4/ فضلُ مجالس الذكر
لقد مرّ معنا شيءٌ يسيرٌ من فوائد الذِّكر، وأنَّها كثيرةٌ لا تُحصى، وعديدةٌ لا تُستقصى، يعجز عن إحصائها المحصون، ولا يقدر على عدّها العادون، ولا يحيط بها إنسانٌ، ولا يُعبِّر عنها لسانٌ، كيف لا وهو من أجلِّ القُرُبات، وأفضل الطّاعات. وكم للذِّكر من فوائد مغدقةٍ، وثمار يانِعةٍ، وجنى لذيذٍ، وأكلٍ دائمٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة.
ومجالسُ الذِّكر هي أزكى المجالس وأشرَفُها، وأنفعُها وأرفعُها، وهي أعلى المجالس قدراً عند الله، وأجلُّها مكانةً عنده.
وقد ورد نصوصٌ كثيرةٌ في فضلِ مجالس الذِّكر، وأنّها حياةٌ للقلوب، ونماءٌ للإيمان، وصلاحٌ وزكاءٌ للعبد، بخلاف مجالس الغفلة الّتي لا يقوم منها الجالسُ إلاّ بنقصٍ في الإيمان، ووَهاءٍ في القلب، وكانت عليه حسرةٌ وندامة.
وكان السَّلفُ رحمهم الله يهتمّون بهذه المجالس أعظمَ الاهتمام، ويعتنون بها غاية العناية، كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: (( تعالوا نؤمن ساعةً، تعالوا فلنذكُر الله، ونزدادُ إيماناً بطاعته، لعلّه يذكرُنا بمغفرته )).
وكان عُمير بن حبيب الخطميُّ رضي الله عنه يقول: (( الإيمان يزيد وينقص، فقيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله U وحمدناه وسبَّحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيَّعنا ونسينا فذلك نقصانه ))، والآثار عنهم في هذا المعنى كثيرةٌ([1]).
إنَّ مجالسَ الذِّكر هي رياضُ الجنّة في الدنيا، روى الإمام أحمدُ والترمذي وغيرُهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله (عليه الصلاة و السلام) قال: (( إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حِلَقُ الذِّكر ))([2]).
ورواه ابن أبي الدنيا والحاكم وغيرُهما، من حديث جابر بن
عبد الله قال: خرج علينا رسول الله (عليه الصلاة و السلام) فقال: (( يا أيُّها النَّاس ارتعوا في رياض الجنّة، قلنا: يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذِّكر ))، ثمّ قال: (( اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يحبُّ أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلةُ الله تعالى عنده، فإنّ الله تعالى يُنزل العبدَ منه حيث أنزله من نفسه ))([3]).
وهو حسنٌ بهذين الطريقين المذكورين([4]).
قال ابن القيِّم رحمه الله: (( من شاء أن يسكن رياض الجنّة في الدنيا فليستوطن مجالس الذِّكر، فإنّها رياض الجنّة ))([5]).
ومجالس الذِّكر هي مجالسُ الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلسٌ إلا مجلسٌ يُذكرُ اللهُ تعالى فيه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( إنَّ لله ملائكةً فُضُلاً، يطوفون في الطُّرق يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى تنادوا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، قال: فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السّماء الدنيا، قال: فيسألُهم ربُّهم تعالى وهو أعلمُ بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يُسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشدَّ لك تحميداً وتمجيداً، وأكثرَ لك تسبيحاً، قال: فيقول: ما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنّة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو أنّهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنّهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حِرصاً، وأشدَّ لها طلبًا، وأعظمَ فيها رغبةً، قال: فيقول: فممَّ يتعوّذون؟ قال: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً، وأشدَّ لها مخافةً، قال: يقول: فأشهدُكم أنّي قد غفرتُ لهم. قال: فيقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنَّما جاء لحاجة، قال: همُ الجلساءُ لا يشقى بهم جليسُهم ))([6]).
فمجالس الذِّكر مجالسُ الملائكة، ومجالس اللّغو والغفلة مجالس الشَّياطين، وكلٌّ مضاف إلى شكله، وكلُّ امرئ يصير إلى ما يناسبه، فليختر العبدُ أعجبهما إليه، وأولاهما به، والذَّاكر يسعد به جليسه بخلاف الغافل واللاغي فإنّه يشقى به جليسه ويتضرّر([7]).
ومجالسُ الذِّكر تُؤمِّنُ العبدَ من الحسرة والنّدامة يوم القيامة، بخلاف مجالس اللّهو والغفلة، فإنَّها تكون على صاحبها حسرةٌ وندامةٌ يوم القيامة، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (عليه الصلاة و السلام) قال: (( من قعدَ مقعدًا لم يذكُر اللهَ تعالى فيه، كانت عليه من اللهِ تعالى تِرَةٌ، ومن اضطجع مضطجعًا لا يذكر اللهَ فيه كانت عليه من الله تعالى تِرَة ))([8])، أي: نقصٌ وتبعةٌ وحسرةٌ.
ومن شرَف مجالس الذِّكر وعلوِّ مكانها عند الله، أنَّ الله U يُباهي بالذَّاكرين ملائكته، كما روى مسلمٌ في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاويةُ على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى. قال: آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال: أما إنّي لم أستحْلِفْكم تُهمَةً لكم،
وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله (عليه الصلاة و السلام) أقلَّ عنه حديثًا منّي، وإنّ رسول الله (عليه الصلاة و السلام) خرج على حلقة من أصحابه فقال: (( ما أجلسكم؟ ))، قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: (( آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذاك؟ ))، قالوا: والله ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال: (( أما إنّي لم أستحْلِفْكم تُهمَةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله تبارك يُباهي بكم الملائكة ))([9]).
فهذه المباهاةُ من الرّبِّ دليلٌ على شرف الذِّكر عند الله، ومحبّته له، وأنّ له مزيّةً على غيره من الأعمال([10]).
ومجالس الذِّكر سببٌ لنزول السّكينة، وغِشيان الرَّحمة، وحفوف الملائكة بالذَّاكرين فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي مسلم الأغرّ، قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنّهما شهدا على رسول الله (عليه الصلاة و السلام) أنَّه قال: (( لايقعد قومٌ في مجلس يذكرون اللهَ فيه إلاّ حفَّتهم الملائكة، وغَشِيتهمُ الرَّحمة، ونزلت عليهم السّكينة، وذكرهم اللهُ فيمن عنده ))([11]).
ومجالس الذِّكر سببٌ عظيم من أسباب حفظ اللِّسان، وصونه عن الغِيبة والنَّميمة، والكذب والفُحش والباطل، فإنّ العبدَ لا بُدَّ له من أن يتكلّم، فإن لم يتكلّم بذكر الله تعالى وذكر أوامره وبالخير والفائدة، تكلّم ولا بُدَّ بهذه المحرّمات أو بعضها، فمن عوّد لسانه على ذكر الله، صان لسانَه عن الباطل واللّغو، ومن يَبَسَ لسانُه عن ذكر الله نطق بكلِّ باطل ولغوٍ وفحش([12]).
واللهَ المسئول أن يعمرَ أوقاتنا وأوقاتكم بطاعته، وأن يشغلنا مجالسنا ومجالسكم بذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يقيَنا من مجالس الغفلة واللّهو والباطل، فإنهّ خير مسئول، وهو وحده المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاّ به.
([1]) انظر كثيراً من هذه الآثار مخرّجة في كتاب (( زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه )) لعبد الرزاق البدر (ص:106 وما بعدها).([2]) المسند (3/150)، وسنن الترمذي (رقم:3510).
([3]) المستدرك (1/494).
([4]) وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم:2562).
([5]) الوابل الصيب (ص:145).
([6]) صحيح البخاري (رقم:6408)، وصحيح مسلم (رقم:2689).
([7]) انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:146 ـ 148).
([8]) سنن أبي داود (رقم:4856)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:87).
([9]) صحيح مسلم (رقم:2701).
([10]) انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:148،149).
([11]) صحيح مسلم (رقم:2700).
([12]) وانظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:166).