج عَن الأجْنَبِيَّة، وأَحْفَظ لِلْفَرْجِ عَن الْوُقُوع فِـي الْحَرَام، قال رسول الله ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَة(2) فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ(3)»(4).
خَصَّ هذا الحديث الشَّبَاب بِالْخِطَابِ؛ لأَنَّ الْغَالِب وُجُود قُوَّة الدَّاعِي فِيهِمْ إِلَى النِّكَاح بِخِلاَفِ الشُّيُوخ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا إِذَا وُجِدَ السَّبَب فِي الْكُهُول وَالشُّيُوخ أَيْضًا(5).
ولابدَّ أنْ تُبنى العلاقة بين الزَّوجين على التَّقدير والاحترام، وأنْ يُرَاعِيَ كلُّ واحد منهما حقوقَ صاحبه، وبهذا تمتلئ القلوب محبّة ومودّة، وتَسُود حياتَهما السَّكينةُ والاطمئنانُ.
وقد وردت نصوصٌ كثيرةٌ مِن الكتاب والسُّنَّة تُبرز معالم العِشرة الحسنة، المبْنِيَّة علـى إحسان الزَّوج معاملة زوجته، وطاعة الزَّوجة لِبَعْلِهَا بالمعروف، وبتحقيق هذين الأصلين ـ مِن الحقوق الزَّوجيَّة ـ يعيش الزَّوجان حياة هادئة سعيدة مطمئنَّة.
وفي هذا المقال سأتطرَّق إلى الحديث عن حقوق كلٍّ مِن الزَّوجين، وأبدأ ـ في الجزء الأوَّل منه ـ بحقوق الزَّوجة، على أن يأتيَ الحديثُ عن حقوق الزَّوج في الجزء الثَّاني مِن هذا المقال ـ إن شاء الله تعالى ـ.
حُـــــــــــقُـــــــوق الــــــــــزّوجــــــــــــــة:
للزّوجة حقوقٌ كثيرة مُقابل حقوق الزَّوج، فكلَّما زادت حقوقُ الزَّوج زادت بجانبها حقوق زوجته عليه، قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَالله عَزِيزٌ حَكُيم﴾[البقرة:228]،ومعنى ذلك أنَّ للمرأة علـى الرَّجل مِن الحقِّ مثلَ ما للرَّجل عليها، لذا يتعيَّن أنْ يؤدِّيَ ما يجب عليه بالمعروف؛ وهذا باستثناء الدَّرجة الَّتي فضَّلـه الله بها، لكن لا يجوز للرَّجل أن يستغلَّ ما فضَّله الله به على المرأة مِن السِّيادة فيظلمها، ويهضمها حقَّها، ويعتدي عليها.
ـ فمِن حقِّ الزَّوجة على زوجها النَّفقة، وليس له ـ وهو في سعة ـ أنْ يأكل مِن طعام لا يأكل منه عِيالُـه، ويلبس ثيابًـا لا يكسوهم مِثْلها، ولا ينبغي أنْ يفحش مع المرأةِ، ولا يكثر مراجعتها، ولا يضرب وجهها؛ لأنَّه أشرف الأعضـاء وأظهرها، ومجمع أكثر الحواس كالسَّمع والبصر، ويشتمل على أجزاء شريفة ولطيفة، فربَّما أدَّى ذلك إلى ضرر فيها، وهو ما يدلُّ على وجوب اجتناب الوجه عند التَّأديب، كما لا يجوز للزَّوج أنْ ينشر سرَّ زوجته، ويكشف لغيره عيبها، ولا يقول لها قولاً قبيحًا، ولا يشتمها، ولا يُسمعها ما تكره؛ لأنَّ ديننا يُوجب على الزَّوج احترام زوجته، وينهـاه عن إهانتها بتوجيه كلمات نابية وقبيحة لها، لِمَا يترتَّب على ذلك من عواقب سيِّئة ووخيمة.
فعَنْ معاوية بن حيدة الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ ـ أَوْ اكْتَسَبْتَ ـ وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلاَ تُقَبِّحْ، وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ»(6).
ونَفقة الزَّوجة فرض على الزَّوج بالكتاب والسُّنَّة، وَانْعَقَدَ الإجْمَاع عَلَى وجوبها(7) وإنَّما وَجبت لها ـ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى ـ؛ لأَنَّهَا مَحْبُوسَة عَنْ التَّكَسُّب لِحَقِّ الزَّوْج.
أمَّا الدَّليل مِن الكتاب: فلآيـات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾[البقرة:233] وتكون النَّفقة من غير إسراف ولا إقتار، بحسب حال الزَّوج ـ فقرًا وغنًى ـ و على قدر الميسرة، قال تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾[الطلاق:7].
وأمَّا من السُّنَّة: فللحديث السَّابق، ولقوله ﷺ ـ أيضًا ـ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ»(8).
وَلْيَعْلَمِ الزَّوجُ أنَّ ما يُنفقه مِن ماله على زوجته وأولاده، فهو صدقـة في ميزان حسناته، بل هذا معدود مِن أفضل الصَّدقات، كما قال النَّبيُّ ﷺ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ؛ أَعْظَمُهَا أَجْرًاالَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ»(9)، ووجه هذا: أنَّ النَّفقة على الأهل واجبة، وليس الواجب كالنَّفل(10).
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: «بَدَأَ بِالْعِيَالِ، وَأَيُّ رَجُل أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُل يُنْفِق عَلَى عِيَاله، يُعِفُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ اللَّهُ بِهِ؟»(11).
ومِن الإثم العظيم أنْ يُهْمِل الرَّجلُ الإنفاقَ على زوجته وولده ومَن تلزمه نفقته، ومِن الظُّلـم الشَّنيع أن يقتِّر عليهم حتَّى يضيِّعهم، قال رسول الله ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِس عَمَّنْ يَمْلِك قُوته»(12) وفي رواية: «كَفَـى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»(13)، وهذا صريح في وجوب نفقة مَن يَقُوت، لتعليقه الإثم على تركـه، فعلى القادر السَّعي على عيالـه لئلاَّ يُضيِّعهم، فإنْ ضيَّق الرَّجلُ على أهله، ومنع عِياله وزوجته النَّفقة الواجبة، فَلِزَوْجَتِه أنْ تأخذ مِن ماله ولو بغير علمه، ولكن مِن غير إسراف وتبذير بل بالمعروف، وهو ما يعرفه الشَّرع ويأمر به، وهو الوسط العدل، وقيل: المراد بالمعروف القدر الَّذي عُرِف بالعادة أنَّه الكفاية(14).
فعَنْ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قَالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لِرَسُـولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ»(15).
ـ والمرأة أسيرة عند زوجها ومحبوسة، فمِن حُسن الخلق مجاملتها، والتَّوسعة عليهـا، والإحسان لها حتَّى يكون أحبّ النَّاس إليها، لذا خصَّها النَّبيُّ ﷺ ضِمن وصاياه في خطبة حجَّة الوداع فقال: «أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَـوَانٍ(16) عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ(17)فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُـنّضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ(18) فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً، أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِـي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ»(19).
ولَمَّا كانت المرأة ضعيفة ألحق النَّبيُّ ﷺ الحرج ـ وهو الإثم ـ بمَن ضيَّعها وهضمها حقَّها، وضيَّق ﷺ على مَن ظلمها، فحذَّره مِن ذلك تحذيرًا بليغًا، وزَجَره زَجْرًا أكيدًا، فقال: «إنِّي أحرّج عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: اليَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ»(20).
ـ والرَّجل الصَّالح هَو مَن يحسن عِشرة أهله ولا يعاملها بقَسوة، فقد كان النَّبيُّ ﷺ مِثالَ الزَّوج الصَّالح في احترام زوجاتـه، وكان أحسن النَّاس عِشرة لنسائـه، برًَّا ونفعًا، دِينًا ودُنيا، بل كان على الغاية القُصوى مِن حسن الخلق معهـنَّ، وكان يداعبهنَّ ويُباسطهنَّ، حتَّى إنَّه كان يرسل بنات الأنصار لعائشة رضي الله عنها يلعبن معها(21) وإذا شَرِبَتْ شَرِب مِن موضـع فمها(22) ويقبِّلها وهو صائم(23) وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وهـي متَّكئة على منكبه(24) وسابقها فـي السَّفر مرَّتين فسبقته وسبقها، ثمَّ قال: «هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَة»(25) وهو القائل ﷺ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»(26).
ولم يكن ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ ضرَّابًا للنِّساء، فعَنْ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَ لاَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، وَلاَ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَهُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ عز وجل فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ عز وجل وَمَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الآخَرِ إِلاَّ أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَأْثَمًا، فَإِنْ كَانَ مَأْثَمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ»(27).
وإذا كان خيرُ النَّاس هم خِيارهم لنسائهم، فمقتضاه أنَّ مَن كان على عكس ذلك فهو في الجانب الآخر، قال رسول الله ﷺ: «لَقَدْ طَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ، كُلُّهنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجهنَّ مِنَ الضَّرْبِ، وَايْمُ اللهِ لاَ تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ»(28).
ولقد قبَّح النَّبيُّ ﷺ صنيع الَّذين يُعامِلون زوجاتهم بقسوة، ثمَّ في المساء يطلبون حقَّهم منهنَّ، فقـال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِـدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ»(29) وذلك أنَّ المضاجعة إنَّما تُستحسن مَع مَيل النَّفس والرَّغبة، والمضروب غالبًَا ينفر مِن ضاربه(30).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّه لا تعارض بين هذه الأحاديث التي فيها نهي النَّبيِّ ﷺ عن ضرب النِّساء، والنُّصوص الشَّرعيَّة الأخرى الَّتي بيَّنت السَّبيل القويم الَّذي على الزَّوج أن يسلكه إذا رأى ترفُّعًا من زوجته، نحو قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[النساء:34].
وكذا قول رسول الله ﷺ في الحديث السَّابق ـ مِن خُطبة حجَّة الوداع ـ: «...إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً...» الحديث.
والجمع بين هذه النُّصوص ـ الَّتي تبدو متعارضة لأوَّل وَهْلة ـ أنْ يُقال: إنَّ الضَّرب لا يُباح إلاَّ في أحوال خاصَّة، وهذا بعد فشل الطُّرق العلاجيَّة الأولى، مِن وعظٍ ونصحٍ وإرشادٍ، ثمَّ هجرٍ في المضجـع، ثمَّ إنْ كان ولابدَّ فليكن التَّأديب بالضـَّرب اليسير، الَّذي يؤثّر في النَّفس لا في الجسد، بحيث لا يحصل منه النُّفور التَّام بين الزَّوجين.
ومِن جهة أخرى يمكن أنْ يُقال: إنَّ للزَّوج أنْ يضرب زوجته تأديبًا إذا رأى منها ما يكـره، فيما يجب عليها فيه طاعته، فإنْ اكتفى بالتَّهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، لما في وقوع ذلك مِن النُّفرة المضادَّة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزَّوجية، إلاَّ إذا كان في أمر يتعلَّق بمعصية الله(31).
وقيل: يحتمل أنْ يكون النَّهي على الاختيار، والإذن فيه على الإباحة.
وقيل: النَّهي عن ضربهنَّ كان قبل أمره ﷺ به، وقبل نزول الآية بضربهنَّ، ثمَّ أذِن بعد نزولها فيه.
قال عليّ القاري: «والأظهر: أنَّ النَّهي مُقيَّد بالضَّرب الشَّديد، فلا ينافيه أمره بالضَّرب المطلق بل يخصُّه»(32).
ـ وإذا ما امتثلت المرأة لطاعة زوجها، وأتت كلّ ما يريده منها ممَّا أباحه الله تعالى لـه، فلا سبيل له عليها بعـد ذلك؛ لأنَّ ضرب المرأة إنَّما أُبيح مِن أجل عصيانها زوجَها فيما يجب مِن حقِّه عليها، وإلاَّ فليس له ضربُها ولا هجرُها؛ لأنَّ ذلك مِن الأذى، وقد حرَّم الله تعالى أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فكذلك ضربهنَّ بغير ما اكتسبن ، لقوله تعالـى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾[الأحزاب:58] وسواء كان المضروب امرأةً وضاربها زوجُهـا، أو مملوكًا وضاربُه مولاه، أو صغيرًا وضاربُه والدُه؛ لأنَّ الله أباح لهؤلاء ضرب مَن ذُكِر بالمعروف على ما فيه صلاحُهم(33).
فإذا بغى الأزواج على النِّساء مِن غير سبب، فإنَّ الله العليَّ الكبير وليُّهنَّ، وهو مُنتقم ممَّن ظلمهنَّ وبغى عليهنََّ؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[النساء:34]فاحذروه فإنَّ قدرتَه سبحانه عليكم أعظمُ مِن قدرتكم على مَن تحت أيديكم منهنَّ، وأنَّه تعالى على علوِّ شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيِّئاتكم، فتجاوَزُوا أنتم عن سيِّئات أزواجكم، وأنَّه تعالى قادرٌ على الانتقام منكم، غير راضٍ بظلم أحد، وأنَّه سبحانه مع علوِّه المطلق وكبريائـه لم يكلِّفكم إلاَّ ما تطيقون، فكذلك لا تكلِّفوهنَّ إلاَّ ما يُطِقْن.
فإذا كنتَ ـ أيُّها الزَّوج ـ متعاليًا في نفسك، فاذكر علوَّ الله عز وجل؛ وإذا كنتَ عظيمًا في نفسك، فاذكر عظمة الله تعالى وإذا كنتَ كبيرًا في نفسك، فاذكر كبرياء الله تعالى(34).
وقد أرشد الله تعالى الرِّجال إلى الطَّريقة الحسنة الَّتي يجب عليهم أنْ يسلكوها في حال بُغْضِهِم لأزواجهم، فقال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النساء:19]، ومعنى ذلك أنْ يحسن الزَّوج صُحبتها ومُعاملتها، ويُسايرها فيما أحلَّه الله لا فيما حرَّم، لا سيما إذا كانت حديثة السِّنِّ، ويكفّ أذاه عنها، ويُظهـر لها البِشْر والطَّلاقة، وينبسط معها.
والمعاشرة بالمعروف تحوي جميع حقوق الزَّوجة على زوجها، ممَّا ذُكر سابقًا، وما سيأتي بعد هذا لاحقا ـ إن شاء الله تعالى ـ.
ـ وعلى الرَّجل أنْ يحرص على أداء حقِّ زوجته ويُعفّها عن الحرام، لا يُشغله عن ذلك صلاة تطوُّع ولا صيام نفل، فضلاً عن غير ذلك مِن أمور الدُّنيا؛ فعن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيّ ﷺ قَالَتْ: «دَخَلَتْ عَلَىَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ ابْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ، وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَتْ: فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا(35) فَقَالَ لِى: «يَا عَائِشَةُ! مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! امْرَأَةٌ لاَ زَوْجَ لَهَا، يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، فَهِيَ كَمَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا ـ قَالَتْ ـ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ! أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي؟» قَالَ: فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَ لَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ، قَالَ: «فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ»(36).
ـ وعلى الزَّوج أن يغضَّ طَرْفَه عن بعض أخطاء زوجته وهفواتها، ما لم يكن في ذلك إثم ومعصية، فإذا أبغض مِنها تصرُّفـا، أو كَرِه منها خُلقا معيَّنا، رضي منها آخر؛ لأنَّ الكمال لله تعالى وحده، ولله درُّ القائل:
ومَن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلّها
كـفـى الـمرءَ نُبْلاً أنْ تُعدَّ معــايبـــه
كـفـى الـمرءَ نُبْلاً أنْ تُعدَّ معــايبـــه
وفي هذا المعنى يقول نبيُّنا ﷺ: «لاَ يَفْرَكْ(37) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَـا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ـأَوْ قَـالَ غَيْرَهُ ـ»(38).
أي: لا ينبغي للرَّجل أنْ يُبغضها لما يرى منها فيكرهه؛ لأنَّه إذا كره شيئًا رضي آخر، فَلْيُقَابِل هذا بذاك، فمثلاً إنْ كَرِه منها خُلُقًا حَمِد دينها وقناعتها وحفظها لماله وشفقتها عليه، وخدمتها له؛ فلا تخلو المؤمنة مِن خلّة حسنة يحمدها الزَّوج عليها.
والمراد مِن الحديث: أنَّ المؤمنة يحملها الإيمان على استعمال خِصال محمودة يحبُّها المؤمن، فيحمل ما لا يحبُّه لما يحبُّه، وفيه إشارة إلى أنَّ الصَّاحب لا يُوجد بدون عَيب، فإنْ أراد الشَّخصُ بريئًا مِن العيب يبقى بلا صاحِـب، ولا يخلو الإنسان سِيَما المؤمـن عن بعض خصال حميدة، فينبغي أنْ يراعيها، ويستر عيبها(39)، وقد أحسن مَن قال:
إذا كنت في كـلِّ الأمـور مُعَاتِـبًا
أَخًــا لـك لـم تَـلْـقَ الـذي لا تُعاتبـه
فَعِـشْ واحدًا أو صِـلْ أخاك فــإنّـه
مُـقَـــارِفُ ذنـــبٍ مـــــرَّة ومــجـــانـبـه
إذا أنتَ لم تشرب مِرارًا علـى القذى
ظَمِئْتَ وأيُّ النَّاس تصفو مَشَارِبُه(40)
أَخًــا لـك لـم تَـلْـقَ الـذي لا تُعاتبـه
فَعِـشْ واحدًا أو صِـلْ أخاك فــإنّـه
مُـقَـــارِفُ ذنـــبٍ مـــــرَّة ومــجـــانـبـه
إذا أنتَ لم تشرب مِرارًا علـى القذى
ظَمِئْتَ وأيُّ النَّاس تصفو مَشَارِبُه(40)
لذا يتعيّن على الزَّوجِ أنْ يتنازلَ عن كثيرٍ مِن محبوباته ورغباته مِن أجلِ استقرارِ أحـوالِ بيته أبنائه، وخاصَّة إذا كانت زوجتُه تقوم له بكلِّ حُقوقه، ولا تعصيه في معروف.
ـ وممَّا يجدر له التَّنبيه هنا إعلام الزَّوج أنَّ المرأة لم تُخلق كاملة، لذا يتعيَّن عليه مُداراتها وملاطفتها لاستمالة نفسهـا، وتأليف قلبها، وسياستها بأخذ العفو عنها، والصَّبر عليها؛ فإنَّه بذلك يبلغ ما يريده منها مِن الاستمتاع بها، وحُسن العِشرة معهـا الَّذي هو أهمُّ المعيشة، وإلاَّ فإنْ رام تقويمها فاته النَّفع بها، مع أنَّه لا غِنى له عن امرأة يسكن إليها.
قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا»(41).
وقال ﷺ ـ أيضًا ـ: «إِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّكَ إِنْ تُرِدْ إِقَامَةَ الضِّلَعِ تَكْسِرْهَا، فَدَارِهَا(42)تَعِشْ بِهَا»(43).
والمعنى: أنَّ النِّساء في خَلْقِهنَّ اعوجاج في الأصل، فلا يستطيع أحدٌ أنْ يغيِّرهنَّ عمَّا جُبِلْنَ عليه، فلو ذهب الرَّجـل يردُّها إلى الاستقامة، وبالغ في ذلك، وما سامحها في أمورها، وما تغافل عن بعض أفعالها كسرها، كما هو مُشاهد في المُعْوَجِّ الشَّديـد اليابس، وكسرها طلاقها، كما قال النَّبيُّ ﷺ.
وفي هذا إشعارٌ باستحالة تقويمها، أي: إنْ كان لابدَّ مِن الكسر، فكسرها طلاقها؛ لذا أرشد النَّبيُّ ﷺ ـ في هذا الحديث ـ ونصح بملاطفة النِّساء، وحَثَّ على الرِّفق بهنَّ، والإحسان إليهنَّ، والصَّبر على عِوَج أخلاقهنَّ، واحتمال ضعف عقولهنَّ وكراهة طلاقهنَّ بلا سبب شرعيٍّ، وأنَّه لا مَطْمَع في استقامتهنَّ الاستقامة التَّامَّة؛ وفيه رمز إلى التَّقويم برفق، بحيث لا يُبالغ فيه فيُكْسر، ولا يتركه على عوجه فيفسد؛ وإلى ذلك يُشير قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾[التحريم:6] (44).
ويجوز للرَّجل في هذا الباب أن يُظهر لزوجته خلاف ما يُبطن، فيكذب عليها إرضاءً لخاطرها، وطلبًا للمودَّة والألفة بينهما.
ومعنى كذبه عليها: هو أنْ يَعِدَها ويمنِّيها، ويُظهر لها مِن المحبَّة أكثر ممَّا في نفسه، يستديم بذلك صُحبتها، ويُصلح به خُلقها.
فعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: «مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرَخِّصُ في شَيْءٍ مِنْ الكَذِبِ إِلاَّ في ثَلاَثٍ، كَانَ رَسُـولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لاَ أَعُدُّهُ كَاذِبًا: الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، يَقُولُ الْقَوْلَ وَلاَ يُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الإِصْلاَحَ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ في الحَرْبِ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ، وَالمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا»(45).
على أنْ لا يكون كذبه عليها لإسقاط حقٍّ وجب عليه، وإنَّما يخبرها بالأمور المعنويَّة، الَّتي لا يمكن لها أن تكتشف كذبه فيها.
قال النَّووي: «وَأَمَّا كَذِبه لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبهَا لَهُ، فَالْمُرَاد بِهِ في إِظْهَار الوُدِّ وَالوَعْد بمَا لاَ يَلْزَم وَنَحْو ذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُخَادَعَة في مَنْع مَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا، أَوْ أَخْذ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا، فَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، وَاَللَّه أَعْلَم»(46).
وإذا علمَ الزَّوجُ هذه الحقيقة، اقتنع بأنَّ الحِلم هو قِوام أسرته، واستمرار حياته مع زوجته، فيوطِّن نفسه على الصَّبر وتَحَمُّل كثيرٍ ممَّا يكره، وهذا هو الَّذي كان عليه النّبيّ ﷺ مع أزواجه ـ رضي الله عنهنَّ ـ مِن الحِلم والتَّجاوز، ففي حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه الطَّويل، يحكي فيه قول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال: «...وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَـى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ...»(47).
قال الحافظ ابن حجر: «وفيه (أي: هذا الحديث) أنَّ شدَّة الوطأة على النِّساء مذموم؛ لأنَّ النَّبيَّ ﷺ أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم، وترك سيرة قومه»(48).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْـتِ عَلَيَّ غَضْبَى»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَـالَ: «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ»، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ ﷺ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ»(49).
فما أروع هذا الموقف مِن النَّبيِّ ﷺ الَّذي إنْ أقامه الزَّوجان في بيتهما استمرّت حياتهما بسلام، فعلى الرَّجل أنْ يستقرئ حال المرأة مِن فعلها وقولها فيما يتعلّق بالميل إليه وعدمه، حيث إذا غضبت تعيَّن عليه أن يكون حليمًا صبورًا، ولا يقابل غضبهـا بمثله أو بأشدّ منه، فيقع ما ليس بالحسبان، وتنشأ العداوة، ويشتدُّ الخصام، وربَّما تهدَّمت أركان الأسرة، وتمزَّق شملها.
ولكن هذا لا يعني أنَّ الزَّوج يُطلق لزوجته الحبل فتسيء وتُفسد، أو يتركها على الاعوجاج إذا تعـدَّت ما طُبعت عليه مِـن النَّقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو بترك الواجب، بل المراد تركها على عِوَجها في الأمور المباحة فقط(50).
وأمَّا إذا تعلَّق الأمر بالحرام ومواقعة المعصية، فعليه أنْ يعالج المخالفة برفق وحِكمة؛ لأنَّ المنكر لا يُعالَج بمنكر مثلِه بل بمعروف ثمَّ يغتنم فرصة هدوئها واستقرار بالها، فينصحها ويرشدها، فتعترف حينئذ وتستجيب.
قال ابن بطَّال: «قال الطَّبري: فيه الدّلالة الواضحـة على أنَّ الَّذي هو أصلح للمرء، وأحسن به الصَّبر على أذى أهلـه، والإغضاء عنهم، والصّفح عمَّا يناله منهنَّ مِن مكروه، في ذات نفسه، دون ما كان في ذات الله»(51).
___________________________________
(1) انظر: «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (2 /206 و525) و(4 /586).
(2) الباءة: المنْزِلِ؛ لأنَّ مَن تزوَّج امْرأة بَوَّأها مَنْزلاً. قاله ابن الأثير في «النِّهاية في غريب الحديث» (1 /419). وقيل: هي مُؤْنة الزَّواج وتكاليفه.
(3) الوِجَاء: هُوَ رَضّ الخُصْيَتَيْنِ، وَقِيلَ: رَضّ عُرُوقِهِمَا، وَمَنْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ تَنْقَطِعُ شَهْوَته، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ قَامِع لِشَهْوَة النِّكَاح، وَيَقْطَع شَرّ الْمَنِيّ؛ انظر: «فتح الباري» لابن حجر (6 /146) و«شرح مسلم» للنّووي (5 /70).
(4) أخرجه البخاري (5066) ومسلم (3464).
(5) أفاده الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (14 /393).
(6) أخرجه أبو داود (2142) وهو في «صحيح سنن أبي داود» (1875).
(7) نقل الإجماع الحافظ ابن حجر في «الفتح» (15 /211) والنَّووي في «شرحه على مسلم» (4 /312).
(8) رواه مسلم (3009).
(9) رواه مسلم (995).
(10) انظر: «كشف المشكل من حديث الصَّحيحين» لابن الجوزي (3 /555).
(11) انظر: «فتح الباري» (15 /210).
(12) رواه مسلم (996).
(13) أخرجه أحمد (6495) وأبو داود (1692) وهو في «صحيح سنن أبي داود» (1442).
(14) انظر: «فيض القدير شرح الجامع الصغير» للمُناوي (4 /552) و«عون المعبود شرح سنن أبي داود» للعظيم آبادي (9 /326).
(15) أخرجه البخاري (2211) ومسلم (4574).
(16) العواني: جَمْعُ عانيةٍ، وهي الأسيرة المحبوسة؛ انظر: «النِّهاية في غريب الحديث» (3 /598).
(17) الفاحشة المبيّنة: هي الفحش والقُبح، والمراد النُّشوز وشكاسة الخُلق، وإيذاء الزَّوج باللِّسان، لا الزِّنا إذْ لا يناسب.
انظر: «حاشية السِّندي على ابن ماجه» (4 /108).
(18) الضَّرب المبرِّح: هو الشَّديد والشَّاقّ والمؤثِّر؛ انظر: «شرح النَّووي على مسلم» (4 /312).
(19) رواه التِّرمذي (1163) وابن ماجه (1924) وهو في «صحيح سنن ابن ماجه» (1501).
(20) رواه أحمد (2 /439) وابن ماجه (3678)، وهو في «الصحيحة» (1015).
(21) البخاري (6130) ومسلم (6440).
(22) مسلم (718).
(23) البخاري (1927) ومسلم (2632).
(24) البخاري (435) ومسلم (1481).
(25) «صحيح سنن أبي داود» (2578).
(26) رواه التِّرمذي (4269) وابن ماجه (2053) وهو في «صحيح سنن التِّرمذي» (3057).
(27) رواه أحمد (24080) وقال شُعيب الأرنؤوط في «تعليقه على المسند» (6 /21): «حديث صحيح».
(28) أخرجه أبو داود (2146) والنّسائي في «الكبرى» (9167) وابن ماجه (1985) والحاكم (2765) وهو في «صحيح سنن أبي داود» (1863) و«صحيح سنن ابن ماجه» (1615).
(29) رواه البخاري (4942) ومسلم (2855).
(30) انظر: «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» للعيني (20 /193).
(31) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (9 /204).
(32) «مرقاة المفاتيح شرح مِشكاة المصابيح» (10 /182).
(33) انظر: «شرح البخاري» لابن بطَّال (13 /308).
(34) انظر ـ في معنى الآية ـ: «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (2/296) و«روح المعاني» للآلوسـي (4 /45) و«تفسير القرآن الكريم» للعثيمين (5 /205).
(35) البَذَاذَة: هي رَثَاثَة الهيئة، وسوء الحال؛ انظر: «لسان العرب» (3 /477).
(36) رواه أحمد (27062) وهو في «صحيح الجامع» (7946).
(37) أي: لا يُبغض ويَكره.
(38) رواه مسلم (1469).
(39) انظر: «الدّيباج شرح صحيح مسلم بن الحجَّاج» للسّيوطي (4 /80)، و«مِرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» لعليّ القاري (10 /181) و«كشف المشكل مِن حديث الصَّحيحين» لابن الجوزي (3 /591).
(40) «طبقات الشُّعراء» لابن المعتز (1 /3).
(41) رواه مسلم (1468).
(42) أي: لايِنْها ولاَطِفْها.
(43) رواه أحمد (20105) وهو في «صحيح الجامع» (1944).
(44) انظر: «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (3 /275)، و«شرح مسلم» للنّووي (5 /207)، و«فيض القدير شرح الجامع الصّغير» للمُناوي (2 /491).
(45) رواه مسلم (6799) وأبو داود (4921) واللَّفظ له وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (545).
(46) «شرح مسلم» (8 /426) .
(47) رواه البخاري (2468) ومسلم (3768).
(48) «فتح الباري» (14 /482).
(49) رواه البخاري (4930) ومسلم (2439).
(50) انظر: «فيض القدير شرح الجامع الصّغير» للمُناوي (2 /491).
(51) «فتح الباري» (13 /306).
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 11»