05 - التأمل في آيات الله الكونية
إنَّ التأمل في آيات الله الكونية ، والنظر في مخلوقات الله المتنوعة العجيبة، من سماء وأرض، وشمس وقمر، وكواكب ونجوم، وليل ونهار، وجبال وأشجار، وبحار وأنهار، وغير ذلك من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى، لمن أعظم دواعي الإيمان، وأنفع أسباب تقويته.
فتأمل خلق السمـاء وارجع البصر فيها كرَّة بعد كرَّة كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها، وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوًّا كالنار ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله، ثم تأمل استواءها واعتدالها، فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق، ولا أمت ولا عوج.
ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان، وأشدها موافقة للبصر وتقوية له.
وتأمل خلق الأرض وكيف أبدعت، تراها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقـها سبحانه فراشًا ومهادًا، وذلَّـلها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم، وأقواتـهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينـتقلوا فـيها فـي حوائجهم، وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها ودحاها، فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها، وجعلها كفاتًا للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتًا للأموات تضمّهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء وبطنها وطن للأموات.
ثم انظر إليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، فارتفعت واخضرت وأنبتت من كلّ زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر، بهيج للناظرين كريم للمتناولين.
ثم تأمل كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها، وكيف رفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض، لئلا تضمحل على تطاول السنين، وترادف الأمطار والرياح، بل أتقن صنعها وأحكم وضعها، وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها.
ثم تأمل هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحس اللمس عند هبوبه، يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجري بين السماء والأرض، والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحار.
ثم تأمَّل كيف ينشئ سبحانه بهذا الريح السحاب المسخر بين السماء والأرض فتثيره كسفاً، ثم يؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض، ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح، ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أهراق ماءه عليها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح.
ثم تأمل هذه البحار المكتنفة للأقطار التي هي خلجان من البحر المحيط الأعظم بجميع الأرض حتى أن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء، ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الأرض وعلاها كلّها.
وتأمل الليل والنهار وهما من أعجب آيات الله كيف جعل الليل سكنًا ولباسًا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم النفوس وتستريح من كدِّ السعي والتعب حتى إذا أخذت منها النفوس راحتها وسباتها وتطلعت إلى معايشها وتصرفها جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر.
وتأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معاشهم، ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور فـ { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[1].
وتأمل خلق الحيوانات على اختلاف صفاته وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه، فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربع، ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب، ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب، ومنه ما جعل سلاحه الأسنان، ومنه ما جعل سلاحه القرون يدافع عن نفسه.
وتأمل وخذ العبرة عموماً من وضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن نظام وأدله على كمال قدرة خالقه وكمال علمه، وكمال حكمته وكمال لطفه، فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه، فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاده بساط وفراش ومستقر للساكن، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمتنقل في طرق هذه الدار، والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة، كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والأمتعة والآلات، ومنها الحرس، وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه، المتصرف بفعله وأمره، ففي هذا أعظم دلالة وأقوى برهان على الخالق العليم الحكيم الخبير، الذي قدر خلقه أحسن تقدير، ونظمه أحسن تنظيم.
بل وتأمل وخذ العبرة على وجه الخصوص من خلق الله لك أيها الإنسان وتأمل في مبدأ خلقك ووسطه وآخره، فانظر بعين البصيرة، إلى أول خلقك من نطفة من ماء مهين مستقذر كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها وملمسها ولونها، وهكذا تتدرج أطوار خلق الإنسان إلى أن يخرج بهذه الصورة التي صوره الله عليها فشق له السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تـخصه. [انتهى نقلا من «مفتاح دار السعادة» لابن القيم (ص/205-226)بتصرف]، فسبـحان الذي خلق فسـوَّى والذي قدر فهدى، القائل: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[2].
قال عثمان القرشي «فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش سبل متصلة إلى معرفته ـ تعالى ـ وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم»«ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (1/307).
فتأمُّل هذه الآيات وغيـرها مـمـا خلق الله في السموات والأرض وتدبرها وإمعان النظر وإجالة الفكر فيها من أعظم ما يعود على الإنسان بالنفع في تقوية إيمانه وتثبيته، لأنه يعرف من خلالها وحدانية خالقه ومليكه، وكماله سبحانه وتعالى، فيزداد حبه وتعظيمه وإجلاله له، وتزداد طاعته وانقياده وخضوعه له، وهذه من أعظم ثمرات هذا النظر.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته، وإحسانه وبره، ولطفه وعدله، ورضاه وغضبه، وثوابه وعقابه، فبهذا تعرّف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته»[3].
وقال ابن سعدي رحمه الله: «ومن أسباب الإيمان ودواعيه، التفكر في الكون في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات فإن ذلك داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله وشمول حكمته وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله وجوده وبره، وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره وإخلاص الدين له، وهذا هو روح الإيمان وسره»[4].
ولهذا فإن الله الكريم سجانه ندب عباده في كتابه إلى تأمل هذه الآيات والدلالات، وإلـى النظر والتفكر في مواضع كثيـرة منه، وذلك لـكثرة منافعها للعباد وعظم عوائدها عليهم.
قال الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[5]. وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}[6]، والآيات بعدها.
وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}[7].
وقال تعالـى: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[8].
وغيرها من الآيات، وهي كثيرة في القرآن، يدعو فيها عباده إلى النظر في آياته ومفعولاته التي هي أعظم دليل على توحده وتفرده وعلى قدرته ومشيئته وعلمه سبحانه وتعالى، وعلى بره ولطفه وكرمه، وهذا أعظم داع للعباد إلى محبة الله وشكره وتعظيمه وطاعته وملازمة ذكره، وبهذا يتبين أن النظر في الكون والتأمل فيه من أعظم أسباب الإيمان وأنفع دواعيه.
-----------
[1] سورة الفرقان، الآيتان: 61- 62.
[2] سورة الذاريات، الآية: 21.
[3] «مفتاح دار السعادة» لابن القيم (ص/204).
[4] «التوضيح والبيان» (ص/31).
[5] سورة البقرة، الآية: 164.
[6] سورة الروم، الآية:. 2.
[7] سورة الشورى، الآية: 29.
[8] سورة الغاشية، الآيات: 17، 18، 19، 20.
إنَّ التأمل في آيات الله الكونية ، والنظر في مخلوقات الله المتنوعة العجيبة، من سماء وأرض، وشمس وقمر، وكواكب ونجوم، وليل ونهار، وجبال وأشجار، وبحار وأنهار، وغير ذلك من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى، لمن أعظم دواعي الإيمان، وأنفع أسباب تقويته.
فتأمل خلق السمـاء وارجع البصر فيها كرَّة بعد كرَّة كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها، وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوًّا كالنار ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله، ثم تأمل استواءها واعتدالها، فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق، ولا أمت ولا عوج.
ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان، وأشدها موافقة للبصر وتقوية له.
وتأمل خلق الأرض وكيف أبدعت، تراها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقـها سبحانه فراشًا ومهادًا، وذلَّـلها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم، وأقواتـهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينـتقلوا فـيها فـي حوائجهم، وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها ودحاها، فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها، وجعلها كفاتًا للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتًا للأموات تضمّهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء وبطنها وطن للأموات.
ثم انظر إليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، فارتفعت واخضرت وأنبتت من كلّ زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر، بهيج للناظرين كريم للمتناولين.
ثم تأمل كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها، وكيف رفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض، لئلا تضمحل على تطاول السنين، وترادف الأمطار والرياح، بل أتقن صنعها وأحكم وضعها، وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها.
ثم تأمل هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحس اللمس عند هبوبه، يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجري بين السماء والأرض، والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحار.
ثم تأمَّل كيف ينشئ سبحانه بهذا الريح السحاب المسخر بين السماء والأرض فتثيره كسفاً، ثم يؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض، ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح، ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أهراق ماءه عليها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح.
ثم تأمل هذه البحار المكتنفة للأقطار التي هي خلجان من البحر المحيط الأعظم بجميع الأرض حتى أن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء، ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الأرض وعلاها كلّها.
وتأمل الليل والنهار وهما من أعجب آيات الله كيف جعل الليل سكنًا ولباسًا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم النفوس وتستريح من كدِّ السعي والتعب حتى إذا أخذت منها النفوس راحتها وسباتها وتطلعت إلى معايشها وتصرفها جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر.
وتأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معاشهم، ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور فـ { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[1].
وتأمل خلق الحيوانات على اختلاف صفاته وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه، فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربع، ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب، ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب، ومنه ما جعل سلاحه الأسنان، ومنه ما جعل سلاحه القرون يدافع عن نفسه.
وتأمل وخذ العبرة عموماً من وضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن نظام وأدله على كمال قدرة خالقه وكمال علمه، وكمال حكمته وكمال لطفه، فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه، فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاده بساط وفراش ومستقر للساكن، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمتنقل في طرق هذه الدار، والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة، كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والأمتعة والآلات، ومنها الحرس، وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه، المتصرف بفعله وأمره، ففي هذا أعظم دلالة وأقوى برهان على الخالق العليم الحكيم الخبير، الذي قدر خلقه أحسن تقدير، ونظمه أحسن تنظيم.
بل وتأمل وخذ العبرة على وجه الخصوص من خلق الله لك أيها الإنسان وتأمل في مبدأ خلقك ووسطه وآخره، فانظر بعين البصيرة، إلى أول خلقك من نطفة من ماء مهين مستقذر كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها وملمسها ولونها، وهكذا تتدرج أطوار خلق الإنسان إلى أن يخرج بهذه الصورة التي صوره الله عليها فشق له السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تـخصه. [انتهى نقلا من «مفتاح دار السعادة» لابن القيم (ص/205-226)بتصرف]، فسبـحان الذي خلق فسـوَّى والذي قدر فهدى، القائل: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[2].
قال عثمان القرشي «فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش سبل متصلة إلى معرفته ـ تعالى ـ وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم»«ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (1/307).
فتأمُّل هذه الآيات وغيـرها مـمـا خلق الله في السموات والأرض وتدبرها وإمعان النظر وإجالة الفكر فيها من أعظم ما يعود على الإنسان بالنفع في تقوية إيمانه وتثبيته، لأنه يعرف من خلالها وحدانية خالقه ومليكه، وكماله سبحانه وتعالى، فيزداد حبه وتعظيمه وإجلاله له، وتزداد طاعته وانقياده وخضوعه له، وهذه من أعظم ثمرات هذا النظر.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته، وإحسانه وبره، ولطفه وعدله، ورضاه وغضبه، وثوابه وعقابه، فبهذا تعرّف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته»[3].
وقال ابن سعدي رحمه الله: «ومن أسباب الإيمان ودواعيه، التفكر في الكون في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات فإن ذلك داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله وشمول حكمته وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله وجوده وبره، وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره وإخلاص الدين له، وهذا هو روح الإيمان وسره»[4].
ولهذا فإن الله الكريم سجانه ندب عباده في كتابه إلى تأمل هذه الآيات والدلالات، وإلـى النظر والتفكر في مواضع كثيـرة منه، وذلك لـكثرة منافعها للعباد وعظم عوائدها عليهم.
قال الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[5]. وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}[6]، والآيات بعدها.
وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}[7].
وقال تعالـى: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[8].
وغيرها من الآيات، وهي كثيرة في القرآن، يدعو فيها عباده إلى النظر في آياته ومفعولاته التي هي أعظم دليل على توحده وتفرده وعلى قدرته ومشيئته وعلمه سبحانه وتعالى، وعلى بره ولطفه وكرمه، وهذا أعظم داع للعباد إلى محبة الله وشكره وتعظيمه وطاعته وملازمة ذكره، وبهذا يتبين أن النظر في الكون والتأمل فيه من أعظم أسباب الإيمان وأنفع دواعيه.
-----------
[1] سورة الفرقان، الآيتان: 61- 62.
[2] سورة الذاريات، الآية: 21.
[3] «مفتاح دار السعادة» لابن القيم (ص/204).
[4] «التوضيح والبيان» (ص/31).
[5] سورة البقرة، الآية: 164.
[6] سورة الروم، الآية:. 2.
[7] سورة الشورى، الآية: 29.
[8] سورة الغاشية، الآيات: 17، 18، 19، 20.