ركن نفحات رمضانية (من هدي القرآن والسنة )
سلسلة قصص الأنبياء
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا ،ونصب لنا الدلائل على صحته برهانا مبينا ، وأوضح السبيل الى معرفته وإعتقاده حقا يقينا .
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ولا ضد ولا ند له تعالى عن إفك المبطلين وخرص الكاذبين وأشهد انا محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته وأمينه على وحيه
فان اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
فكرة السلسلة
أحبابنا أعضاء وروّاد المنتدى الأعزاء،ستكون السلسلة بإذن الله يومية وسيكون لها أثر طيب في هذا السرح المبارك .نجتمع من خلالها يوميا لكي نتعض ونأخذ العبر من أخبار السالفين ولكي لا أطيل فمن قصصهم تقرير للايمان بالله وتوحيده .وعبرة للمؤمنين .
دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه ءازر إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة
ذكر أهل التواريخ أن إبراهيم انطلق بزوجته سارة وابن أخيه لوط، فخرج بهم من أرض الكلدانيين الى أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فنزلوا حران وكان أهلها يعبدون الكواكب السبعة، فقام الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى دين الله وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وكان أول دعوته لأبيه ءازر الذي كان مشركًا يصنع الأصنام ويعبدها ويبيعها للناس ليعبدوها، فدعاه إلى عبادة الله وحده وإلى دين الحق الإسلام بألطف عبارة وبأحسن بيان، وبالحكمة والموعظة الحسنة، قال الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا{41}إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا{42}يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا{43}يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا{44}يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}سورة مريم،وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}سورة الأنعام.
مناظرة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الملك الجبار نمرود الذي ادعى الألوهية
مناظرة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الملك الجبار نمرود الذي ادعى الألوهية
أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحجة على قومه بعد أن حطّم أصنامهم، فاغتاظوا منه وأحضروه أمام ملكهم النمرود وأشراف قومه. فأخذ النمرود ينكر على إبراهيم عليه السلام دعوته إلى دين الإسلام، وأن الله تعالى هو ربُّ العالمين لا ربَّ سواه، وأخذ يدّعي عنادًا وتكبرًا أنه هو الإله وقال لإبراهيم: أخبِرْني الذي تعبده وتدعو إلى عبادته ما هو، فقال له إبراهيم عليه السلام:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ}سورة البقرة، وبيَّن له أن الله تعالى هو خالق كل شيء، واستدل على وجود الخالق بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وإماتتها، وأنه لا بُدَّ لهذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر من خالق مُسَخِّرٍ لها ومُدَبِّر.
فقال النمرود الجبار المستكبر: أنا أحيي وأميت أي أنا أحيي من أشاء بالعفو عنه بعد أن يكون صدر الحكم عليه بالقتل فينعم بالحياة، وأنا أميت من أشاء بأمري وأقضي عليه بحكمي، وقال: ءاخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته.
ظن نمرود بمقالته هذه البعيدة عن الحقيقة أنه على صواب وأراد المراوغة والاستكبار ، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يفحمه بالحجة القوية ويضيق عليه الخناق ويظهر له جهله وسخف عقله أمام قومه، فأعطاه دليلًا قويًا على أن الله تعالى هو الخالق المدبر لهذا العالم، وأن ما ادعاه عنادًا واستكبارًا باطل فقال له:{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أي أن هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها الله الذي هو خالقها وخالق كل شيء، فان كنت كما زعمت باطلًا أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يُمانَع ولا يُغالَب.
وأمام هذه الحجة الساطعة وقف النمرود مبهوتًا مبغوتًا أمام قومه، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
مُعجزةُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في عدم احتراقه بالنار
مُعجزةُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في عدم احتراقه بالنار
أراد قومُ إبراهيم عليه السلام أن ينتقموا من إبراهيم عليه السلام لما كسّر أصنامهم وحطمها وأهانها، فلمَّا غلبهم بحجتِه القوية الساطعة أرادوا مع مَلِكهم هذا أن ينتقموا منه فيحرقوه في نار عظيمة فيتخلصوا منه، قال تعالى مخبرًا عن قولهم:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}سورة الصافات، وقال:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}سورة الأنبياء. فشرعوا يجمعون الحطب من جميع ما يمكنهم من الأماكن ليلقوه بها وجعلوا ذلك قربانًا لآلهتهم - على زعمهم- حتى قيل إنَّ المرأةَ منهم كانت إذا مَرضتْ تنذر لئن عوفيت لَتحملنَّ حطبًا لحريق إبراهيم، وهذا يدل على عُظْمِ الحقدِ المتأجج في صدورهم ضد إبراهيم عليه السلام.
ثم عمدوا إلى حفرة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأضرموا النار فيها فتأججت والتهبت، وعلا لها شرر عظيم لم يُر مثله، وكانوا لا يستطيعون لقوة لهبها أن يتقدموا منها، ثم لما كانوا لا يستطيعون أن يمسكوا إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بأيديهم ويرموه في هذه النار العظيمة لشدة وهجها، صَنعوا المنْجنيق ليرموه من مكان بعيد، فأخذوا يُقيدون إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو عليه الصلاة والسلام متوكل على الله حق توكله، فلما وضعوه عليه السلام في كفة هذا المنجنيق مقيدًا مكتوفًا وألقوه منه إلى وسط النار قال: "حَسْبُنا الله ونعم الوكيل" كما روى ذلك البخاري عن ابن عباس.
فلما ألقي إبراهيم لم تحرقه النار ولم تصبه بإذى ولا ثيابه، لأن النار لا تُحرِقُ بذاتها وطبعها وإنما اللهُ يَخلُقُ الإحراق فيها، قال الله:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}سورة الأنبياء.
فكانت هذه النار الهائلة العظيمة بَردًا وسلامًا على إبراهيم فلم تحرقه ولم تحرق ثيابه، وقيل: لم تحرق سوى وثاقَه الذي وثقوا وربطوا به إبراهيم عليه السلام. ويروى عن بعض السلف أن جبريل عليه السلام عَرَض له في الهواء فقال: يا إبراهيمُ ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
ولما خبا سَعِير هذه النار العظيمة وانقشع دخانها وجدوا إبراهيم سليمًا معافى لم يصبه أيُّ أذى فتعجبوا لأمره ونجاته، ومع أنهم رأوا هذه المعجزة الباهرة ظلوا على كُفرهم وعنادهم ولم يُؤمنوا بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام، لقد أرادوا أن ينتصروا لكفرهم فخُذِلوا، يقولُ الله تبارك وتعالى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}سورة الانبياء، وقال:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ*فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}سورة الصافات.
أسرته وبيت الله الحرام:
هناك عدد من الأحاديث فيها بيان مفيد وتفصيل لما أُجمل في القرآن الكريم عن علاقة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وأسرته بالمسجد الحرام، ومن هذه الأحاديث ما يلي:
1- روى البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول ما اتخذ النساء المِنْطَقَ (كل ما شددت به وسطك) من قِبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم - عليه السلام - بابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم - عليه السلام - منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم - عليه السلام - حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إبراهيم: 37-، حتى بلغ (يَشْكُرُونَ)، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فذلك سعي الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال: وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم، قال: ابن عباس قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي - عليه السلام - وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟، قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غيِّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم - عليه السلام - ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لهم يومئذ حَبْ ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي - عليه السلام - ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟، قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته إنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟، قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبِّت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل - عليه السلام - يأتي بالحجارة وإبراهيم - عليه السلام - يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة: 127-، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة: 127-[1]، وفي الحق هذا حديث جامع فيه من العبر ما يلي:
- أن السيدة هاجر كانت أول من اتخذت المنطق (حزام على البطن تنتطق به المرأة) لكي لا تثير غيرة سارة لما حملت بإسماعيل.
- أنها رضيت أن تُنقل إلى بلدة أخرى؛ لما اشتدت غيرة سارة نزولاً على أمر ربها، وراحةً لزوجها ونفسها.
- لما تساءلت كزوجة كيف يتركها في مكان لا إنس فيه ولا زرع ولا ضرع لم يجبها، فأعادت السؤال بطريقة أخرى: ((آلله امرك بهذا؟)) فلما قال: "نعم"، قابلت هذا الأمر الرباني باليقين الكامل: ((إذاً لن يضيعنا)).
- لما نفد التمر والماء خرجت تسعى بهمة بين الصفا والمروة ضاربة المثل الأعلى للأمة كلها من بعدها أن التوكل لا يعني ترك الأسباب بل الأخذ بأحسن الأسباب مع تفويض كامل لرب الأرباب.
- أن هذا التوكل (أخذ بالأسباب وتفويض لله تعالى) كمعْلم تربوي تُوَّج بالعناية الربانية في الرزق الوفير بتفجُّر ماء زمزم تحت رجل ولدها إسماعيل.
- لم يكن الماء غذاءً ضروريا لهاجر وابنها إسماعيل فقط إنما جلب الأُنس بالإنس حيث جاء الطير يشرب، فاهتدت قبيلة جُرهم وكانت تبحث عن الماء إلى موضع الماء فجاءوا يعيشون معهم، وترعرع إسماعيل - عليه السلام - مع هذه القبيلة حتى تزوج منهم.
- أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - كان يتعهد ويتفقد أسرته بين الحين والآخر.
- أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - كان يستشير ولده دائما، فعندما أمره ربه برفع القواعد من البيت لم يعرض الأمر كتكليف بل عرضه كحوار هل تعينني على هذا؟ قال: أعينك، ثم رفعا القواعد معا، فكان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويهتفان معا بالدعاء: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة: 127، فلما أتمَّا البناء طافا حول البيت يرددان هذا الدعاء.
- أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - في زياراته المتكررة وجد الشكوى من إحدى زوجات إسماعيل ولم تكن تعرف أنه أبوه فأمر إسماعيل بطلاقها، فلما زاره مرة أخرى ووجد الرضا والقناعة في زوجته الثانية، أمره بتثبيتها وإكرامها، وكانت النتيجة هي طاعة كاملة من الابن لأبيه، وهكذا تقوم العلاقة بين الأب وابنه تعهداً وتفقداً ورعايةً ونصحاً من الأب ومطاوعةً وبراً من الابن.
سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وتحريم مكة والدعاء لها البركة:
سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وتحريم مكة والدعاء لها البركة:
دعا سيدنا إبراهيم - عليه السلام - لتحريم مكة وزيادة بالبركة، لما رواه مسلم بسنده عن عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ))[2].
وروى مسلم أيضا بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا اللّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ، بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ))[3].
من رحمات الله - تعالى - على مكة المكرمة أم القرى ومهد رسالة الإسلام أن تهيأت لهذه الرسالة العظيمة بدعاء سيدنا إبراهيم - عليه السلام - ربه أن تكون بلداً حراما بما يعني أنها منطقة لا يجوز القتال فيها، ويأمن فيها كل من أوى إليها من إنسان أو حيوان أو طير بل حتى الشجر، ولم يكتف سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بذلك بل أضاف إليها نداءً ندياً بالسعة في الرزق وبركة في العطاء، فصارت أرض أمنٍ وبركة وسعة وثراء إلى يوم القيامة، رغم أنها لم تكن بلده الأصلي، حيث وُلد في العراق، لكنه جاء إليها، وأودع زوجته وولده بها، ورفع قواعد البيت، فظلَّت معالمه شاهدة إلى اليوم، وباقية إلى يوم القيامة بإذن الله.
قصور بناء الكعبة عن قواعد إبراهيم:
قصور بناء الكعبة عن قواعد إبراهيم:
روى مسلم بسنده عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: ((أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ، حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ، اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟)) قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ: «لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ))[4].
بنى سيدنا إبراهيم الكعبة، وكان فيها حِجر إسماعيل لكن أهل قريش لما أعادوا بناء الكعبة لم تكن لديهم كفاية من المال والمؤن فاقتصروا على جزء منها، ولما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة تمنى لو أعاد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم - عليه السلام - وأن يدخل حِجر إسماعيل فيها، لكنه راعى حداثة إسلام أهل مكة ومن حولها، بما يؤسس لفقه الأولويات وتأجيل بعض الواجبات لمراعاة ما هو أوجب منه، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يغيِّر ما فعله قومه، ولما بويع عبد الله بن الزبير في منطقة الحجاز أيام بني أمية هدم الكعبة، وبناها على قواعد إبراهيم - عليه السلام - وعلى ما كان يتمناه - صلى الله عليه وسلم -، فلما تغلب عليه الحجاج وقتله استشار الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، فقال: "دعونا من تلطيخ ابن الزبير، نعود بالكعبة إلى ما تركها عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -"، فلما تغلب بنو العباس على بنو أمية أراد جعفر المنصور أن يهدم ما فعله بنو أمية، وأن يعود بالكعبة لقواعد سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بإدخال الحِجر فيها؛ تحقيقا لرغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واستعادة لما فعله ابن الزبير، فألهمه الله استشارة إمام دار الهجرة مالك بن أنس، فقال قولته التاريخية: "أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس"[5]، ومنذ ذلك التاريخ عُصمت الكعبة - بفضل الله ومنته - ثم بهذه الكلمة التاريخية للإمام مالك من أن تغيرها الأهواء والخلافات السياسية.
مع تحيات فريق العمل و طاقم الإشراف و مراقبيه
بمنتدى
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه ,,