5/ ذِكرُ الله هو أزكى الأعمال وأفضلُها
إنَّ ذكرَ الله جلَّ وعلا هو أزكى الأعمال وخيرُها وأفضلُها عند الله تبارك وتعالى، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم، وغيرها من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله (عزّ و جل) ))([1]).
فهذا الحديث العظيم أفاد فضيلة الذِّكر، وأنّه يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله (عزّ و جل)، ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله (عزّ و جل).
قال ابنُ رجب رحمه الله: (( وقد تكاثرت النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصّدقة بالمال وغيره من الأعمال ))([2]). ثمّ أورد حديث أبي الدرداء المتقدِّم، وجملة من الأحاديث الأخرى الدّالة على المعنى نفسه.
وقد روى ابنُ أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب للمنذري([3])، وقال: إسناده حسن، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لأبي الدرداء: إنّ رجلا أعتق مائة نسَمة قال: (( إنّ مائة نسَمة من مال رجل كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنّهار وأن لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله )).
فبيّن رضي الله عنه فضل عتق الرِّقاب وأنّه مع عظم فضله لا يعدل ملازمة الذِّكر والمداومة عليه، وقد جاء في هذا المعنى آثارٌ كثيرةٌ عن السَّلفِ رحمهم الله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (( لأَنْ أُسبِّح الله تعالى تسبيحات أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهن دنانير في سبيل الله )).
وجلس عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فقال عبد الله ابن مسعود: لأَن آخذ في طريق أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله (عزّ و جل)، فقال عبد الله بن عمرو: (( لأن آخذ في طريق فأقولهنّ أحبُّ إليَّ من أن أحمل عددهنّ على الخيل في سبيل الله (عزّ و جل) )).
وكذلك قال غيُر واحدٍ من الصحابة والتّابعين، إنّ الذِّكر أفضل من الصّدقة بعدده من المال([4]).
والآثارُ في هذا المعنى عنهم كثيرةٌ، وهي لا تعني لا من قريب ولا من بعيد التّقليل من شأن النّفقة في سبيل الله، والحمل على الخيل في سبيله، وعتق الرِّقاب في سبيله، وإنَّما المرادُ بها تعليةُ شأن الذِّكر، وبيانُ عظيم قدره، ورِفعة مكانته، وأنّه لا يعدله شيءٌ من هذه الأمور،
بل إنّ الأعمال كلَّها والطّاعات جميعها إنّما شرعت لإقامة ذكر الله، والمقصودُ بها تحصيل ذكر الله تعالى.
ولهذا يقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}([5])، أي: أقم الصلاة لأجل ذكر الله جلّ وعلا، وهذا فيه تنبيهٌ على عظيم قدر الصلاة؛ إذ هي تضرُّعٌ إلى الله تعالى، وقيامٌ بين يديه، وسؤالٌ له تبارك وتعالى، وإقامةٌ لذكره. وعلى هذا فالصلاة هي الذِّكر، وقد سمّاها الله تعالى ذكراً، وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}([6])، فسمّى الصّلاة هنا ذكراً؛ لأنّ الذِّكر هو روحُها ولُبُّها وحقيقتُها، وأعظمُ النّاس أجرًا في الصّلاة أقواهم وأشدُّهم وأكثرهم فيها ذكرًا لله تعالى. وهكذا الشّأنُ في كلِّ طاعة وعبادةٍ يتقرّب بها العبدُ إلى الله.
روى الإمامُ أحمد، والطبراني من طريق عبد الله بن لهيعة، قال: حدّثنا زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهني، عن أبيه، عن رسول الله (عليه الصلاة و السلام) أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً يا رسول الله؟ فقال: (( أكثرهم لله ذكرًا )). فقال: فأيُّ الصّائمين أكثرُهم أجراً؟ قال: (( أكثرهم لله ذكرًا ))، ثمّ ذكر الصّلاة والزكاة والحجّ والصّدقة، كلُّ ذلك يقول رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( أكثرُهم لله ذكرًا )). فقال أبو بكر لِعُمر رضي الله عنهما: ذهب الذّاكرون بكلّ خير. فقال رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( أجَل ))([7]).
قال الهيثمي رحمه الله: (( وفيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وُثِّق، وكذلك ابن لهيعة ))([8]). اهـ.
لكن له شاهدٌ مرسلٌ بإسناد صحيح، رواه ابن المبارك في الزُّهد قال: أخبرني حيوةُ قال: حدّثني زُهرة بنُ معبَد أنّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: قيل: يا رسول الله أيُّ الحاج أعظم أجرًا؟ قال: (( أكثرهم لله ذكرًا ))، قال: فأيُّ المصلّين أعظم أجرًا؟ قال: (( أكثرهم لله ذكرًا ))، قال: فأيّ الصّائمين أعظم أجراً؟ قال: (( أكثرهم لله ذكراً ))، قال: فأيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ فقال: (( أكثرهم لله ذكرًا )). قال زُهرة: فأخبرني أبو سعيد المقبُري: أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: ذهب الذّاكرون بكلِّ خير([9]).
وله شاهدٌ آخر أورده ابن القيِّم في كتابه الوابل الصيِّب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً أنّ النبيَّ (عليه الصلاة و السلام) سُئل أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قيل: فأيُّ المجاهدين خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قيل: فأيُّ الحُجّاج خير؟ قال: (( أكثرهم ذكراً لله (عزّ و جل) ))، قيل: وأيُّ العوّاد خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قال أبو بكر: ذهب الذّاكرون بالخير كلِّه([10]).
فالحديث بشاهديه صالحٌ للاحتجاج إن شاء الله، ومعناه الّذي دلَّ عليه حقٌ لا ريب في صحّته. يقول ابن القيِّم رحمه الله: (( إنّ أفضل أهل كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله (عزّ و جل)، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل)، وأفضلُ الحجّاج أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل)، وهكذا سائر الأعمال ))([11])، ثمّ أورد الحديث المتقدّم، وأورد عقبه عن عبيد بن عُمير رحمه الله أنّه قال: (( إنْ أَعْظَمَكم هذا اللّيلُ أن تُكابدوه، وبَخِلتم بالمال أن تنفقوه، وجنبتم عن العدوِّ أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله (عزّ و جل) )).
فذِكرُ الله تعالى هو أفضل الأعمال، وهو أكبر من كلِّ شيء، يقول الله جلّ وعلا: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}([12])، أي: ذكرُ الله لكم أكبرُ من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، وهو ذاكرٌ مَن ذَكَرَه، قال معناه ابنُ مسعود وابن عبّاس وأبو الدرداء وأبو قرَّة وسلمانُ والحسنُ، واختاره ابن جرير الطبري. وقيل: ذِكْرُكُم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضلُ من كلِّ شيء. قال ابن زيد وقتادة: ولَذِكرُ الله أكبرُ من كلِّ شيء، أي أفضل من العبادات كلُّها بغير ذكر. وقيل المعنى: إنّ ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( الصّحيح أنّ معنى الآية أنّ الصّلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولِمَا فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر ))([13]). اهـ كلامه رحمه الله.
وقد سُئل سلمان الفارسي رضي الله عنه: (( أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن: ولذكرُ الله أكبر )).
وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: (( ذكرُ الله أكبر ))([14]).
فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، ملءَ سمواتِه، وملءَ أرضِه، وملءَ ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، لا ينقطع ولا يبيد ولا يفنى، عدد ما حمده الحامدون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومِدادَ كلماته، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([2]) جامع العلوم والحكم (ص:225).
([3]) (2/395).
([4]) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:225،226).
([5]) سورة طه، الآية: (14).
([6]) سورة الجمعة، الآية: (9).
([7]) المسند (3/438)، والمعجم الكبير للطبراني (20/رقم:407).
([8]) مجمع الزوائد (10/74).
([9]) الزهد (رقم:1429).
([10]) الوابل الصيب (ص:152).
([11]) الوابل الصيب (ص:152).
([12]) سورة العنكبوت، الآية: (45).
([13]) نقله ابن القيم في الوابل الصيب (ص:152).
([14]) وانظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:149 ـ 153).
إنَّ ذكرَ الله جلَّ وعلا هو أزكى الأعمال وخيرُها وأفضلُها عند الله تبارك وتعالى، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم، وغيرها من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله (عزّ و جل) ))([1]).
فهذا الحديث العظيم أفاد فضيلة الذِّكر، وأنّه يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله (عزّ و جل)، ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله (عزّ و جل).
قال ابنُ رجب رحمه الله: (( وقد تكاثرت النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصّدقة بالمال وغيره من الأعمال ))([2]). ثمّ أورد حديث أبي الدرداء المتقدِّم، وجملة من الأحاديث الأخرى الدّالة على المعنى نفسه.
وقد روى ابنُ أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب للمنذري([3])، وقال: إسناده حسن، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لأبي الدرداء: إنّ رجلا أعتق مائة نسَمة قال: (( إنّ مائة نسَمة من مال رجل كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنّهار وأن لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله )).
فبيّن رضي الله عنه فضل عتق الرِّقاب وأنّه مع عظم فضله لا يعدل ملازمة الذِّكر والمداومة عليه، وقد جاء في هذا المعنى آثارٌ كثيرةٌ عن السَّلفِ رحمهم الله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (( لأَنْ أُسبِّح الله تعالى تسبيحات أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهن دنانير في سبيل الله )).
وجلس عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فقال عبد الله ابن مسعود: لأَن آخذ في طريق أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله (عزّ و جل)، فقال عبد الله بن عمرو: (( لأن آخذ في طريق فأقولهنّ أحبُّ إليَّ من أن أحمل عددهنّ على الخيل في سبيل الله (عزّ و جل) )).
وكذلك قال غيُر واحدٍ من الصحابة والتّابعين، إنّ الذِّكر أفضل من الصّدقة بعدده من المال([4]).
والآثارُ في هذا المعنى عنهم كثيرةٌ، وهي لا تعني لا من قريب ولا من بعيد التّقليل من شأن النّفقة في سبيل الله، والحمل على الخيل في سبيله، وعتق الرِّقاب في سبيله، وإنَّما المرادُ بها تعليةُ شأن الذِّكر، وبيانُ عظيم قدره، ورِفعة مكانته، وأنّه لا يعدله شيءٌ من هذه الأمور،
بل إنّ الأعمال كلَّها والطّاعات جميعها إنّما شرعت لإقامة ذكر الله، والمقصودُ بها تحصيل ذكر الله تعالى.
ولهذا يقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}([5])، أي: أقم الصلاة لأجل ذكر الله جلّ وعلا، وهذا فيه تنبيهٌ على عظيم قدر الصلاة؛ إذ هي تضرُّعٌ إلى الله تعالى، وقيامٌ بين يديه، وسؤالٌ له تبارك وتعالى، وإقامةٌ لذكره. وعلى هذا فالصلاة هي الذِّكر، وقد سمّاها الله تعالى ذكراً، وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}([6])، فسمّى الصّلاة هنا ذكراً؛ لأنّ الذِّكر هو روحُها ولُبُّها وحقيقتُها، وأعظمُ النّاس أجرًا في الصّلاة أقواهم وأشدُّهم وأكثرهم فيها ذكرًا لله تعالى. وهكذا الشّأنُ في كلِّ طاعة وعبادةٍ يتقرّب بها العبدُ إلى الله.
روى الإمامُ أحمد، والطبراني من طريق عبد الله بن لهيعة، قال: حدّثنا زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهني، عن أبيه، عن رسول الله (عليه الصلاة و السلام) أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً يا رسول الله؟ فقال: (( أكثرهم لله ذكرًا )). فقال: فأيُّ الصّائمين أكثرُهم أجراً؟ قال: (( أكثرهم لله ذكرًا ))، ثمّ ذكر الصّلاة والزكاة والحجّ والصّدقة، كلُّ ذلك يقول رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( أكثرُهم لله ذكرًا )). فقال أبو بكر لِعُمر رضي الله عنهما: ذهب الذّاكرون بكلّ خير. فقال رسول الله (عليه الصلاة و السلام): (( أجَل ))([7]).
قال الهيثمي رحمه الله: (( وفيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وُثِّق، وكذلك ابن لهيعة ))([8]). اهـ.
لكن له شاهدٌ مرسلٌ بإسناد صحيح، رواه ابن المبارك في الزُّهد قال: أخبرني حيوةُ قال: حدّثني زُهرة بنُ معبَد أنّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: قيل: يا رسول الله أيُّ الحاج أعظم أجرًا؟ قال: (( أكثرهم لله ذكرًا ))، قال: فأيُّ المصلّين أعظم أجرًا؟ قال: (( أكثرهم لله ذكرًا ))، قال: فأيّ الصّائمين أعظم أجراً؟ قال: (( أكثرهم لله ذكراً ))، قال: فأيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ فقال: (( أكثرهم لله ذكرًا )). قال زُهرة: فأخبرني أبو سعيد المقبُري: أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: ذهب الذّاكرون بكلِّ خير([9]).
وله شاهدٌ آخر أورده ابن القيِّم في كتابه الوابل الصيِّب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً أنّ النبيَّ (عليه الصلاة و السلام) سُئل أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قيل: فأيُّ المجاهدين خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قيل: فأيُّ الحُجّاج خير؟ قال: (( أكثرهم ذكراً لله (عزّ و جل) ))، قيل: وأيُّ العوّاد خير؟ قال: (( أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) ))، قال أبو بكر: ذهب الذّاكرون بالخير كلِّه([10]).
فالحديث بشاهديه صالحٌ للاحتجاج إن شاء الله، ومعناه الّذي دلَّ عليه حقٌ لا ريب في صحّته. يقول ابن القيِّم رحمه الله: (( إنّ أفضل أهل كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله (عزّ و جل)، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل) في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل)، وأفضلُ الحجّاج أكثرهم ذكرًا لله (عزّ و جل)، وهكذا سائر الأعمال ))([11])، ثمّ أورد الحديث المتقدّم، وأورد عقبه عن عبيد بن عُمير رحمه الله أنّه قال: (( إنْ أَعْظَمَكم هذا اللّيلُ أن تُكابدوه، وبَخِلتم بالمال أن تنفقوه، وجنبتم عن العدوِّ أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله (عزّ و جل) )).
فذِكرُ الله تعالى هو أفضل الأعمال، وهو أكبر من كلِّ شيء، يقول الله جلّ وعلا: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}([12])، أي: ذكرُ الله لكم أكبرُ من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، وهو ذاكرٌ مَن ذَكَرَه، قال معناه ابنُ مسعود وابن عبّاس وأبو الدرداء وأبو قرَّة وسلمانُ والحسنُ، واختاره ابن جرير الطبري. وقيل: ذِكْرُكُم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضلُ من كلِّ شيء. قال ابن زيد وقتادة: ولَذِكرُ الله أكبرُ من كلِّ شيء، أي أفضل من العبادات كلُّها بغير ذكر. وقيل المعنى: إنّ ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( الصّحيح أنّ معنى الآية أنّ الصّلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولِمَا فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر ))([13]). اهـ كلامه رحمه الله.
وقد سُئل سلمان الفارسي رضي الله عنه: (( أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن: ولذكرُ الله أكبر )).
وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: (( ذكرُ الله أكبر ))([14]).
فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، ملءَ سمواتِه، وملءَ أرضِه، وملءَ ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، لا ينقطع ولا يبيد ولا يفنى، عدد ما حمده الحامدون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومِدادَ كلماته، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) المسند (5/195)، سنن ابن ماجه (3790)، والمستدرك (1/496). وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2629).([2]) جامع العلوم والحكم (ص:225).
([3]) (2/395).
([4]) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:225،226).
([5]) سورة طه، الآية: (14).
([6]) سورة الجمعة، الآية: (9).
([7]) المسند (3/438)، والمعجم الكبير للطبراني (20/رقم:407).
([8]) مجمع الزوائد (10/74).
([9]) الزهد (رقم:1429).
([10]) الوابل الصيب (ص:152).
([11]) الوابل الصيب (ص:152).
([12]) سورة العنكبوت، الآية: (45).
([13]) نقله ابن القيم في الوابل الصيب (ص:152).
([14]) وانظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:149 ـ 153).