بالصور: طقوس رمضان الرائعة في السودان
يشتهر السودانيون بكافة أعراقهم بالطيبة والتكافل الاجتماعي رغم الحروب وانتشار الفقر، ويتجلى هذا الأمر بشكل واضح في شهر رمضان الذي له مكانة خاصة ومميزة عندهم
يحرص السودانيون خلال شهر رمضان الكريم على فضيلة إفطار الصائمين حيث أصبحت عادة من عادات هذا الشعب، بيد أنهم يذهبون في ذلك إلى درجة قطع الطريق على الصائمين وتوقيفهم.
ويجتهد السودانيون في ممارستهم لهذه العادة وللحصول على ضيوف لموائدهم الرمضانية إلى حد قطع الطريق على السيارات التي تمر بجوار أحيائهم أو قراهم وتوقيفها بكل السبل رغم ما في ذلك من مخاطر محتملة.
وأصبحت هذه العادة ملفته لانتباه الغير وتأصلت وسط السودانيين وتأبى الاندثار والتأثر بتقلبات السياسة والاقتصاد، وتنتشر في المدن والقرى والأسواق ولا تقتصر على منطقة دون أخرى في البلاد.
ويقول أحد المارة -الذين نزلوا ضيوفا على إحدى القرى بأحد الطرق السريعة شمال الخرطوم إنهم أوقفوا من قبل أكثر من عشرين مجموعة وهم في طريقهم إلى قريتهم القريبة، وفي النهاية تغلب عليهم الأهالي مع اقتراب وقت الإفطار.
رمضان السودان.. تشارك وعصيدة و"حلو مرّ"
وفي السودان، من يفطر في بيته يعدّ بخيلاً أو حتى منعزلاً. الجميع لا سيّما في الأرياف والأحياء الشعبيّة في العاصمة، يحرص على تناول الإفطار في الأماكن العامة والابتعاد عن التقوقع في داخل المنازل.
وفي خلال هذا الشهر، يلتقي السودانيّون من رجال وشباب الحيّ الواحد عند مدخل حيّهم أو أمام المنازل للإفطار معاً، في حين يحمل كل واحد منهم معه ما جادت به زوجته من طعام وعصائر وحلويات. فيجلسون في صفَّين متقابلين تتوسّطهم صواني الطعام الذي تعدّ العصيدة والقراصة طبقَيه الرئيسيَّين. ويحرص الجميع على تبادل الأطباق عند الإفطار ليتذوّقوا طعام بعضهم البعض في صورة تكافليّة تنتهي عندها الفروقات ما بين الطبقات والمقامات. فحول تلك المائدة لا يمكن تمييز الفقير من الغني ولا المتعلّم من الأمي ولا الصغير من الكبير.. فالجميع واحد.
"
من يفطر في منزله في السودان يعدّ بخيلاً أو منعزلاً
"
وعند إغلاق الشوارع التي تقام فيها موائد الإفطار الجماعيّة، يلزم المارة على المشاركة في تلك الموائد. وفي المناطق القريبة من الشوارع الرئيسيّة والتي تمرّ فيها عادة المركبات التي تقلّ مسافرين من ولاية إلى أخرى، يحرص أهل المنطقة على قطع الطريق عبر عقد عدد من الشالات المصنوعة من القماش والتلويح بها للمركبة من بعيد. فتضطرّ إلى التوقّف ويشارك ركابها الأهالي وجبة إفطارهم. وهؤلاء الأخيرين يحرصون عادة على إعداد كميات كبيرة من الأطعمة. وإذا كانت المركبات تقلّ نساءً، فيناولهنّ الصبية نصيبهنّ من الإفطار.
إلى ذلك، يعدّ رمضان بمثابة فرحة للصبية، إذ يتجمّعون قبيل الفجر ويجوبون الأحياء ويقطعون مسافات بعيدة وهم يقرعون آلات بدائيّة وينادون بأعلى صوتهم على الصائمين لإيقاظهم من النوم، وقد حان موعد السحور. ومما يردّدونه "يا صائم قوم اتسحّر!"...
الحلو مرّ
وتتميّز المائدة الرمضانيّة في السودان بأطباق رئيسيّة عدّة تختلف من منطقة إلى أخرى كـ"العصيدة" وهي عبارة عن دقيق ذرة يطبخ مع الماء ليتحوّل إلى مادة سميكة، و"القراصة" وهي عبارة عن عجينة قمح تخبز على صاج وتأتي على شكل دائري سميك وتقدم عادة مع "التقلية" وهي عبارة عن بامية مجفّفة مطحونة تطبخ مع البصل واللحم المجفّفَين والصلصة.
كذلك، يشتهر عصير "الحلو مرّ" الذي لا تكاد تخلو منه أي مائدة رمضانيّة في أي منزل سوداني، حتى في المهجر. فهو مشروب سوداني تقليدي يصنع يدوياً، وعادة ما يتمّ إعداده قبل أشهر من رمضان نظراً لصعوبة صنعه أولاً ولأن الأهالي يحرصون على إرساله إلى أبنائهم في خارج البلاد قبل زمن الصيام.
ويعدّ "الحلو مرّ" من الذرة التي يتمّ غسلها ونقعها في الماء لمدة يوم كامل، لتفرش من ثمّ على خيش رطب على الأرض وتغطى بقطعة خيش أخرى رطبة أيضاً. وتترك هكذا لمدّة ثلاثة أو أربعة أيام على أن يتمّ رشّها بالماء بشكل يومي حتى تنبت تلك الذرة وتظهر عروقاً حمراً. حينها، توضع تحت أشعة الشمس لتجفّ، وتطحن من ثمّ. بعد ذلك تبدأ عمليّة إعدادها بصبّ الطحين على صاج كبير هو عبارة عن قدر ماء مغلي، تضاف إليه الخميرة أو عجين كسرة سودانيّة. ويترك المزيج ليوم أو يومَين حتى يرتاح.
"
العواسة كناية عن طقس قائم بذاته، إذ يتداعى الجيران والأهل في ظاهرة اجتماعيّة ويتناوبون عليها
"
وقبل مرحلة الخبز بخمس ساعات والذي يطلق عليها محلياً "العواسة"، تضاف إلى الكتلة المكوّنة المتماسكة مجموعة من البهارات وعصير الكركديه والعرديب لمنحها اللون الأحمر. أما عمليّة العواسة فهي كناية عن طقس قائم بذاته، إذ يتداعى الجيران والأهل في ظاهرة اجتماعيّة ويتناوبون على العواسة التي تعدّ قاسية وتستغرق ما يقارب الست ساعات. وعادة ما ينقع الحلو مرّ بعد عواسته في الماء ما بين ساعتَين وثلاث ساعات، قبل أن يصبح جاهزاً للتقديم.
كذلك، يحرص السودانيّون على إعداد "الرقاق" الذي يتناول عادة عند السحور مع الحليب الساخن. وهو عبارة عن دقيق قمح مبشور ونشاء وحليب يخبز على صاج على شكل رقائق كبديل عن رقائق الفطور الجاهزة وله الطعم نفسه.
والموائد السودانيّة في رمضان تأخذ طابعاً مختلفاً، مع أصناف متنوّعة من الأطعمة في حين يتمّ الاحتفاظ بالطبقَين الرئيسيّين أي العصيدة والقراصة، مع تكرارهما طيلة ثلاثين يوماً إلى جانب "سلطة الروب" وهي عبارة عن عجور مبشور مع لبن زبادي وبهارات بالإضافة إلى "البليلة" المصنوعة من الذرة الشاميّة أو العدسيّة وهي حبوب بنيّة اللون يشتهر السودان بزراعتها.
إلى ذلك، يحرص السودانيّون على إعداد الحلويات كالكنافة والبسبوسة وبلح الشام. وتكثر في هذا الشهر الزيارات الاجتماعيّة وعزائم الإفطار التي تجمع الأهل والأقارب بالإضافة إلى إفطار "البيت الكبير" أي الذي يقام في منزل الجدّ أو الجدّة. ويحرص السودانيّون أيضاً على تناول الإفطار عند كل من فقد عزيزاً في الفترة الزمنيّة التي سبقت رمضان مع حمل مواد تموينيّة لهم من سكر وشاي وحلو مرّ وغيرها، كنوع من التكافل الاجتماعي.
في رمضان أيضاً، تنتشر في السودان ظاهرة اجتماعيّة تعرف بـ"فاعل خير"، إذ تقف مجموعة من الشباب عند مدخل الجسور والطرقات البعيدة عن المنازل والمستشفيات لتقديم وجبة إفطار خفيفة للمارة وللذين يتنقلون في المركبات العامة أو الخاصة والذين فاتهم الإفطار في منازلهم.
صندوق رمضاني
أحمد الخليفة أحمد يسكن في أحد الأحياء الشعبيّة في الخرطوم. يقول لـ"العربي الجديد" إن لرمضان طعماً خاصاً في منطقته. فهناك، تحرص نساء الحي وقبل ستّة أشهر من رمضان على إنشاء صندوق جمعيّة لشراء جميع متطلبات شهر الصيام من سكّر وشاي ومواد أساسيّة لإعداد الطعام مثل الزيت والبصل والبهارات. ويشير إلى أن في الحي عادة ستّة منازل بجوار بعضها البعض، فيتمّ تقسيم المواد التموينيّة تلك في ما بينها. ويوضح أن "ثلاثة منازل محدّدة تتوكّل مهمة إعداد العصائر طيلة شهر رمضان والثلاثة الأخرى توكل إليها مهام إعداد الطعام. وعلى هذا الأساس يوزّع ما تمّ شراؤه من مواد". يضيف أن "أهالي تلك البيوت يحرصون على تناول الإفطار في الشارع الرئيسي ويدعون ركاب المركبات إلى مأدبتهم من دون تمييز بين مسلم ومسيحي".
من جهته يقول جعفر السبكي وهو من إقليم دارفور، إن لرمضان طعماً خاصاً هناك أيضاً، إذ يستقبل بتلاوة القرآن كذلك تبدأ ترتيباته في شهر شعبان في المنازل بتقطيع اللحم والبصل إلى شرائح رقيقة وتجفيفها لاستخدامها في طبخ "التقلية". ويتحدّث عن الأطباق التي يشتهر بها أهل دارفور في شهر الصيام، وهي عادة العصيدة بالإضافة إلى "الويكاب" وهي نبتة تشتهر بها دارفور ذات رائحة نفاذة، و"المرس" الذي يصنع من أمعاء المواشي.
"
يتحوّل إفطار رمضان إلى فعاليّة اجتماعيّة واجتماع موسّع يلتقي فيه الأهل والأصدقاء والجيران بعد انقطاع، على مائدة واحدة
"
ويشير السبكي إلى أن الشباب هناك يقضون أيام رمضان في لعب الكوشتين في ظل الأشجار. وعندما يشتدّ الحرّ، يعمدون إلى رشّ الأرض الرمليّة بالماء لتصبح رطبة فينبعث منها هواء بارد لا سيّما وأن معظم السكان هناك يفتقرون إلى أجهزة التكييف والمراوح. يضيف أنه قبل الحرب كان الكل يجتمع في منزل الشيخ حافظ القرآن باعتباره زعيم المنطقة، لكن الآن وبعد الحرب وتفشي القبليّة انتهت تلك الظاهرة.
أما حسين سعد وهو من وسط السودان، فيقول إن أكثر ما يميّز رمضان عندهم إلى جانب حرص أهالي المنطقة على قطع الطريق أمام المسافرين لإطعامهم، هو تحوّل إفطار رمضان إلى فعاليّة اجتماعيّة واجتماع موسّع يلتقي فيه الأهل والأصدقاء والجيران بعد انقطاع، على مائدة واحدة.
يضيف سعد أنه في خلال رمضان، يرتدي الشباب والشيوخ قبعات خضراء مصنوعة يدوياً من الصوف، إلى جانب حملهم المسابح والمساويك، وهي عبارة عن أعواد من خشب الأراك يلطّ بها الفم إذ تتميّز برائحة ذكيّة ولا تؤثّر في الصيام.
ويبقى أنه وعلى الرغم من الضائقة الاقتصاديّة التي تعانيها البلاد، فإن الأسر تحرص على أن لا تخلّ بالعادات التي درجت عليها لاستقبال شهر الصيام. لكن الإشارة تجدر هنا إلى أن البعض تنازل عن ظاهرة تجديد الأواني المنزليّة سنوياً، كذلك تراجعت في العاصمة ظاهرة إعداد الحلو مرّ بعد تخصّص بعض السيدات بصنعه وبيعه، الأمر الذي يوفّر جهداً ووقتاً.