ركن نفحات رمضانية (من هدي القرآن والسنة )
سلسلة قصص الأنبياء
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا ،ونصب لنا الدلائل على صحته برهانا مبينا ، وأوضح السبيل الى معرفته وإعتقاده حقا يقينا .
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ولا ضد ولا ند له تعالى عن إفك المبطلين وخرص الكاذبين وأشهد انا محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته وأمينه على وحيه
فان اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
فكرة السلسلة
أحبابنا أعضاء وروّاد المنتدى الأعزاء،ستكون السلسلة بإذن الله يومية وسيكون لها أثر طيب في هذا السرح المبارك .نجتمع من خلالها يوميا لكي نتعض ونأخذ العبر من أخبار السالفين ولكي لا أطيل فمن قصصهم تقرير للايمان بالله وتوحيده .وعبرة للمؤمنين .
تحدث القرآن الكريم عن عيسى عليه السلام حديثاً واضحاً؛ عن مولده، وعن معجزاته، وعن دعوته، وعن الخصائص التي أكرمه الله تعالى بها، وعن جهاده من أجل إعلاء كلمة الحق، وصبره عن الأذى، وعن الشبهات الباطلة التي أثارها أعداؤه حوله، وعن بشارته بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعن تكريم الخالق له في الدنيا والآخرة، وقبل الدخول في تفاصيل قصة هذا الرسول المبارك نذكر ما جاء في فضله من أحاديث نبوية:
روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخاً من مسِّ الشيطان إياه إلا مريم وابنها)، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (آل عمران:36). ورويا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بابن مريم -والأنبياء أولاد عَلات- ليس بيني وبينه نبي). (أولاد عَلات: الذين أمهاتهم مختلفة، وأبوهم واحد. والمراد أن إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة). وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق، فقال له: أسرقت؟! قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني). أي: صدقت من حلف بالله، وكذبت نفسي فيما ظهر لي؛ لاحتمال أنه محق في ذلك. وهذا يدل على صفاء نفس عيسى عليه السلام، وعلى عمق إيمانه، وتعظيمه لخالقه.
وبداية الحديث عن قصة هذا الرسول الكريم بقصة مولده عليه السلام، تلك القصة العجيبة المعجزة، وتفصيلها فيما يأتي:
مولد عيسى عليه السلام
وردت قصة مولد عيسى عليه السلام في سورة مريم ، الآيات (16-34)، وذُكر طرف منها في سورة آل عمران، وذلك قوله سبحانه: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران:59). ومجمل أحداث مولده عليه السلام وفق التالي:
قصة مولد عيسى عليه السلام قصة عجيبة، ووجه العجب فيها هو ولادة أمه من غير زوج!
إن حادث ولادة عيسى ابن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، فالإنسانية لم تشهد خلق نفسها، وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحدث العجيب والمثير والمعجز؛ فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب، على غير السُّنَّة التي جرت منذ وُجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر؛ ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها الإنسان!
فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ليذكرهم بقدرته التامة وإرادته الكاملة، وأنها لا تحتبس داخل السنن التي تختارها. ولم يتكرر حدث عيسى عليه السلام؛ لأن الأصل هو أن تجري السُّنَّة التي وضعها الله وفق ما وضعها تعالى، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره بحسب اختياره سبحانه. وهذا الحادث يكفي ليبقى أمام أنظار البشرية مَعْلَماً بارزاً على قدرته سبحانه ومشيئته، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس، {ولنجعله آية للناس} (مريم:21).
ونظراً لغرابة الحدث وضخامته، فقد صعب على فِرَق من الناس أن تتصوره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى عليه السلام صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتتغافل عن الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية.
والقرآن الكريم في سورة مريم يقص كيف وقع هذا الحدث العجيب، ويبرز دلالته الحقيقية، وينفي عنه تلك الخرافات والأساطير.
فالمشهد الأول من القصة يصور فتاة عذراء، قديسة، وهبتها أمها، وهي في بطنها لخدمة المعبد، لا يَعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة، ولا يُعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح. ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها، التي تقتضي التواري من أهلها، والاحتجاب عن أنظارهم.
وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها، ولكنها تفاجأ برجل مكتمل سوي يقطع صفو خلوتها: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا} (مريم:17)، وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة، يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به، وتستنجد، وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله، والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} (مريم:18)، وها هو ذا الرجل التقيُّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، فيخاطبها بقوله: {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} (مريم:19)، وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل، وهذا الرجل السوي، الذي لم تثق بعدُ بأنه رسول ربها، فقد تكون حيلة هاتك، يستغل طيبتها، يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاماً، وهما في خلوة! بيد أنها تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة وثبات: كيف يكون هذا؟ فما تعرف هي بعدُ كيف يهب لها غلاماً؟ لكن ما خفف من روع الموقف ما قاله لها: {إنما أنا رسول ربك}، لكن كيف يكون هذا؟ وهي عذراء، لم يمسسها بشر، وما هي بغيٌّ، فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام!
بيد أن هذا الأمر الخارق، الذي لا تتصور مريم عليها السلام وقوعه، هين على الله، فأمام القدرة التي تقول للشيء {كن فيكون} (البقرة:117)، كل شيء هين، سواء جرت به السُّنَّة المعهودة، أو جرت بغيره. وجبريل قد أخبرها بأن هذا هين عليه سبحانه، وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وإرادته، ورحمة لبني إسرائيل أولاً، وللبشرية جميعاً، بإبراز هذا الحدث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.
تمضي القصة فتذكر معجزة كلام عيسى عليه السلام وهو في المهد، وما أنطقه الله به عند ولادته، يقول سبحانه: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} (30-33). هكذا يعلن عيسى عليه السلام عبوديته لله، فليس هو ابنه كما يدعي فريق الناس، وليس هو إلهاً كما يدعي فريق ثان، وليس هو ثالث ثلاثة كما يدعي فريق آخر، بل هو نبي مبارك، أوصاه الله بالصلاة والزكاة مدة حياته، وأوصاه بالبر بوالدته، والتواضع مع عشيرته، وله حياة محدودة الأمد، وهو يموت ويبعث كسائر الخلق، وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم مولده، ويوم موته، ويوم بعثه.
وينتهي ما يقوله عيسى عليه السلام، بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}، فلا يبقى بعد شهادة عيسى عليه السلام وشهادة قصته مجال للأوهام والأساطير، ولا للشك والأباطيل.
وقد ورد في سورة آل عمران ما يؤكد قصة مولد عيسى عليه السلام كما وردت في سورة مريم ، وذلك قوله سبحانه: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} (آل عمران:45-46)، لقد شاء الله أن يخرق قاعدة الإنجاب والتناسل في فرد من بني الإنسان، فينشئه نشأة قريبة، وشبيهة بالنشأة الأولى -الخلق من تراب-، وإن لم تكن مثلها تماماً، الخلق من أنثى فقط، تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء، فتنشأ فيه الحياة! وقد بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله {اسمه المسيح عيسى ابن مريم}، فتضمنت البشارة نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه، وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه، ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: {وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين}، كما تضمنت معجزة تصاحب مولده: {ويكلم الناس في المهد}، ولمحة عن مستقبله: {وكهلا}. ووصفته والموكب الذي ينتسب إليه أنه من {الصالحين}.
أرسل الله سبحانه رسوله عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل داعياً إلى الحق المبين، وهادياً إلى صراط مستقيم، غير أنه لم يجد منهم آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولما علم أن أكثرهم عن الحق معرضون، وعن الصراط صادون، خاطبهم بقوله: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران:52). ويحكي القرآن الكريم أن فئة قليلة كانت قد آمنت بما جاء به عيسى عليه السلام من الحق، فلم تتردد في قبول ما جاء به، ولم تتقاعس عن تلبية نداء دعوته، بل إجابته بقولها: {نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} (آل عمران:52)، وفي آية أخرى: {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (المائدة:111).
وقد سمى سبحانه أنصار عيسى بالحواريين؛ لأنهم أخلصوا لله تعالى نياتهم، وطهروا سرائرهم من النفاق والغش، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشيء الأبيض الخالص البياض، النقي من الشوائب. فهم لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم، قد لبوا نداء الحق، وتركوا الباطل ورائهم ظهريًّا، ولم يخشوا في ذلك لومة لائم، دافعهم إلى ذلك نصرة دين الله، والدفاع عن الحق الذي جاءهم به عيسى عليه السلام. يشهد لذلك قولهم: {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}، فهم أقروا بالإيمان بالله وحده،
ويحكي القرآن الكريم في شأن الحوارين أنهم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يُنْزِل عليهم مائدة من السماء، ودار بينهم وبين عيسىعليه السلام الحوار التالي: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} (المائدة:112)، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا: {هل يستطيع ربك}، قالت: ولكن (هل تستطيع ربَّك). وروي عنها أيضاً أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة، ولكن قالوا: (هل تستطيع ربَّك). وعن معاذ بن جبلرضي الله عنه، قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع ربَّك)، قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً يقرأ بالتاء: (هل تستطيع ربَّك).
تحدث القرآن الكريم في العديد من آياته عن عيسى عليه السلام من حيث إنه نبي من أنبياء الله، الذين أرسلهم لدعوة بني إسرائيل إلى إخلاص العبادة لخالقهم، وإلى التحلي بمكارم الأخلاق، ومن حيث إنه عبد من عباد الله المصطَفين الأخيار، قال سبحانه مقرراً هذه العقيدة: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} (الزخرف:59).
وقد جاء في تقرير هذه العقيدة قوله عز وجل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران:59)، فالآية تقول لمن ادعى ألوهية عيسى عليه السلام لأنه وُلِدَ من غير أب: إنه إذا كان وجود عيسى من غير أب يسوغ لكم أن تجعلوه إلهاً، أو ابن إله، فأولى بكم وأحرى وألزم أن تجعلوا آدم إلهاً؛ لأنه خُلق من غير أب ولا أم، وما دام لم يدع أحد من الناس ألوهية آدم لهذا السبب، فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى عليه السلام؛ لانهيار الأساس الذي قام عليه، وهو خلقه من غير أب.
وقد ورد في سورة المائدة العديد من الآيات التي دحضت الأقوال الباطلة التي افتراها بعض أهل الكتاب على عيسى وأمه عليهما السلام، وقد برهنت تلك الآيات على أن عيسى وأمه ما هما إلا عبدان من عباد الله، يدينان له بالعبادة، ويأمران غيرهما بأن ينهج نهجهما، يقول سبحانه في تقرير هذه الحقيقة: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} (المائدة:75)، ويقول سبحانه أيضاً: {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} (المائدة:72)، فهاتان الآيتان تفيدان أن عيسى عليه السلام وأمه عبدان من عباد الله، اصطفاهما سبحانه من بين عباده.
وفي أواخر سورة المائدة يقص علينا القرآن الكريم ما سيقوله سبحانه لعيسى عليه السلام يوم القيامة، وما يجيب به عيسى؛ ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وتزداد حسرة الذين وصفوا عيسى وأمه بما هما بريئان منه، يقول تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب *ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة:116-118)، فعيسى عليه السلام يبين حقيقة أمره، وهي أنه لم يأمر قومه إلا بعبادة الله وحده لا شريك له، فهو ربه ورب الناس أجمعين، وهو الذي خلقه وخلق الخلق كلهم، وأنه يدين لله وحده بالعبادة والطاعة، ويأمر قومه بمثل الذي يدين به ويعتقده ويدعو إليه.
وقد وصف القرآن الكريم عيسى عليه السلام بأربع صفات، وذلك قوله تعالى: {وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} (آل عمران:46)، فقد جعل سبحانه رسوله عيسى عليه السلام ذا وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا، بما أوحاه إليه من الشريعة، وبما أنزله عليه من الكتاب، وغير ذلك مما امتن به عليه، وجعله يوم القيامة شفيعاً عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه. وجعله سبحانه داعياً إلى عبادة الله وحده لا شريك له، في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه بذلك، وجعله -فوق ذلك- ذا علم صحيح، وعمل صالح.
وأخبر سبحانه أنه علَّم عيسى عليه السلام {الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران:48)، وأنه رسول من عند الله، أرسله إلى بني إسرائيل، وأيده بالمعجزات الباهرات؛ لتكون دليل صدق على ما جاءهم به من الحق، كما قال سبحانه: {ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:49)، وما جاء به عيسى لم يكن بدعاً من الرسل، بل جاء مصدقاً لما سبق من الكتب والرسل؛ طالباً من قومه القبول بما جاءهم به من الحق، والخضوع لما يأمرهم به من طاعة وعبادة، ومن حلال وحرام، يقول تعالى: {ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون} (آل عمران:50)، وأكد سبحانه -بعد ما قرره من حقائق وعقائد- الربوبية لرب الأرباب، وأن من اعتقد بهذا فقد هدي إلى صراط مستقيم، يقول سبحانه: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (آل عمران:50).
وبعد أن أخبر سبحانه في سورة مريم عن قصة ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، بين سبحانه أن الغرض الرئيس من ذكر قصة مولدعيسى بيان حقيقة عيسى عليه السلام، وما يجب الاعتقاد بشأنه، فقال سبحانه: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (مريم:34-36)، تلك إذن حقيقة عيسى عليه السلام، لا ما يقوله المؤلهون له، أو المتهمون لأمه في مولده، تلك هي حقيقته وواقع نشأته، فهو يقول قول الحق الذي يمتري فيه الممترون، ويشك فيه الشاكون، يقولها لسانه، ويقولها حاله: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} تعالى وتنزه، فليس من شأنه اتخاذ الولد، بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي {لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد * ولم يكن له كفوا أحد} (الإخلاص:3-5).
وقد أخبر سبحانه عباده بما امتن به على رسوله عيسى عليه السلام من النعم، وما أيده به من المعجزات؛ لتكون شاهد صدق على رسالته، وناطق حق بما جاء به، فقال عز من قائل: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين * وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (المائدة:110-111). فقد عدد سبحانه سبع نعم أسبغها على عيسى عليه السلام.
كما طلب سبحانه من نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن لا يجادل من جادله في شأن عيسى -بعد الذي أنزله إليه وقصه عليه من أمره- لأنه معاند لا يقنعه الدليل مهما كان واضحاً، بل يقول له، ولأمثاله من الضالين المعاندين: {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} (آل عمران:61).
ثم بين سبحانه أن ما قصه من شأن عيسى عليه السلام -مولداً ودعوة ومعجزات- هو الحق الذي لا مرية فيه، قال تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} (آل عمران:62)، فهذا هو الحق في شأن عيسى عليه السلام، أنه عبد الله ورسوله، وكل من جادل في هذه الحقيقة، فهو معاند في أمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وبالتالي فلا ينبغي الخوض معه، ولا الالتفات إليه.
وبذلك يكون القرآن الكريم قد بين الحق في شأن عيسى عليه السلام بياناً شافياً، يهدي القلوب، ويقنع العقول، ويحمل النفوس على الاعتبار، وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد.
حديث القرآن الكريم عن رفع الله لعبده ورسوله عيسى عليه السلام ورد في آيتين كريمتين، الأولى: قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} (آل عمران:55)، وللعلماء قولان في المراد من قوله سبحانه: {متوفيك ورافعك}:
الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد: قابضك من الأرض، ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك، لتستوفي حظك من الحياة هناك.
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن المراد بـ {متوفيك ورافعك} أي: مميتك، ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتي، ومقر ملائكتي، كما ترفع أراوح الأنبياء.
والآية الكريمة تخبر عن جانب من فضائل عيسى عليه السلام، وتبين للناس جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين يوم القيامة؛ ليثوبوا إلى رشدهم، ويسلكوا الطريق الذي يوصلهم إلى ربهم.
والآية الثانية التي أكدت حقيقة رفع عيسى عليه السلام، قوله عز وجل: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} (النساء:156-157)، وهذه الآية تحدثت عن جانب من الرذائل التي وصف الله تعالى بها الظالمين من بني إسرائيل، ومن بينها كذبهم على مريم أم عيسى عليها السلام، وزعمهم قتلهم عيسى عليه السلام، وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله فعلاً، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة، فدسوا عليه عند الرومان، ووصفوه بالدجل والشعوذة، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه، وأسلموه فعلاً لهم، ولكن الله خيب سعيهم، وأبطل مكرهم، وحال بينهم وبين ما يشتهون، حيث نجى عيسى من شرورهم، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم.
وقد نقل الآلوسي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام، دخل خوخة -مدخل بين دارين لم ينصب عليه باب- وفيها كوة، فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء، فقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة، فألقى الله تعالى عليه شَبَه عيسى عليه السلام، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى.
جاء في قصة عيسى عليه السلام في القرآن الكريم عددٌ من الآيات التي تستدعي بعض الوقفات للتوضيح والتعليق، نسوق تلك الآيات على النحو التالي:
أولاً: قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران:59).
لسائل أن يسأل هنا: كيف شُبِّه عيسى عليه السلام بآدم عليه السلام، وقد وُجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟.
أجاب الزمخشري على هذا السؤال، فقال: هو مثيله في إحدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به في أنه وُجد وجوداً خارجاً عن العادة والمألوف، وهما في ذلك نظيران؛ ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته، إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وهذا يسمى بقياس الأولى، وهو من أقوى درجات القياس. قال ابن عاشور: "ومحل التمثيل كون كليهما خُلق من دون أب، ويزيد آدمُ بكونه من دون أم أيضاً، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله: {خلقه من تراب}، أي: خلقه دون أب ولا أم، بل بكلمة {كن}، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب".
ثانياً: قوله سبحانه: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة:118).
قال ابن كثير معقباً على هذه الآية: "هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء:23). ويتضمن التبري من النصارى، الذين كذبوا على الله وعلى رسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} (الإسراء:43)، وهذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها. وقد روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قام صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها، ويسجد بها: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها؟ قال: (إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً).
وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية؛ فقيل: قال عيسى هذا القول على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يستعطف السيد لعبده؛ ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك.
وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله سبحانه، والاستجارة من عذابه، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر.
وقيل: الضمير في قوله: {إن تعذبهم} يعود على من مات منهم على الكفر. والضمير في قوله: {وإن تغفر لهم} لمن تاب منهم قبل الموت. قال القرطبي: وهذا حسن.
وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به، إلا أنهم على عمود دينه، فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي.
قال القرطبي: "وأما قول من قال: إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يُغفر له، فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ".
وقد قال تعالى: {فإنك أنت العزيز الحكيم} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه، وذلك مستحيل؛ فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك، فتغفر لهم، {فإنك أنت العزيز} الذي لا يمتنع عليك ما تريده، {الحكيم} فيما تفعله؛ تضل من تشاء، وتهدي من تشاء.
قال بعض أهل العلم: قد طعن على القرآن من قال إن قوله سبحانه: {فإنك أنت العزيز الحكيم} ليس بمشاكل لقوله: {وإن تغفر لهم}؛ لأن الذي يشاكل (المغفرة): (فإنك أنت الغفور الرحيم)، والجواب: أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله، ومتى نُقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإن (الغفور الرحيم) ينفرد بالشرط الثاني {وإن تغفر لهم}، فلا يكون له بالشرط الأول تعلق {إن تعذبهم}، وهو على ما أنزله الله عز وجل، واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما؛ إذ تلخيصه {إن تعذبهم} فإنك أنت عزيز حكيم، {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكان {العزيز الحكيم} أليق بهذا المكان لعمومه؛ فإنه يجمع الشرطين {إن تعذبهم} {وإن تغفر لهم}، ولم يصلح (الغفور الرحيم)؛ إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله {العزيز الحكيم}، وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض.
ثالثاً: لسائل أن يسأل : إنه تعالى قال في آية المائدة: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} (المائدة:110)، ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه بشيء منها تعلق؟.
أجاب الرازي عن هذا، فقال: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمين والتبع للأم. ولذلك قال تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} {المؤمنون:50)، فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.
رابعاً: قوله تعالى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} (المائدة:112).
يتعلق بهذه الآية مسألتان: أولهما: حول سؤال الحواريين. وثانيهما: حول نزول المائدة.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى: اختلف أهل التفسير في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم، ومنشأ اختلافهم قوله سبحانه: {هل يستطيع ربك}، فإن هذا القول يشعر بشكهم في قدرة الله سبحانه على إنزال المائدة.
فذهب فريق من المفسرين في مقدمتهم الزمخشري إلى عدم إيمانهم، واعتبر هذا الفريق أن قول الحواريين السابق على هذه الآية {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (المائدة:111) إنما كان دعوى منهم من غير إيقان وإذعان، وإلا فلو كانوا صادقين في دعواهم، لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام: {هل يستطيع ربك}، قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: كيف قالوا: {هل يستطيع ربك} بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله: {إذ قالوا} فآذن أن دعواهم كانت باطلة، وأنهم كانوا شاكين. وقولهم: {هل يستطيع ربك} كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم {اتقوا الله} (المائدة:112)، معناه: اتقوا الله، ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها {إن كنتم مؤمنين} (المائدة:112)، إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة".
وذهب جمهور المفسرين إلى أن الحواريين عندما قالوا لعيسى عليه السلام: {هل يستطيع ربك}، كانوا مؤمنين؛ إذ إن قولهم هذا لا يسحب عنهم صفة الإيمان؛ لأنهم ما قالوا هذا من باب الشك في قدرة الله، وإنما من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظري، بدليل قولهم بعدُ: {وتطمئن قلوبنا} (المائدة:113)، كقول إبراهيم عليه السلام: {ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة:260). وأيضاً فإن سؤالهم إنما كان عن الفعل لا عن القدرة عليه، قال الحسن: إن معنى {هل يستطيع}، أي: هل يفعل، كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم معي مبالغة في التقاضي. قال الآلوسي: والتعبير عن الفعل بـ (الاستطاعة) من التعبير عن المسبب بالسبب؛ إذ هي من أسباب الإيجاد. وقالوا أيضاً: إن (الاستطاعة) في الآية بمعنى (الإطاعة)، قال السدي: {هل يستطيع ربك} أي: هل يطيعك ربك إن سألته. قال الرازي: وهذا تفريع على أن (استطاع) بمعنى (أطاع)، والسين زائدة.
أما ما يتعلق بالمسألة الثانية في هذه الآية، فهو نزول المائدة؛ فالجمهور على أنها نزلت، وقد رجح ذلك الطبري، فقال ما حاصله: والصواب من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه؛ فإنه تعالى ذكره لا يخلف وعده، ولا يقع في خبره الخُلْف، وقد قال تعالى ذكره مخبراً في كتابه عن إجابة نبيه عيسى عليه السلام حين سأله ما سأله من ذلك: {إني منزلها عليكم} (المائدة:115)، وغير جائز أن يقول تعالى: {إني منزلها عليكم}، ثم لا ينزلها؛ لأن ذلك منه تعالى خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر، ولو جاز أن يقول: {إني منزلها عليكم}، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} (المائدة:115)، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك.
قال ابن كثير معقباً على قول الطبري رحمه الله: "وهذا القول هو -والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم".
هذا، والذي يراجع بعض كتب التفسير يقرأ عجباً عن كيفية نزول المائدة، ومكان نزولها، وعن كيفية استقبالها، وكشف غطائها، وما كان عليها من أصناف الطعام، والأكل منها، والباقي عليها بعد الأكل، ونحو ذلك من الكلام الذي لا خير في ذكره والوقوف عليه؛ لضعف سنده، وعدم تعلق فائدة ترجى من ورائه. وقد ذكر ابن كثير أثراً طويلاً في هذا الصدد، ثم قال معقباً عليه: هذا أثر غريب جداً، قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له؛ ليكون سياقه أتم وأكمل.
والمهم في هذا المقام ما قاله الطبري رحمه الله: "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول؛ وجائز أن يكون كان سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون كان ثمراً من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل".
ويشار هنا إلى قول مقابل لرأي الجمهور، وهو قول الحسن ومجاهد أن المائدة لم تنزل، وقد روى الطبري عنهما ما يفيد عدم نزولها، لكن المعول عليه قول الجمهور المتقدم؛ لأن ظاهر الآيات تؤيده، وكذلك الآثار الصحيحة التي وردت في ذلك.
خامساً: قوله سبحانه: {إني متوفيك ورافعك إلي} (آل عمران:55).
ذكرنا ضمن الحديث عن قصة عيسى أن الصواب من القول في قوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي}: قابضك من الأرض، ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك معاً. قال القرطبي: "الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس". وذهب فريق من أهل العلم إلى أن معنى {متوفيك ورافعك}، أي: مميتك، ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتي. فـ (الرفع) بحسب هذا القول رفع معنوي فحسب.
بيد أن بعض المفسرين ذكر أقوالاً أخرى للعلماء في معنى قوله سبحانه: {متوفيك ورافعك إلي}، فقد ذكر الآلوسي ثمانية أوجه للمراد من قوله تعالى: {متوفيك ورافعك إلي}، كالقول: إن الله سبحانه توفى عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إلى السماء. والقول: إن المراد بـ (التوفي) النوم، على حد قوله سبحانه: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} (الأنعام:60). والقول: إن المراد بـ (الوفاة) موت القوى الشهوانية. وغير ذلك من الأقوال. ثم عقب الآلوسي على ذلك بقوله: "ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عن بُعْد". وقال أيضاً: "وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات، ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل، وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم".
والصواب أن الخوض في المراد من (التوفي) في الآية على غير المعنى الذي ذكره الجمهور، لا طائل من ورائه، ولا ينبغي إطالة الوقوف عنده؛ لضعف مستنده.
سادساً: قوله تعالى: {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه} (آل عمران:63).
قد يرد سؤال يتعلق بهذه الآية حاصله: لماذا قال لهم عيسى عليه السلام: {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه}، وهلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه؟ أجاب الزمخشري عن ذلك فقال: "كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، وإنما بُعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم". وأجاب الرازي عن هذا فقال: "إن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها، فلا يجب على الرسول بيانها". وقال الآلوسي: "وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف، دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها، ككيفية نضد الأفلاك، وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلاً، فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك. ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا، ككيفية الزراعة، وما يصلح الزرع وما يفسده مثلاً، فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضاً، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، رواه مسلم".