بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلّم على عبده ورسوله محمّدٍ خاتَمِ المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
رأيت أن نتذاكر سويا أحكام الحج والعمرة والأضحية فنسأل الله أن يرزفنا العلم والعمل
ويشتمل موضوعنا على سبعة أبواب:
الباب الأول: في مقدمات الحج، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعريف الحج:
الحَجُّ في اللغة: القصد.
وفي الشرع: التعبد لله بأداء المناسك في مكان مخصوص في وقت مخصوص، على ما جاء في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
المسألة الثانية: حكم الحج وفضله:
1 - حكم الحج: الحج أحد أركان الإسلام وفروضه العظام، لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]. ولقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196].
ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (بني الإسلام على خمس ... )، وذكر منها الحج.
وقد أجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع مرة واحدة في العمر.
2 - فضله: ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة، منها:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (أخرجه مسلم برقم (1349). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حج لله، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) (متفق عليه). إلى غير ذلك من الأحاديث.
المسألة الثالثة: هل يجب الحج في العمر أكثر من مرة؟
لا يجب الحج في العمر إلا مرة واحدة وما زاد على ذلك فهو تطوع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فقال: (لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم) (رواه مسلم برقم (1337)، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة. وقد أجمع العلماء على أن الحج لا يجب على المستطيع إلا مرة واحدة.
وعليه أن يبادر بأدائه إذا تحققت شروطه، ويأثم بتأخيره لغير عذر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرِضُ له) (حسنه الألباني). وقد رُوي مرفوعاً وموقوفاً، من طرق يقوّي بعضها بعضاً: (من استطاع الحج فلم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً) (انظر: نيل الأوطار (4/ 337).
المسألة الرابعة: شروط الحج:
يشترط لوجوب الحج خمسة شروط:
1 - الإسلام: فلا يجب الحج على الكافر ولا يصح منه؛ لأن الإسلام شرط لصحة العبادة.
2 - العقل: فلا يجب الحج على المجنون ولا يصح منه في حال جنونه؛ لأن العقل شرط للتكليف، والمجنون ليس من أهل التكليف، ومرفوع عنه القلم، حتى يفيق، كما في حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) (صححه الألباني).
3 - البلوغ: فلا يجب الحج على الصبي؛ لأنه ليس من أهل التكليف ومرفوع عنه القلم حتى يبلغ للحديث الماضي: (رفع القلم عن ثلاثة ... )، لكن لو حج فحجه صحيح، وينوي له وليه إذا لم يكن مميزاً، ولا يكفيه عن حجة الإسلام، بلا خلاف بين أهل العلم؛ لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبياً فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: (نعم ولك أجر) (رواه مسلم برقم (1336). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أيما صبيٍّ حج ثم بلغ، فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق، فعليه حجة أخرى) (صححه الشيخ الألباني).
4 - الحرية: فلا يجب الحج على العبد؛ لأنه مملوك لا يملك شيئاً، لكن لو حج صحَّ حجه إن كان بإذن سيده. وقد أجمع أهل العلم على أن المملوك إذا حج في حال رقه، ثم أعتق، فعليه حجة الإسلام، إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يجزئ عنه ما حَجَّ في حال رقه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الماضي ذكره: (وأيما عبد حج ثم عتق، فعليه حجة أخرى).
5 - الاستطاعة: لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97]. فغير المستطيع مالياً، بأن كان لا يملك زاداً يكفيه ويكفي من يعوله، أو كان لا يملك راحلة توصله إلى مكة وترده. أو بدنياً بأن كان شيخاً كبيراً، أو مريضاً ولا يتمكن من الركوب وتحمل مشاق السفر، أو كان الطريق إلى الحج غير آمن، كأن يكون به قطاع طرق، أو وباء، أو غير ذلك مما يخاف الحاج معه على نفسه وماله، فإنه لا يجب عليه الحج حتى يستطيع، وقد قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] والاستطاعة من الوسع الذي ذكره الله، ومن الاستطاعة في حج المرأة: وجود المحرم الذي يرافقها في سفر الحج؛ لأنه لا يجوز لها السفر للحج ولا لغيره بدون محرم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها) (رواه مسلم برقم (1340)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي قال: إن امرأتي خرجت حاجَّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا: (انطلق فحج معها) (متفق عليه). فإذا حجت بدون محرم فحجها صحيح، وتكون آثمة.
المسألة الخامسة: حكم العمرة وأدلة ذلك:
تجب العمرة على المستطيع مرة واحدة في العمر؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196]، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما سألته: هل على النساء جهاد؟ قال: (نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) (صححه الألباني)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رزين لما سأله أن أباه لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن. قال: (حج عن أبيك واعتمر) (صححه الألباني).
وأركانها ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي.
وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى
المسألة السادسة: مواقيت الحج والعمرة:
الميقات لغة: هو الحد. وشرعاً: هو موضع العبادة أو زمنها، فتنقسم المواقيت إلى: زمانية ومكانية.
أما المواقيت الزمانية للحج والعمرة:
فالعمرة يجوز أداؤها في جميع أوقات السنة.
وأما الحج فله أشهر معلومات لا يصح شيء من أعمال الحج إلا فيها؛ لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197]، وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وأما المواقيت المكانية للحج والعمرة: فهي الحدود التي لا يجوز للحاج والمعتمر أن يتجاوزها إلا بإحرام. وقد بيَّنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَقَّتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) (متفق عليه وفي لفظ: (ومهل أهل العراق ذات عرق). فمن تعدى هذه المواقيت بدون إحرام وجب عليه الرجوع إليها إن أمكن، وإن لم يتمكن من الرجوع فعليه فدية، وهي شاة يذبحها في مكة، ويوزِّعها على مساكين الحرم.
أما من كانت منازلهم دون المواقيت، فإنهم يُحرمون من أماكنهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث السابق: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).
الباب الثاني: في أركان، الحج وواجباته، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أركان الحج:
أركان الحج أربعة، هي:
1 - الإحرام: وهو نية الحج وقصده؛ لأن الحج عبادة محضة فلا يصح بغير نية بإجماع المسلمين، والأصل في ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما الأعمال بالنيات) (متفق عليه)، والنية محلها القلب، لكن الأفضل في الحج النطق بها، مُعَيِّناً النسك الذي نواه، لثبوت ذلك من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2 - الوقوف بعرفة: وهو ركن بالإجماع، ودليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الحج عرفة) (صححه الألباني)، ووقت الوقوف: من بعد الزوال يوم عرفة، إلى طلوع فجر يوم النحر.
3 - طواف الزيارة: ويسمى طواف الإفاضة، لأنه يكون بعد الإفاضة من عرفة، ويسمى طواف الفرض، وهو ركن بالإجماع؛ لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29].
4 - السعي بين الصفا والمروة: وهو ركن؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة (صححه الألباني)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (صححه الألباني).
وهذه الأركان لا يتم الحج إلا بها، فمن ترك ركناً منها لم يتم حجه، حتى يأتي به.
المسألة الثانية: واجبات الحج:
1 - الإحرام من الميقات المعتبر له شرعاً.
2 - الوقوف بعرفة إلى الليل لمن أتاها نهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف إلى الغروب -كما سيأتي في صفة حجته-، وقال: (خذوا عني مناسككم).
3 - المبيت بمزدلفة ليلة النحر إلى منتصف الليل، إن وافاها قبله؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك.
4 - المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.
5 - رمي الجمرات مرتباً.
6 - الحلق أو التقصير، لقوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح: 27]، ولفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمره بذلك.
7 - طواف الوداع لغير الحائض والنفساء؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) (متفق عليه).
فمن ترك واجباً من هذه الواجبات عامداً أو ناسياً جبره بدم وصح حجه، لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليرق دماً) (هو ثابت عن ابن عباس من قوله، كما قال ابن عبد البر (الاستذكار 12/ 184) والألباني (الإرواء 4/ 299).
وما سوى ما ذكر من الأعمال فهو سنة. ومن أهم هذه السنن:
1 - الاغتسال للإحرام والتطيب ولبس ثوبين أبيضين.
2 - تقليم الأظافر وأخذ شعر العانة والإبط وقص الشارب وما يلزم أخذه.
3 - طواف القدوم للمفرد والقارن.
4 - الرَّمَل في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم.
5 - الاضطباع في طواف القدوم، وهو: أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر.
6 - المبيت بمنى ليلة عرفة.
7 - التلبية من حين الإحرام إلى رمي جمرة العقبة.
8 - الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة تقديماً.
9 - الوقوف بمزدلفة عند المشعر الحرام من الفجر إلى الشروق إن تيسر، وإلا فمزدلفة كلها موقف.
الباب الثالث: في المحظورات والفدية والهدي، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في محظورات الإحرام:
وهي ما يمتنع على المحرم فعله شرعاً، وهي تسعة:
1 - لبس المخيط، وهو المفصَّل على قدر البدن أو العضو من السراويل والثياب وغيرهما، إلا لمن لم يجد إزاراً فيجوز له لبس السراويل. وهذا المحظور خاص بالرجال، أما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب إلا النقاب والقفازين، كما سيأتي.
2 - استعمال الطيب في بدنه أو ثيابه، وكذلك تعمد شمه، ويجوز له شم ما له رائحة طيبة من نبات الأرض، وله الاكتحال بما لا طيب فيه.
3 - إزالة الشعر والظفر، ذكراً كان أو أنثى، ويجوز له غسل رأسه برفق، وإن انكسر ظفره جاز له رميه.
4 - تغطية رأس الرجل بملاصق له، وله الاستظلال بالخيمة ونحوها كشجرة.
ويجوز للمحرم أن يستظل بالشمسية عند الحاجة، والمرأة ممنوعة من تغطية وجهها بما عمل على قدره كالنقاب والبرقع، ويجب عليها تغطية وجهها بالخمار عند وجود الرجال الأجانب، وممنوعة من لبس القفازين، وتلبس ما شاءت من الثياب مما يناسبها. فمن تطيب، أو غطَّى رأسه، أو لبس مخيطاً، جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً، فلا شيء عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
فمتى علم الجاهل، أو ذكر الناسي، أو زال الإكراه، فعليه منع استدامة هذا المحظور.
5 - عقد النكاح له ولغيره.
6 - الوطء في الفرج، وهو مفسد للحج قبل التحلل الأول، ولو بعد الوقوف بعرفة.
7 - المباشرة فيما دون الفرج، ولا تفسد النسك، وكذا القُبلة واللمس والنظر بشهوة.
8- قتل صيد البر واصطياده، ويجوز له قتل الفواسق التي أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتلها في الحل والحرم، للمحرم وغيره، وهي: الغراب والفأرة والعقرب والحِدأة والحية والكلب العقور. ولا يجوز له الإعانة على قتل صيد البر، لا بالإشارة ولا بغيرها، ولا يجوز أكل ما صيد من أجله.
9 - لا يجوز للمحرم ولا غيره قطع شجر الحرم أو نباته الرطب غير المؤذي، ويجوز قطع الأوصال المؤذية في الطريق، ويستثنى من شجر الحرم الإذخر، وما أنبته الآدميون بالإجماع.
المسألة الثانية: فدية المحظورات:
- بالنسبة لحلق الشعر، وتقليم الأظافر، ولبس المخيط، والطيب، وتغطية الرأس، والإمناء بنظرة، والمباشرة بغير إنزال المني: الفدية فيها على التخيير بين أصناف ثلاثة:
1 - صيام ثلاثة أيام.
2 - أو إطعام ستة مساكين.
3 - أو ذبح شاة.
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة حين آذاه هوام رأسه: (احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة) (متفق عليه). وقيست عليه بقية الأفعال، لأنها محرمة بالإحرام، ولا تفسد الحج.
- وأما بالنسبة لقتل الصيد: فيخير قاتل الصيد بين ذبح المثل من النعم، أو تقويم المثل بمحل التلف، ويشتري بقيمته طعاماً يجزئ في الفطرة، فيطعم كل مسكين مدّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره، كتمر أو شعير، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) [المائدة: 95].
- وأما بالنسبة للوطء في الحج قبل التحلل الأول، وإنزال المني بمباشرة، أو استمناء، أو تقبيل، أو لمس بشهوة، أو تكرار نظر: فإنه يفسد الحج، حتى وإن كان المجامع ساهياً أو جاهلاً أو مكرهاً. ويجب في ذلك بدنة، وقضاء الحج، والتوبة.
وأما بعد التحلل الأول، فإنه لا يفسد الحج، ويجب في ذلك شاة.
- وأما بالنسبة لعقد النكاح: فلا يجب في ذلك فدية، وإنما يكون العقد فاسداً.
- وأما بالنسبة لقطع شجر الحرم ونباته الذي لم يزرعه الآدمي: فتضمن الشجرة الصغيرة عرفاً بشاة وما فوقها ببقرة، ويضمن النبات والورق بقيمته لأنه متقوم.
هذا إذا كان مرتكب المحظور متعمداً، أما الجاهل والناسي فلا شيء عليهما.
المسألة الثالثة: في الهدي وأحكامه:
الهدي: ما يهدى إلى البيت الحرام من بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- تقرباً إلى الله تعالى.
أنواع الهدي:
1 - هدي التمتع والقِران: وهو واجب على من لم يكن حاضر المسجد الحرام، وهو دم نسك لا جبران؛ لقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة: 196].
فإن عدم الهدي أو ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج، ويجوز صيامها في أيام التشريق، وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [البقرة: 196] ويستحب للحاج أن يأكل من هدي التمتع والقران لقوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج: 36].
2 - هدي الجبران: وهو الفدية الواجبة لترك واجب، أو ارتكاب محظور من محظورات الإحرام، أو بسبب الإحصار عند وجود سببه؛ لقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة: 196]، ولقول ابن عباس: (من نسي من نسكه شيئاً أو تركه، فليرق دماً) (هو ثابت عن ابن عباس من قوله، كما قال ابن عبد البر (الاستذكار 12/ 184) والألباني (الإرواء 4/ 299).
وهذا النوع لا يجوز الأكل منه، بل يتصدق به على فقراء الحرم.
3 - هدي التطوع: وهو مستحب لكل حاج ولكل معتمر؛ اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد أهدى مائة بدنة في حجة الوداع.
ويستحب الأكل منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر من كل جزور بِبَضْعَةٍ، فطبخت، وأكل منها، وشرب من مرقها. (رواه مسلم برقم (1218) والبَضعة: القطعة من اللحم.
ويجوز لغير المحرم أن يبعث هدايا إلى مكة لتذبح بها؛ تقرباً إلى الله تعالى، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم.
4 - هدي النذر: وهو ما ينذره الحاج تقرباً إلى الله عند البيت الحرام، ويجب الوفاء بهذا النذر؛ لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج: 29]. ولا يجوز الأكل من هذا الهدي.
وقت ذبح الهدي:
هدي التمتع والقران يبدأ وقته من بعد صلاة العيد يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق.
أما ذبح فدية الأذى واللبس فحين فعله، وكذلك الفدية الواجبة لترك واجب.
وأما دم الإحصار فعند وجود سببه، وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، لقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة: 196].
مكان الذبح:
هدي التمتع والقران: السنة أن يذبحه بمنى، وإن ذبحه في أي جزء من أجزاء الحرم جاز.
وكذلك فدية ترك الواجب وفعل المحظور فلا تذبح إلا في الحرم، عدا هدي الإحصار، فيذبحه في موضعه. أما الصيام فيجزئه في كل مكان.
والمستحب أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة: 196].
ويستحب أن يذبح الحاج بنفسه، وإن أناب غيره فلا بأس بذلك، ويستحب أن يقول عند الذبح: بسم الله، اللهم هذا منك ولك.
أما شروط الهدي: فهي شروط الأضحية نفسها:
1 - أن يكون من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم).
2 - أن يكون خالياً من العيوب التي تمنع الإجزاء، كالمرض والعور والعرج والهزال.
3 - أن تتوافر فيه السن المشروعة: فالإبل خمس سنوات، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن ستة أشهر.
الباب الرابع: في صفة الحج والعمرة:
الأصل عند أهل العلم في صفة الحج حديث جابر المشهور. (رواه مسلم)
وقد تتبعنا الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتلخص لنا من مجموعها الصفة التالية:
إذا وصل مريد النسك إلى الميقات فإنه يستحب له أن يغتسل، ويأخذ ما يحتاج إلى أخذه من شعر، يحل أخذه، كشعر الإبط والعانة والشارب، ويقلم أظافره، ويتجرد الرجل من المخيط، ويتطيب في بدنه قبل نية الدخول في النسك، ويلبس الرجل إزاراً ورداء نظيفين أبيضين. وتحرم المرأة فيما شاءت من ثياب.
ويغطي الرجل كتفيه بردائه، ويهل بنسكه الذي يريد. والأفضل أن يكون إهلاله إذا استوى على دابته، وإن كان المحرم يخاف من عائق يمنعه من إتمام نسكه كمرض أو قطع طريق أو نحو ذلك فإنه يَشْتَرِط أن مَحِلِّي حيث حبستني.
ويستحب أن يكون عند إهلاله مستقبلاً القبلة ويقول: اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ويَشْرَعُ في التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وكان الصحابة يزيدون: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل. ويسن أن يرفع صوته بالتلبية، فإذا وصل مكة استحب له أن يغتسل، فإذا أراد أن يطوف اضطبع الرجل بأن يكشف عن كتفه الأيمن، ويغطي كتفه الأيسر بردائه. ويشترط أن يكون حال الطواف متوضئاً، ويستحب أن يستلم الحجر الأسود ويقبِّله، فإن لم يمكنه ذلك استلمه بيده، وقَبَّل يده، فإن لم يمكنه ذلك يشير إليه بيده، ولا يقبِّلها، ويفعل ذلك عند كل شوط، ويبدأ كل شوط بالتكبير، وإن ابتدأ الطواف ببسم الله والله أكبر فحسن، وإذا أتى الركن اليماني استلمه ولم يقبِّله، فإن لم يمكنه استلامه فإنه لا يشير إليه، ولا يكبر، ويقول بين الركنين -وهما: الركن اليماني والحجر الأسود-: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ويدعو في بقية الطواف بما شاء، ويستحب أن يَرْمُل في الأشواط الثلاثة الأولى -والرَّمَل فوق المشي ودون العدو- ويمشي في الأربعة، فإذا أتم سبعة أشواط غطى كتفيه بردائه، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] ويصلي ركعتين خلف المقام يقرأ في الأولى بسورة (الكافرون) وفي الثانية بسورة (الإخلاص) فإن لم يتمكن من الصلاة خلف المقام لزحام ونحوه، صلى في أي مكان من المسجد، وهذا الطواف هو طواف القدوم للمفرد والقارن وطواف العمرة للمتمتع، ثم يشرع له أن يشرب من زمزم، ويصب على رأسه، ثم يرجع إلى الحجر الأسود، فيستلمه إن تيسر، ثم يخرج إلى الصفا، ويقرأ قول الله عز وجل: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة: 158] ثم يرقى الصفا حتى يرى البيت، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه، ويقول: الله أكبر ثلاثاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يفعل ذلك ثلاث مرات ويدعو بينها طويلاً، ثم ينزل ماشياً إلى المروة، ويسعى بين الميلين الأخضرين سعياً شديداً، وذلك للرجال دون النساء، ثم يمشي حتى يرقى المروة، فيصنع عليها مثل ما صنع على الصفا، وهذا شوط، ثم من المروة إلى الصفا شوط آخر حتى يتم السعي سبعة أشواط. وهذا سعي الحج للمفرد والقارن، ولا يتحللان بعده، بل يبقيان بإحرامهما، وهو سعي العمرة للمتمتع.
ويتحلل المتمتع من عمرته بتقصير شعره ثم يلبس ملابسه، حتى إذا كان يوم التروية -وهو يوم الثامن من ذي الحجة- أحرم المتمتع بالحج من مكانه، وكذا غيره من المحلين بمكة وقربها. ويستحب له أن يفعل ما فعله عند الميقات من الاغتسال والتطيب والتنظف. ويتوجه جميع الحجاج إلى منى ملبِّين، ويصلُّون في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بقصر الرباعية من غير جمع، ثم في صبيحة اليوم التاسع يسير الحاج إلى عرفة. فإنْ تيسَّر له أن ينزل بنمرة إلى الزوال فحسن. وإذا زالت الشمس خطب الإمام أو نائبه خطبة
قصيرة، ثم يصلي الظهر والعصر قصراً وجمعاً في وقت الظهر، ثم يدخل عرفة.
ويجب على الحاج أن يتيقن أنه في داخل حدود عرفة، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه يدعو ويلبي، ويحمد الله، ويجتهد في التضرع والذكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم. وأفضل ما يقال في ذلك اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ويكون في ذلك اليوم مفطراً؛ لأنه أقوى له على العبادة، ولا يزال واقفاً متضرعاً متذللاً، إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت أفاض من عرفة بسكينة، ويسير ملبِّياً حتى يأتي مزدلفة فيصلي بها المغرب والعشاء جمعاً ويقصر العشاء، ورخص للضعفة أن يخرجوا من مزدلفة بليل، ويبقى القوي في مزدلفة حتى يصلي الفجر، ثم يستقبل القبلة ويحمد الله ويكبره ويهلله حتى يسفر جداً، ثم يدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس، وعليه السكينة، ملبياً، ويلتقط سبع حصيات من الطريق، حتى إذا أتى جمرة العقبة رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقطع التلبية، ثم ينحر هديه، ويستحب أن يأكل منه، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف طواف الإفاضة، ويسعى سعي الحج إن كان متمتعاً، أو كان مفرداً أو قارناً ولم يسع مع طواف القدوم. والسنة ترتيب هذه الأعمال: الرمي، فالذبح، فالحلق، أو التقصير، فإن قدَّم واحداً منها على آخر فلا حرج، وإذا فعل اثنين من ثلاثة أعمال -رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، والطواف مع السعي، إن كان عليه سعي- تحلل التحلل الأول وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء. فإذا فعل الثلاثة تحلل التحلل الأكبر فيحل له كل شيء حتى النساء، ويبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر وجوباً، ويرمي الجمرات الثلاث يوم الحادي عشر بادئاً بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى وكذلك في اليوم الثاني عشر، ويبدأ وقت الرمي من الزوال إلى طلوع الفجر، وإذا رمى الجمرة الصغرى سُنَّ له أن يتقدم قليلاً عن يمينه، ويقوم مستقبلاً القبلة رافعاً يديه يدعو. وإذا رمى الجمرة الوسطى سُنَّ له أن يتقدم، ويأخذ ذات الشمال ويستقبل القبلة،
ويقوم طويلاً يدعو رافعاً يديه، ولا يقف بعد جمرة العقبة، فإن أراد أن يتعجل فإنه يجب عليه أن يخرج من منى يوم الثاني عشر قبل غروب الشمس، فإن غربت عليه الشمس في منى مختاراً، وجب عليه مبيت ليلة الثالث عشر. ثم إذا أراد أن يخرج من مكة وجب عليه أن يطوف طواف الوداع، ويجعل آخر عهده بالبيت الطواف، ويسقط هذا الطواف عن الحائض والنفساء.
الباب الخامس: في الأماكن التي تشرع زيارتها في المدينة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم:
تسن زيارة مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشدُّ الرحل إليه في أي وقت من أيام السنة، سواء أكان ذلك قبل الحج أم بعده، وليس لها وقت خاص، ولا دخل لها في الحج، وليست من شروطه ولا من واجباته، لكن ينبغي لمن قدم إلى الحج أن يزور مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أداء فريضة الحج أو بعدها، وبخاصة من يشق عليه السفر إلى هذه الأماكن. فلو مر الحجاج بالمسجد النبوي وصلوا فيه، لكان أرفق بهم وأعظم لأجرهم ولجمعوا بين الحسنيين: أداء فريضة الحج، وزيارة المسجد النبوي للصلاة فيه، مع العلم -كما سبق- بأن هذه الزيارة ليست من مكملات الحج، ولا دَخْلَ لها فيه، فالحج كامل وتام بدون هذه الزيارة، ولا ارتباط بينها وبين الحج ألبتة.
والأدلة على مشروعية شدِّ الرحال لمسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصلاة فيه كثيرة منها:
1 - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد الأقصى) (متفق عليه).
2 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام) (متفق عليه).
فهذه النصوص تدل على مشروعية زيارة مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة فيه لفضلها ومضاعفة أجرها، وتدل أيضاً على أنه يحرم شد الرحال لغير هذه المساجد الثلاثة لقصد العبادة، فلا تشرع الزيارة والسفر لأي مكان في أنحاء المعمورة، إلا إلى هذه المساجد الثلاثة. وقَصْدُ المدينة للصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشروع في حق الرجال والنساء؛ لما تقدم من عموم الأدلة السابقة.
أما كيفية الزيارة: فإذا وصل المسافر إلى المسجد استحب له أن يقدم رجله اليمنى حال دخوله المسجد، ويقول الدعاء المشروع عند دخول أي مسجد: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
وليس لمسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر مخصوص، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين في أي مكان من المسجد، وإن صلاها في الروضة فهو أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) (متفق عليه).
ومن زار مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينبغي له أن يحافظ على أداء الصلوات الخمس فيه، وأن يكثر فيه من الذكر والدعاء وصلاة النافلة في الروضة الشريفة؛ احتساباً للأجر والثواب الجزيل، أمَّا صلاة الفريضة فالأولى للزائر وغيره أن يتقدم إليها، ويحرص على الصفوف الأول المرغب فيها ما استطاع؛ لأنها مقدمة على الروضة.
المسألة الثانية: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم:
إذا زار المسلم المسجد النبوي استحب له زيارة قبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأنها تابعة لزيارة مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليست هي أصل القصد. وهذه هي الزيارة المشروعة، ولا يشرع شد الرحل إليها، بل شدُّ الرحل لزيارة قبور الأنبياء والصالحين والأماكن الأخرى غير المساجد الثلاثة -المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى- انعقد الإجماع على تحريمه، ومن فعله فهو عاص بنيَّته، آثم بقصده؛ لمخالفته لمفهوم الحديث الوارد في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة.
أما كيفية الزيارة: فعلى الزائر أن يقف تجاه قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأدب وخفض صوت، ثم يسلم عليه قائلاً: (السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) (حسَّنه الألباني).
وإن قال الزائر: السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، اللهم اجزه عن أمته خير الجزاء، فلا بأس. ثم بعد ذلك يسلِّم على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ويدعو لهما، ويترحم عليهما؛ لما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سلم على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه، لا يزيد على قوله: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه) ثم ينصرف.
ويحرم على الزائر وغيره التمسح بالحجرة أو تقبيلها أو الطواف بها، أو استقبالها حال الدعاء، أو سؤال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وشفاء المرض ونحو ذلك؛ لأن ذلك كله لله، ولا يطلب إلا منه.
وليست زيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبري صاحبيه واجبة، ولا شرطاً في الحج كما يظن بعض الجهال من العامة، بل هي مستحبة في حق من زار مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا ارتباط بينها وبين الحج بتاتاً، وما ورد في هذا الباب من الأحاديث التي يحتج بها من يقول بمشروعية شدِّ الرحل إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنها من مكملات الحج فهي أحاديث ساقطة، لا أصل لها، إما ضعيفة أو موضوعة، كحديث: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، وحديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وغيرهما كثير، وكلها لم يثبت منها حديث واحد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل جزم بعض أهل العلم بأنها كلها موضوعة مكذوبة.
المسألة الثالثة: الأماكن الأخرى التي تشرع زيارتها في المدينة النبوية:
يستحب لزائر المدينة -رجلاً كان أو امرأة- أن يخرج متطهراً إلى مسجد قباء ويصلي فيه؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً ويصلي فيه ركعتين (متفق عليه).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة) (صححه الألباني).
ويسن للرجال فقط زيارة قبور البقيع وقبور الشهداء في أُحُد كقبر حمزة - رضي الله عنه - وغيره، ويسلم عليهم، ويدعو لهم؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كان يزورهم ويدعو لهم، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (زوروا القبور فإنها تذكر الموت) (رواه مسلم).
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) (رواه مسلم).
هذه هي الأماكن التي تشرع زيارتها في المدينة.
أما الأماكن الأخرى التي يظن بعض العامة أن زيارتها مشروعة: كمبرك الناقة، ومسجد الجمعة، وبئر الخاتم، وبئر عثمان، والمساجد السبعة، ومسجد القبلتين، فهذه لا أصل لها، ولم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه زار هذه الأماكن أو أمر بزيارتها، ولم يَرِدْ عن أحد من السلف الصالح أنه زارها. وليس لأي مسجد في المدينة فضلٌ خاص، إلا مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد قباء. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (رواه مسلم)، فينبغي للمسلم إذا زار المدينة أن يتقيد بالأماكن التي تشرع زيارتها، ويتجنب الأماكن التي لا تشرع زيارتها.