تبيين الحقائق للسالك
لِتَوقِّي طُرُق الغواية وأسبابِ المهالك
لِتَوقِّي طُرُق الغواية وأسبابِ المهالك
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ مِنْ أظهر الفُروق بين الصَّادق في الدَّعوة إلى الله المستفادة مِنْ قوله تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ﴾ [يوسف: ١٠٨] والكاذبِ فيها ما يلي:
ـ أنَّ الصَّادق في دعوته يجرِّدها للهِ خالصةً ـ أوَّلًا ـ فيدعو إلى الله، ولا يدعو إلى نفسه أو لذَوِيهِ أو فصيلتِه التي تُؤويه، ولا يلمِّع نَفْسَه بالحديث عنها، ولا يسعى إلى جلب المال ولا الجاهِ لها، ولا يتزلَّف بها إلى السُّلطان ابتغاءَ المَحْمَدة والرِّفعة والعُلُوِّ في الأرض؛ فإنَّ ذلك ليس مِنْ شأنِ أهل التَّقوى والإيمان والإصلاحِ والخُلُقِ الحَسَن؛ قال تعالى: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣﴾ [القَصص].بخلاف الكاذب في دعوته، فإنَّه لا يضيِّع مَصالِحَ نفسِه في الدَّعوة، بل يُتاجِرُ بها لتحصيلِ منافعِه، والتعرُّفِ على مصادِرِ أموال المدعوِّين ومَواردِهم؛ فلا ينسى حظَّه منها، ويسعى إلى تلميعِ نفسه بالحديث عنها قولًا، والإشادةِ بها عملًا.
ـ والصَّادق في دعوته ـ ثانيًا ـ يعتمد على العلم النَّافع الذي قام على الدَّليل والبرهان، واشتمل على ما جاء به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الهُدَى ودِينِ الحقِّ؛ فلا تلمس منه اضطرابًا في دعوته ولا تلبيسًا فيها؛ فتَسْلَمُ أقوالُه وأفعاله مِنَ التَّناقض والتَّضادِّ، معزَّزةٌ كُلُّها بالحُجَّة، وسائرةٌ جميعُها بثباتٍ على المَحجَّة، وقائمةٌ على تحقيق العدل وأداءِ الأمانة على الوجه المطلوب شرعًا، وهو المراد مِنْ قوله تعالى: ﴿عَلَىٰ بَصِيرَةٍ﴾.
وفي ذلك كُلِّه يرمي الصَّادقُ في دعوته ومناظرته إلى إحقاق الحقِّ وبيانِ حُجَّته، وإبطالِ الباطل ببيان وجوه فساده، وإقناع النَّاس بالحقِّ المبين، ودعوتهم إلى اعتقاده والعملِ به.
بخلاف الكاذب في دعوته، فإنَّ الشُّبهة دليلُه، وردَّ الدَّليلِ بالتَّكذيب حُجَّتُه، والتَّأويلَ والمغالطاتِ عمدتُه، والتَّعصُّبَ نزعتُه، وبَطَرَ الحقِّ وغَمْطَ النَّاسِ خُلُقُه، والوقيعةَ ورميَ خصمِه بالجهل والغفلةِ سلاحُه، وأسلوبَ رُدوده أَشبهُ بالميازيب: تجمع الماءَ كدرًا، وتفرِّقه هدرًا.
هذا، وقَدْ حاولتُ ـ جادًّا ـ مِنْ خلالِ النَّظر في الرُّدود على مقالي السَّابقِ، والموسوم ﺑ: «تسليط الأضواء على أنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّة لا يَنتسِبُ إليه أهلُ الأهواء» أَنْ أجِدَ ـ في أقلام الكُتَّاب المخالفين، الَّذين ادَّعَوْا لأَنْفُسهم الصِّدقَ والإنصاف، وفي مقالاتِ المُعترِضين وتعليقاتِهم، مِنَ الصحفيِّين المُنتسِبين إليهم والمأجورين وغيرِهم ـ انتقادًا بنَّاءً أو اعتراضًا مُفيدًا، يحمل بصيصًا مِنْ نورٍ أو أَثَارةً(١) مِنْ علمٍ لعلَّها تنفعني، لكنِّي ـ مع الأسف الشَّديد ـ لم أجِدْ لهم صِفةَ الصِّدق خُلُقًا، ولا العدل متَّصَفًا، ولا الحقِّ مُنصَفًا، بل حليفُهم الافتراءُ والادِّعاءُ المجرَّد عن الدَّليل، المُفرغ عن الحُجَّة؛ سلكوا فيها سبيل التَّناقض والالتواء، في محاولةِ تدعيمها بكُلِّ ما يَصِلُ إليهم مِنْ أكاذيبَ وأباطيل، وحشَوْا مقالاتِهم وسوَّدوا صحائفَهم بما افترَتْه أقلامُهم المسعورةُ مِنَ التَّهجُّم والنَّبز بالألقاب الشَّنيعة والصِّفات الذَّميمة التي رمَوْني بها بلا مُستنَدٍ ولا دليلٍ، مع تقطيعٍ للمعنى الذي تحمله عباراتي وألفاظي، وإظهارٍ للتَّعجُّب منها، وغيرِ ذلك ممَّا يُعَدُّ فجورًا في الخصومة، وخروجًا عن الأدب الرَّفيع، وبُعدًا عن القصد مِنَ المناظرة والمناقشة، فقَدْ نَسبوني ـ ظلمًا وزورًا ـ إلى ما هم أَوْلى بالاتِّصاف به، مِنَ التَّكفير والغُلُوِّ والطُّغيان والضَّلال والسَّفه والغوغائيَّة، بل قرنوا اسْمِي بأحداث التِّسعينيات وسفكِ الدِّماء واستحلال الأعراض مِنْ غيرِ بيِّنةٍ ولا برهانٍ، وهم أعلمُ بأصحاب هذه الفتنةِ ومَنْ سعى في خراب البلاد وإفسادِ العباد، وغيرها مِنْ أنواع الشَّتيمة التي يستخدمها المُبطِلون والضُّعَفاء، الَّذين لا يحصِّلون مِنَ العلم أو الحقِّ طائلًا؛ إذِ الشَّتيمةُ والوقيعة والتَّهجُّم عند النِّقاش حيلةُ العاجز وبضاعةُ المُفلِس؛ «فإنَّ الرَّدَّ بمجرَّد الشَّتم والتَّهويل لا يعجز عنه أحَدٌ»(٢)، فاستعمَلوا ـ في ذلك ـ أسلوبَ التَّخويف والإرجاف(٣)، وتحريضِ السُّلطان تهويلًا وتهييجًا، وتضخيمًا وتهريجًا، لمَّا أَفجَعَهم مقالي وآلَمَهم؛ وهذا أمرٌ طبيعيٌّ لأنَّ الصُّراخ على قدر الألم؛ ولا يحيِّرني صاحبُ هوًى في إنكاره لِمَا عليه أهلُ السُّنَّة مِنْ حقائقَ ووقائعَ، ولا يهزُّني مَوقفُه؛ لِعلمي أنَّه لا يُقيمُ للأدلَّة وزنًا، ولا يُعيرُ لها بالًا؛ وهي واضحةٌ وضوحَ الشَّمس في رائعة النَّهار، وإنَّما يُنكِرها الجائرُ الصَّلِف(٤)، ويردُّها المُكابِرُ غيرُ المُنصِف.
قال الشَّاعر:
قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ *** وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ
وتَفاصَح مُدَّعُو الوسطيَّة ـ زعمًا ـ أنَّ المَقالَ وإِنْ كان ما يحويه حقًّا، لكنَّه سابقٌ لأوانه، وجاء في غير وقته، وأنَّ مصلحةَ اجتماعِ الجزائريِّين أَوْلى بالتَّقديم مِنَ المبادرة إلى بيانِ ما فيه مِنَ الحقِّ ونشرِه؛ والحقيقةُ أنَّ أهل العلم والحكمة أحرى بمعرفة الوقت المناسب لهذا البيان؛ وفي مُعتقَدهم أنَّ المَقالَ مُتأخِّرٌ عن وقته؛ إذ كان حريًّا بأهل السُّنَّة أَنْ يُوقِفوا زحفَ أهلِ الخرافة والباطل منذ زمنٍ بعيدٍ قبل استفحال مظاهر الشِّرك والطُّغيان والعودة بالمجتمع إلى باب البِدَع والخرافة والسِّحر والشَّعوذة وغيرها، عملًا بسُنَّة التَّدافع؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠﴾ [الحج]، ولكِنْ، يا للأسف!! كما قال الشَّاعر:
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا *** وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
وَلَوْ نَارًا نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ *** وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ
وضمن هذا المنظور الدعويِّ في دفاع المسلم الغيور عن الحقِّ وإنكار المنكر والغضب لله، قال ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «لمَّا سَمِع عبد الله بنُ عمر ابنَه بلالًا يُصارِحُه بمعارضة السُّنَّة ومخالفتِها لم يملك نَفْسَه واستشاط غضبًا حتَّى سبَّه سبًّا سيِّئًا لم يكن مِنْ عادةِ ابنِ عمر صدورُ مثله منه؛ وهكذا كُلُّ مسلمٍ غيورٍ على الإسلام والكتاب والسُّنَّة، يسمع مِنْ أهل الإسلام التكذيبَ بهما، أو التعدِّيَ عليهما، أو المعارضةَ لهما بالرأي والهوى، أو تحريفَهما عن مواضعهما، كذلك فإنه لا يملك نَفْسَه أَنْ يدافع عنهما، وقد يملكه الغضبُ لله، فيكون منه بعضُ ما ليس مِنْ عادته أَنْ يصدر منه مِنْ قولٍ»(٥).
علمًا أنَّ مصلحةَ اجتماعِ الجزائريِّين إنَّما تقومُ على العقيدة الإسلاميَّة الصَّحيحة التي جمعَتْ سلفَنا الصَّالح بالإخلاص والمتابعة، لا على طريقة المخالفين المُتَّبَعة في الاجتماع والائتلاف ولمِّ الشَّمل، المبنيَّةِ على دعوةٍ مُخالِفةٍ للتَّوحيد والمتابعة، والسَّائرةِ على عقائد المتصوِّفة والمتكلِّمين المُجادِلين ـ كما سيأتي بيانُه في آخِر المقال ـ.
أمَّا دعوى أنِّي أُكفِّر ـ بهذه الكلمة ـ المخالفين مِنَ المسلمين فهي دعوى كاسدةٌ، تشهد فتاوايَ ومؤلَّفاتي(٦) بخلافها، ويُقِرُّ المنصفُ ببطلانها؛ إذ لا يخفى أنَّ «مَنْ كفَّر الثِّنتين والسَّبعين فِرقةً كُلَّهم فقَدْ خالف الكتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسانٍ»(٧)؛ قال ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ: «وإذا قال المؤمن: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ﴾ [الحشر: ١٠] يقصد كُلَّ مَنْ سَبَقه مِنْ قُرون الأُمَّة بالإيمان، وإِنْ كان قد أَخطأَ في تأويلٍ تَأوَّله فخالف السُّنَّةَ أو أَذنبَ ذنبًا؛ فإنَّه مِنْ إخوانه الَّذين سَبَقوه بالإيمان؛ فيدخل في العموم وإِنْ كان مِنَ الثِّنتين والسَّبعين فِرقةً؛ فإنَّه ما مِنْ فِرقةٍ إلَّا وفيها خَلْقٌ كثيرٌ ليسوا كُفَّارًا، بل مؤمنين فيهم ضلالٌ وذنبٌ يَستحِقُّون به الوعيد كما يَستحِقُّه عصاةُ المؤمنين؛ والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُخرِجهم مِنَ الإسلام، بل جعلهم مِنْ أُمَّته، ولم يقل: إنَّهم يخلدون في النَّار؛ فهذا أصلٌ عظيمٌ ينبغي مُراعاتُه؛ فإنَّ كثيرًا مِنَ المُنتسِبين إلى السُّنَّة فيهم بدعةٌ مِنْ جنس بِدَع الرَّافضة والخوارج»(٨).
والذي تولَّى كِبرَ هذه الدَّعوى: إمَّا أَنْ يكون ماكرًا يريد المَنْقصةَ والتَّهويل والبُعدَ عن الحقِّ؛ لِيصرف النَّاسَ عنه، فهذا يتولَّاه ربِّي بعدله؛ وإمَّا أَنْ يكون ضيِّقَ الأُفُقِ سقيمَ الفهم، يفهم الكلامَ على غير وجهه، وبخلاف مُرادِ صاحبِه وقائلِه، فيُحرِّف ألفاظَه ويُغيِّر مَعانِيَه؛ فهذا حالُه كما قال المتنبِّي:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا *** وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
وَلَكِنْ تَأْخُذُ الأَذْهَانُ مِنْهُ *** عَلَى قَدْرِ القَرَائِحِ وَالفُهُومِ
قال البُحْتُريُّ:
عَلَيَّ نَسْجُ القَوَافِي مِنْ مَقَاطِعِهَا *** وَمَا عَلَيَّ إِذَا لَمْ تَفْهَمِ البَقَرُ
وصاحبُ هذه المطاعنِ والتُّهَم ـ في الحقيقة ـ ما ثَلَب إلَّا دِينَه، ولا لَهِج إلَّا بذمِّ مُخالِفه، ولا عاب إلَّا أعمالَه، ولا سَعَى إلَّا في هلاكِ نفسِه، مع علمه ـ قطعًا ـ أنَّنا ندعوه إلى حقِّ الاتِّباع لدِينِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المصفَّى، غير أنَّه ينأَى بنفسِه عن اتِّباعه ويتباعد عنه؛ وقد قال تعالى: ﴿وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنَۡٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٢٦﴾ [الأنعام].
أمَّا المُوحِّد السُّنِّيُّ فلا بُدَّ أَنْ يحصل له نصيبٌ مِنَ الإيذاء اختبارًا له؛ لِيتبيَّن الحقُّ مِنَ الباطل، ويَتميَّز الخبيثُ مِنَ الطَّيِّب.
هذا، وإنَّ لي ـ في مقالي السَّابق ـ أسوةً بمَنْ سَبَقني مِنَ العلماء الرَّبَّانيِّين(٩) مِنْ أهل السُّنَّة والجماعة، أتباعِ السَّلف الصَّالح ـ قديمًا وحديثًا ـ، فليس لي ـ ولله الحمد ـ انتماءٌ لِعصبيَّةٍ، ولا اعتزاءٌ لِدعوةٍ غيرِ دعوة الإسلام المصفَّى، لا فكريَّةٍ ولا حزبيَّةٍ ولا سياسيَّةٍ ولا غيرها، لا داخِلَ الوطن ولا خارِجَه؛ غيرَ أنَّ عداءَ أهلِ الأهواء ـ لا سيَّما المتكلِّمين منهم ـ وحِقدَهم على أهل السُّنَّة والجماعة مستفيضٌ لا ينتهي، وقد سطَّره العلماء في مؤلَّفاتهم وكُتُبهم منذ القديم؛ ومِنْ عداءِ هؤلاء القوم أنَّهم إذا أَبصَروا مُوحِّدًا، مُتمسِّكًا بالكتاب والسُّنَّة، وعلى هديِ سَلَفِ الأُمَّة، يدعو إلى الله على بصيرةٍ بالحكمة والموعظة الحسنة، عادَوْه ورمَوْه بالعظائم عن قوسٍ واحدةٍ رميةَ رَجلٍ واحدٍ، وأغلقوا عليه جميعَ منافذ الدَّعوة وأبوابها، وجرَّدوه مِنْ كُلِّ وسائل العمل الدَّعْويِّ إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، وخشيةَ افتضاحِ أمرهم وصفوه بالتَّشدُّد والتَّزمُّت والتَّكفير ـ كما هي عادتُهم ـ ووَصَموه بالوهَّابيَّة والجاميَّة والمدخليَّة وغيرها؛ وهُم يعلمون أنَّ الإمام الشَّيخ محمَّد بنَ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ والشَّيخ محمَّد أمان علي الجامي ـ رحمه الله ـ والشَّيخ ربيع بن هادي عُمَيْر المدخلي ـ حفظه الله ـ وغيرهم، كُلُّهم مِنْ أهل السُّنَّة والجماعة، يَدْعون إلى التَّوحيد الخالص، ويَنصرون السُّنَّةَ المحضة، ويَقمعون الشِّركَ والإلحاد والبِدَع، ولم يَدَّعِ أحَدٌ منهم العصمةَ لنفسه، بل هم بَشرٌ يُصيبون ويُخطِئون، إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهُم لا يَدْعُون لحظوظِ أَنْفُسِهم ومَصالِحِ دُنْيَاهم، وإنَّما يَدْعون إلى اتِّباعِ كتاب الله وسنَّةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما اتَّفَقَتْ عليه الأُمَّةُ؛ فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سِوَاها.
علمًا أنَّ جمعيَّة العلماء الباديسيَّة الأصيلة نافحَتْ عن الشَّيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ ودافعَتْ ـ في زمانها ـ عنه في عدَّةِ مقالاتٍ دفاعًا قويًّا، وهذا كُلُّه مبثوثٌ وثابتٌ في مقالاتهم وآثارهم؛ قال أبو يعلى الزواوي ـ رحمه الله ـ: «ولهذا قلتُ ـ وما زلتُ ولن أَزالَ أقول ـ: إنَّ المالكيَّ الذي يطعن في الوهَّابيِّين يطعن في مالكٍ ومذهبِه مِنْ حيث يشعر أو لا يشعر، أو لأنَّه جاهلٌ أو متجاهلٌ»(١٠).
بخلاف الجمعيَّة الحزبيَّة الجزأريَّة التي تحارب عقيدةَ التَّوحيد ودعوةَ الحقِّ، وتُكِنُّ العداوةَ لأهلها، وتُوغِرُ صدورَ النَّاس عليهم؛ فاللهُ المَوْعد.
والحقيقة: أنَّ أهل الكلام والهوى والافتراق، بمَذَمَّتِهم ومَسبَّتِهم لأهل الحديث والسُّنَّة والجماعة، لا يقصدون ـ بحملتهم المسعورةِ هذه ـ إلَّا تنفيرَ النَّاس عن التَّوحيد الذي يَعُدُّونه تشدُّدًا وتكفيرًا وتنفيرًا وتعسيرًا وتفريقًا، بينما يعتبرون شِرْكيَّاتهم وبِدَعَهم توحيدًا ووسيلةً تُقرِّبُهم إلى الله زُلْفى، ولم تتوقَّفْ عداوتُهم لأهل السُّنَّة عند حدِّ الذَّمِّ والثَّلب والعيب والهجاء والسَّبِّ والهمز واللَّمز والنَّبز والغمز قولًا، بل تعدَّى الأمرُ إلى أَنْ آذَوْهم فعلًا؛ انتصارًا لمذهبِهم ونِحَلِهم وأهوائهم، وكُلَّما وجدوا سلطةً ليتسلَّطوا عليهم بها بالبغي والعدوان فعلوا؛ واللهُ المستعانُ.
ومِنْ أعظمِ ما أَلْهَبَ حِقدَ المُخالِفين لأهل السُّنَّة والجماعة، النَّاقمين عليهم مِنْ دُعَاةِ الفتنة والتَّكفير والتَّحزُّب هو حثُّهم وأمرُهم بلزومِ طاعةِ وليِّ الأمر في المعروف دون المعصية، سواءٌ كان ببيعةِ رِضًى أو بيعةِ قهرٍ وغلبةٍ، ونهيُهم وتحريمُهم الخروجَ عليه، مع الإرشادِ إلى بذل النُّصح وبيانِ الحقِّ له بالضَّوابط والقواعد قَدْرَ الإمكان؛ ومُنطلَقاتُ هذا الحكمِ مُستقاةٌ مِنْ نصوصٍ شرعيَّةٍ، ولا يجوز أَنْ تُقاسَ بالمعايير السِّياسيَّة أو بالطُّرُق الدِّيمقراطيَّة الحزبيَّة البعيدةِ عن شرع الله؛ لأنَّها قاصرةٌ عن دركِ حكمةِ تشريعِ هذا الحكم، والذي أكَّدَتْه الحوادثُ على مرِّ العصور واختلافِ الأقطار في البلدان الإسلاميَّة وغيرِها، وما الرَّبيعُ العربيُّ ـ زعموا ـ وما خلَّفه مِنْ نَكَباتٍ مُفجِعةٍ وآثارٍ داميةٍ لا تزال أمَّةُ الإسلام تعاني منها إلى يومِنا هذا، كُلُّ ذلك غيرُ خافٍ وليس منَّا ببعيدٍ!! «ولهذا كان المشهور مِنْ مذهب أهل السُّنَّة أنَّهم لا يرَوْن الخروجَ على الأئمَّة وقتالَهُم بالسَّيف وإِنْ كان فيهم ظلمٌ، كما دلَّتْ على ذلك الأحاديثُ الصَّحيحة المستفيضة عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ الفساد في القتال والفتنةِ أعظمُ مِنَ الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتالٍ ولا فتنةٍ؛ فيُدفَع(١١) أعظمُ الفسادَيْن بالْتزامِ أَدْنَاهما؛ ولعلَّه لا يكاد يُعرَف طائفةٌ خرجَتْ على ذي سلطانٍ إلَّا وكان في خروجها مِنَ الفساد ما هو أعظمُ مِنَ الفساد الذي أزالَتْه»(١٢).
وقد جرى في المُعتقَد السَّليم أنَّ المخالفين مِنْ أهل الأهواء والزَّيغ مِنَ المتكلِّمين والمتصوِّفة وأضرابهم، لا يَصْلُحون لرتبة الإمامة في الدِّين، ولا يُعتبَرون مِنْ طبقات العلماء الرَّبَّانيِّين، وليسوا أهلًا لها، مهما عَلَا كعبُهم في العلوم العقليَّة والأذواق الوجديَّة، وتسلَّقوا المناصبَ الرِّياديَّة والقياديَّة، ولمَّعوا أنفُسَهم ونَفَخوها على الشَّاشات والمِنَصَّات والفضائيَّات؛ فهُم لا يَصلُحون لذلك بسببِ ظُلْمهم وإعراضهم عن الكتاب والسُّنَّة ومنهج سلف الأمَّة، وتمسُّكهم بأهوائهم العقليَّة في باب العلم والاعتقاد، وأذواقهم الوجديَّة في باب العمل والسُّلوك، والتي فرَّقَتْهم وحَرَفتهم عن الصِّراط المستقيم؛ وكيف يكون صاحبُ الهوى والبدعة والخرافة عالمًا ربَّانيًّا؛ والمعلومُ أنَّ «العلماء هم حُرَّاسُ الدِّين وحُمَاتُه مِنَ الابتداع والتزييف»(١٣)؟! فإنَّ هذا مِنْ تمييع الدِّين وتزييف الحقائق؛ ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ ١٢٤﴾ [البقرة]؛ ذلك لأنَّه «لا يَنالُ الإمامةَ في الدِّين مَنْ ظَلَم نَفْسَه وضَرَّها وحطَّ قَدْرَها؛ لمنافاة الظُّلم لهذا المَقام؛ فإنَّه مَقامٌ آلتُه الصَّبرُ واليقين، ونتيجتُه أَنْ يكون صاحبُه على جانبٍ عظيمٍ مِنَ الإيمان والأعمالِ الصَّالحة، والأخلاقِ الجميلة، والشَّمائلِ السَّديدة، والمَحبَّة التَّامَّة، والخشيةِ والإنابة، فأين الظُّلمُ وهذا المَقام؟!»(١٤).
قال شيخ النَّهضة السَّلفيَّة في هذا العصرِ في الدِّيار الجزائريَّة عبد الحميد بنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «فكُلُّ مَنِ اخترع وابتدع في الدِّين ما لم يعرفه السَّلفُ الصَّالح فهو ساقطٌ عن رتبة الإمامة فيه»(١٥).
وهذا المعنى نَقَل ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ الإجماعَ عليه حيث قال: «أجمعَ أهلُ الفقه والآثار مِنْ جميع الأمصار: أنَّ أهل الكلام أهلُ بِدَعٍ وزيغٍ، ولا يُعَدُّون ـ عند الجميعِ في جميع الأمصار ـ في طبقات العلماء، وإنَّما العلماء أهلُ الأثر والتَّفقُّهِ فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والمَيْز والفهم»(١٦).
ذلك لأنَّ العلم النَّافع الذي اختصَّ به سلفُ الأمَّة وأئمَّتُها إنَّما هو العلمُ الشَّرعيُّ القائم على صحيح المنقول، المقتضي للإخلاص لله بالتَّوحيد علمًا؛ إذ يهدي مِنَ الضَّلالة، ويُبيِّن طُرُقَ الخير والشَّرِّ مِنْ جهةٍ؛ والمُستلزِمُ للمتابعة للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عملًا مِنْ جهةٍ أخرى؛ لأنَّ «كُلَّ عملٍ صالحٍ مُزَكٍّ للقلوب، مُطهِّرٍ للنُّفوس، مُرَبٍّ للأخلاق، مُعْلٍ للأقدار»(١٧) فهو مِنْ دِينِ الحقِّ، المؤسَّس على العدل والإحسان والرَّحمة، فقَدْ أَتَى بأكملِ الشَّرائع وأزكاها، فلا يَملك صريحُ المعقول إلَّا أَنْ يُقِرَّ ويُذعِن للمنقول بالتَّسليم والقَبول.
ولا يفوت عاقلًا أنَّ الإخلاصَ والمتابعة هما: ما تضمَّنَتْه الشَّهادتان: شهادةُ ألَّا إلهَ إلَّا الله؛ وهذا الإخلاص؛ وشهادةُ أنَّ محمَّدًا رسول الله؛ وهذا الاتِّباع؛ وهما شرطُ قَبول الأعمال، وجماعُ الخير، وسبيلُ الفلاح والفوز بخيرَيِ الدُّنيا والآخرة.
وقد أَوجبَ لهم صِحَّةَ هذا المسلكِ ما اعتمدوه في تقريرِ مسائل الاعتقاد والاستدلال عليها بناءً على المنهج السَّويِّ، القائمِ على عدمِ تعارُض العقل الصَّريح مع النَّقل الصَّحيح؛ إذِ الموافقةُ بينهما لا يعتريها نقضٌ ولا تعارضٌ ولا اضطرابٌ؛ فتَحقَّقَ لهم ـ بفضل الله وحُسنِ عونه ـ ما لم يتحقَّقْ لغيرهم مِنْ معانٍ ومضامينَ تحملها رسالةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الدَّعوة إلى الله تعالى مِنَ الهدى ودِين الحقِّ؛ كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ﴾ [التوبة: ٣٣؛ الفتح: ٢٨؛ الصف: ٩]؛ وقد أبانَ ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ معنى الهدى ودِين الحقِّ فقال في «تفسيره»: «أي: بالعلم النَّافع والعمل الصَّالح؛ فإنَّ الشَّريعة تشتمل على شيئين: علمٍ وعملٍ؛ فالعلمُ الشَّرعيُّ صحيحٌ، والعمل الشَّرعيُّ مقبولٌ؛ فإخباراتُها حقٌّ، وإنشاءاتُها عدلٌ»(١٨).
ولا يخفى على ذي لُبٍّ أنَّ مَنْ أَعرضَ عن وحي الله، وعارَضَه بالشُّبُهات العقليَّة الباطلة الفاسدة، وقابله بالآراء الفلسفيَّة العاطلة الكاسدة؛ عاقبه اللهُ بقدرِ معارضته لوحيه ومخالفتِه لشرعه؛ وذلك مِنْ مقتضى العدل الإلهيِّ؛ فترمي به شُبَهُه وتهوي به أهواؤه إلى مكانٍ سحيقٍ، وتُبعِده بِدَعُه المُختلِفة عن سبيل الله الوحيدِ المُوصِل إليه وإلى دارِ كرامته، وتُلحِقه بسُبُل الغواية التي نهى اللهُ تعالى عن اتِّباعها، وهي طُرُقُ الانحراف في العلم التي سَلَكها أهلُ الخوض في الكلام والجدل مِنَ الفلاسفة والمناطقة، وطُرُقُ الانحراف في العمل والسُّلوك التي سَلَكها المتصوِّفة، ومَنْ تأثَّر بهم عبرَ الزَّمن إلى زماننا هذا؛ وقد جاء التَّحذيرُ منها والنَّهي عنها صريحًا في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾ [الأنعام]؛ فالآيةُ تحضُّ ـ في جملتها ـ على إقامة الدِّين، والثَّباتِ عليه، والاعتصامِ به، واتِّباعِ الصِّراط المستقيم؛ ولا شكَّ أنَّ الصِّراط المستقيم هو ما كان عليه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه؛ كما بيَّنه اللهُ تعالى بقوله: ﴿صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ٧﴾ [الفاتحة]؛ لأنَّ المُنعَم عليهم ـ قطعًا ـ مِنْ هذه المِلَّةِ هم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه؛ وقد جاء في التَّنزيل: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]، وقال تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨﴾ [يوسف]؛ وعليه، فإنَّ الثَّابت على الحقِّ هو مَنْ لَزِم الصِّراطَ المستقيم، ولم يُحدِثْ فيه شيئًا، ولم يقع منه تفرُّقٌ أو اختلافٌ، ما دام على الصِّراط قائمًا لم يخرج عنه، وإنَّما تقع تَبِعةُ الاختلاف في الدِّين والتَّفرُّق فيه على مَنْ خَرَج عن الصِّراط المستقيم، إمَّا إلى جهة الغُلُوِّ والإفراط، وإمَّا مِنْ جهة الإرجاء والتَّقصير والتَّمييع؛ فهؤلاء هم أهل الغُلُوِّ والبغي والطُّغيان والتَّطرُّف والتَّفريط وغيرِها مِنَ النُّعوت اللَّاصقة بأهل الأهواء والبِدَع والشِّرك، ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم]؛ فهذه الألقابُ تنطبقُ على المعترضين المخالفين، لا على مَنِ الْتَزم سبيلَ الحقِّ واتَّبَع الصِّراطَ المستقيم.
فتُلصَقُ الغوايةُ ـ مِنْ بينِ أهل القِبْلة ـ بمَنْ فرَّقوا دِينَهم وكانوا شِيَعًا، لا بأهل الحديث والسُّنَّة، الَّذين لم يُبدِّلوا ولم يَتغيَّروا؛ ذلك لأنَّ أهل الفُرْقة قدَّموا عقولَهُم وآراءَهم التي ابتدعوها وعارضوا بها وحيَ ربِّهم وشَرْعَه، فحرَّفوا التَّوحيدَ الذي بَعَث اللهُ به رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى معنى توحيد الرُّبوبيَّة والسِّيادة، وأهملوا توحيدَ الألوهيَّة والعبادة الذي هو المَقصِد الأسمى والغايةُ العُظمى مِنْ خَلْقِ الخليقة وإنزال الكُتُب وإرسالِ الرُّسُل، وبه افترق النَّاسُ إلى مؤمنين وعُصاةٍ، وأولياءَ سُعَداءَ أهلِ الجنَّة وأعداءٍ أشقياءَ أهلِ النَّار، وخاضوا بعقولهم في صفات الله وحرَّفوها وعطَّلوا اللهَ عنها، وأَوقعهم صنيعُهم هذا في الاضطراب والتَّناقض في تقريرِ كثيرٍ مِنْ مسائل الاعتقاد والاستدلال عليها، فحادوا بذلك عن الصِّراط المستقيم، وقالوا على الله غيرَ الحقِّ وبِلا علمٍ؛ وكان ذلك مِنْ أعظمِ البِدَع والمحرَّمات.
وقد أبانَ الإمام ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ معنى التَّقوُّل على الله بلا علمٍ، وما ينجم عنه مِنْ مفاسدَ ورديءِ القول حيث قال ما نصُّه: «فهذا أعظمُ المحرَّمات عند الله وأشدُّها إثمًا؛ فإنَّه يتضمَّن الكذبَ على الله، ونسبتَه إلى ما لا يليق به، وتغييرَ دِينِه وتبديلَه، ونفيَ ما أَثبتَه وإثباتَ ما نَفَاه، وتحقيقَ ما أَبطلَه وإبطالَ ما حقَّقه، وعداوةَ مَنْ والاه وموالاةَ مَنْ عاداه، وحُبَّ ما أَبغضَه وبُغضَ ما أَحبَّه، ووَصْفَه بما لا يليق به في ذاته وصِفَاته وأقواله وأفعاله؛ فليس في أجناس المحرَّمات أعظمُ عند الله منه ولا أشدُّ إثمًا؛ وهو أصلُ الشِّرك والكفر، وعليه أُسِّسَتِ البِدَعُ والضَّلالات، فكُلُّ بدعةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّين أساسُها القولُ على الله بلا علمٍ؛ ولهذا اشتدَّ نكيرُ السَّلف والأئمَّةِ لها، وصاحوا بأهلها مِنْ أقطار الأرض، وحذَّروا فِتنتَهم أشدَّ التَّحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مِثْلَه في إنكار الفواحش والظُّلم والعدوان؛ إذ مَضرَّةُ البِدَع وهدمُها للدِّين ومنافاتُها له أشدُّ؛ وقد أَنكرَ تعالى على مَنْ نَسَب إلى دِينه تحليلَ شيءٍ أو تحريمَه مِنْ عنده بلا برهانٍ مِنَ الله فقال: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ﴾ [النحل]، الآية؛ فكيف بمَنْ نَسَب إلى أوصافه ـ سبحانه وتعالى ـ ما لم يَصِفْ به نَفْسَه، أو نفى عنه منها ما وَصَف به نَفْسَه؟!»(١٩).
فهذا غيضٌ مِنْ فيضٍ مِنْ شُبُهاتهم العقليَّة التي عارضوا بها الوحيَ المنزَّل، وفارقوا صحيحَ المنقول، وأوَّلوه على غير تأويله، وحرَّفوا معانيَ ألفاظِ الكتاب والسُّنَّة، وردُّوا أخبارَ الآحاد ـ ما أَمكنَهم ـ بقواعدهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة؛ لأنَّ الأصول التي بَنَوْا عليها دِينَهم تُناقِض منصوصَ الكتاب والسُّنَّة، فضَعُف توقيرُ أدلَّة الكتاب والسُّنَّة، فلم يَبْقَ لها هيبةٌ ولا تقديرٌ في نفوسِ مَنْ تأثَّر بعلم الكلام والمنطق؛ فأضحى الاستدلالُ بها للمعاضدة والاستئناس بعد تقديمهم للأدلَّة العقليَّة ـ زعموا ـ فهُم ومَنْ تَبِعهم ـ في زماننا ـ أهلُ جنايةٍ عظيمةٍ على دِين الإسلام وأهلِه، فقَدْ شوَّهوا العقيدةَ الإسلاميَّة الصَّافية، وردُّوا نصوصَ الوحي، وألغَوْا مدلولَهَا بدعوَى تعارُضِها مع القطعيَّات العقليَّة، والتي هي أحرى أَنْ تُسمَّى وهميَّاتٍ وجهليَّاتٍ وضلالات؛ ففرَّقوا كلمةَ المسلمين، وشقُّوا صفَّ جماعتهم، فتحزَّبَتْ فِرَقُهم على أصولٍ وعقائدَ مخالِفةٍ لأصولِ أهل السُّنَّة والجماعة وعقائدِهم، ففَسَدَتْ بذلك عقائدُهم علمًا وعملًا، فمالوا عن الصِّراط المستقيم؛ فَاسْتَحقُّوا اسْمَ التَّطرُّف والغُلُوِّ والفُرقة، وسائر ما رَمَوْا به أهلَ السُّنَّة كذبًا وزُورًا.
إنَّ الانتصار لمذهب الأشاعرة والمعتزلة وأضرابهم هو الانتصارُ لأهل الكلام الباطل والجدل المذموم في دِين الله تعالى، وذلك مِنْ أعظمِ أسباب الاختلاف والفُرقة وضَياع الأُلفة، وكثرةِ التَّنقُّل والتَّحوُّل والتَّلوُّن والتَّميُّع، والخروجِ عن منهج السَّلف الصَّالح؛ ونهايةُ أمره إلى مقارفة البدعة ومفارقةِ السُّنَّة؛ فأين أدعياءُ المالكيَّة مِنْ مقالات مالكٍ ـ رحمه الله ـ وكبارِ أصحابه وأئمَّةِ السُّنَّة الفحول في ذمِّهم لطريقة أهل الكلام والجدل والفلسفة مِنَ الأشاعرة وغيرهم؟!
وهذه بعضُ النُّصوص المنقولة عن إمام المذهب الإمامِ مالكٍ ـ رحمه الله ـ نُورِدُها، لعلَّ القوم يستفيقون ويرجعون:
ـ فقَدِ اعتبر الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ أهلَ الكلام هم أهلَ البِدَع، فعن أَشهبَ بنِ عبد العزيز قال: سَمِعْتُ مالكَ بنَ أنسٍ يقول: «إِيَّاكُمْ وَالبِدَعَ» قِيلَ: «يا أبا عبد الله، وما البِدَع؟» قال: «أهل البِدَع الَّذين يتكلَّمون في أسماء الله وصِفَاتِه وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عمَّا سَكَت عنه الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ»(٢٠).
ـ وروى عبد الرَّحمن بنُ مهديٍّ عن مالكٍ أنَّه قال: «لو كان الكلام علمًا لَتكلَّم فيه الصَّحابةُ والتَّابعون كما تكلَّموا في الأحكام والشَّرائع، ولكنَّه باطلٌ يدلُّ على باطلٍ»(٢١).
ـ وقال الإمام مالكٌ ـ أيضًا ـ: «أفكُلَّما جاءنا رَجلٌ أجدلُ مِنْ رَجلٍ تَرَكْنا ما نَزَل به جبريلُ عليه السَّلام على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم لجدلِه؟!»(٢٢).
ـ وعن أبي ثورٍ: سمِعْتُ الشَّافعيَّ يقول: «كان مالك بنُ أنسٍ إذا جاءه بعضُ أهل الأهواء قال: «أَمَا إنِّي على بيِّنةٍ مِنْ ربِّي ودِيني، وأمَّا أنتَ فشاكٌّ؛ اذهَبْ إلى شاكٍّ مِثلِك فخاصِمْه»»، وعن ابنِ وهبٍ عن مالكٍ مِثْلَه(٢٣).
ـ وقال أبو طالبٍ المكِّيُّ: «كان مالكٌ أبعدَ النَّاس مِنْ مذاهب المتكلِّمين وأشدَّهم بغضًا للعراقيِّين(٢٤)، وأَلزمَهم لسنَّةِ السَّالفين مِنَ الصَّحابة والتَّابعين»(٢٥).
ـ وقال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «وقد أجمعَ أهلُ العلم بالسُّنن والفقه ـ وهُم أهلُ السُّنَّة ـ على(٢٦) الكفِّ عن الجدال والمناظرة فيما سبيلُهم اعتقادُه بالأفئدة ممَّا ليس تحته عملٌ، وعلى الإيمان بمُتشابِه القرآن، والتَّسليمِ له ولِمَا جاء عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أحاديث الصِّفات كُلِّها وما كان في معناها، وإنَّما يبيحون المناظرةَ في الحلال والحرام وما كان في سائر الأحكام يجب العملُ بها»(٢٧).
ـ وقال ابن خويز منداد ـ رحمه الله ـ في «كتاب الشَّهادات» في تأويلِ قول مالكٍ: «لا تجوز شهادةُ أهل البِدَع وأهلِ الأهواء» على ما نَقَله عنه ابنُ عبد البرِّ ـ رحمهم الله جميعًا ـ قال: «أهلُ الأهواء ـ عند مالكٍ وسائرِ أصحابنا ـ هم: أهلُ الكلام؛ فكُلُّ مُتكلِّمٍ فهو مِنْ أهل الأهواء والبِدَع، أشعريًّا كان أو غيرَ أشعريٍّ، ولا تُقبَل له شهادةٌ في الإسلام، ويُهجَر ويُؤدَّب على بدعته، فإِنْ تمادى عليها استُتِيبَ منها»(٢٨).
ـ لذلك قال ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «ويا ليتَ الناسَ كانوا مالكيَّةً حقيقيَّةً! إذًا لَطرحوا كُلَّ بدعةٍ وضلالةٍ، فقَدْ كان مالكٌ ـ رحمه الله ـ كثيرًا ما يُنشِد:
وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ: مَا كَانَ سُنَّةً *** وَشَرُّ الأُمُورِ: المُحْدَثَاتُ البَدَائِعُ»(٢٩)
والجدير بالتَّنبيه والملاحظة: أنَّه كما لا يجوز نسبةُ مذهبِ الاعتزال للأشعريِّ في مرحلة النَّشأة، فكذلك لا يجوز نسبةُ مذهبِ ابنِ كُلَّابٍ له في مرحلته المتوسِّطة بعد توبته ورجوعه إلى مذهب السَّلف الصَّالح؛ لأنَّ الحقَّ أنَّه لا يُنسَب للمرء إلَّا ما اعتقده أخيرًا ومات عليه؛ ولهذا لا يُوصَفُ ـ في عقيدته المتوسِّطة ـ بأنَّه سلفيٌّ؛ لِمَا في ذلك مِنِ امتزاجٍ وخلطٍ بين عقيدته المتوسِّطة والأخيرة؛ وفي هذا المعنى قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «لكنَّ مجرَّد الانتساب إلى الأشعريِّ بدعةٌ، لا سيَّما وأنَّه بذلك يُوهِم حُسنًا بكُلِّ مَنِ انتسب هذه النِّسبةَ، وينفتح بذلك أبوابُ شرٍّ»(٣٣).