افتتح الله تعالى السورةَ ب ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، وقد اختَلَف المفسِّرون في المرادِ بهذا الحرف وأشباهِه في أوائل سور القرآن على أقوال كثيرة؛ مِن أهمها: "أنها مما استأثَر الله تعالى بعلمه"، وأن "الحروف المقطَّعة التي ذُكِرت في أوائل السور التي ذُكِرت فيها: بيانٌ لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضتِه بمثله، مع أنه مُركَّب من هذه الحروف التي يتخاطَبون بها"[1].
وأقسَم الله تعالى بالقرآن المجيد؛ لِما فيه من خيرِ الدنيا والآخرة؛ ليُبيِّن صدقَ نُبوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويردَّ على عَجَب المُكذِّبين بالرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة.
كما مهَّدتِ الآياتُ للردِّ على تلك المقارنة الباطلة التي ذهبوا إليها: ﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [ق: 3]، كما بيَّن تكذيبَهم بالحق، وعَمَاهم عن النور الذي أُنزل إليهم؛ حيث فنَّد مزاعمهم، وأبطل دعاويَهم، ووصف حالهم بالأمر المريج؛ أي: المختلط الذي لا يقف عند أمر معلوم، أو حجة بالغة دامغة، وأنَّى لهم الردُّ أو دحض حرف واحد من الآيات البيِّنات؟!
ولقد استرسَلتِ الآياتُ للردِّ على هؤلاء الجاحدين والمفتَرِين، وسرَدت مجموعةً مِن الظواهر الطبيعية والآيات الكونية الدالَّة على عظمة الله سبحانه وتعالى، الذي خضع لأمره وصمديَّتِه كلُّ صغير وكبير من الذرَّة إلى المجرَّة؛ حيث جاءتِ الآياتُ الباهرات تحضُّ على التفكير والتدبُّر في خلق الله تعالى المُعجِز، والتأمُّل في عظمة خلقه وجليل صنعه؛ فتارةً ترشدُ الحيارى إلى النظرِ في خلق السماء كيف بُنِيَت، وما لها من فروجٍ ولا شقوق، ولا يعتريها أدنى نقيصة، قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ [ق: 6]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك: 3].
كما أشارَتْ إلى الآيات الممدودة مدَّ البصر، والمبثوثة على الأرض، قال سبحانه: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ق: 7]؛ لتُحدِّد السورةُ أن هذه المظاهر الكونية والطبيعية إنما هي: ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 8].
وردًّا على زعم أُبَيِّ بن خلفٍ، حين أخذ عظمًا باليًا فجعل يفتته بيدِه، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد، أترى الله يُحْيِي هذا بعدما تفتَّت؟!
وردًّا على غيره من منكري البعث، فقد ضرب الله تعالى مثلًا على حتمية البعث والنشور، لِمَن عاجله الموتُ وسكن القبورَ - بآيةِ الماء، الذي جاء في وصفِها: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، وقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9]، فأنبت الله تعالى به جناتٍ وحَبَّ الحَصِيد؛ رِزقًا للعباد، فكان مِن رحمته أن أحيا بالماءِ البلادَ والعبادَ؛ لتنجليَ الآيةُ عن معنًى خفيٍّ؛ ردًّا على منكري البعث والنشور، بأن النفخَ في الأجساد، والخروج من الأجداث والقبور، مثيلُه إخراجُ الحياة من الأرض الميتة بسبب الماء.
ثم ضرب الله مثلًا آخر: بعدما استند المكذِّبون بالرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة، إلى القوة الظاهرة لهم في الدنيا؛ مِن جاهٍ ومال وولد وقوة وسطوة، مُبيِّنًا ضلالَ الأقوام السابقة؛ كقوم نوحٍ، وأصحاب الرسِّ، وثمود، وعادٍ، وفرعونَ، وإخوان لوطٍ، وأصحاب الأيكةِ، وقوم تُبَّع؛ حيث كانوا أشدَّ قوةً وأكثر جمعًا، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسِبون، بعد أن كانوا يكذبون، قال سبحانه عن عذابهم في الدنيا:﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، وعن عذابِ الآخرة يومَ يقومُ الأشهادُ لربِّ العالمين: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].
لتعيدَ السورةُ التأكيدَ على البعث تارةً أخرى، وذلك بقياسِ الأَولى: فالذي خلق الحياةَ مِن عدمٍ قادرٌ على أن يُعيد الرُّوح بعد الموت للعظام النَّخِرة، قال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27]، وقال: ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق: 15].
ثم أوضحتِ الآياتُ بيانَ علمِ الله تعالى الذي أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا، وعلمه بخلق الإنسان وما تُوَسْوِسُ به نفسه، قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، كما أوضح أن كلَّ صغيرة وكبيرة إنما هي محسوبةٌ ومكتوبة على الإنسان: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وأردفتِ السورةُ تلك الحقيقةَ التي يغفُلُ عنها الناسُ، أو يتغافلون عن وقوعها وحتميَّتِها، بالقول: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19]، ثم صوَّرتِ الآياتُ الموالية (19- 30) مشاهدَ يومِ القيامة، بَدْءًا مِن النفخ في الصُّور إلى الحشر والعرض والحساب، والعقاب للذين استكبَروا في الأرض وعصَوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذَّبوا بالرسالة، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴾ [ق: 30]، وقال: ﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾ [الملك: 8، 9].
وفي مقابل ذلك بيَّنتِ السورةُ جزاءَ أهلِ النعيم المقيم: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق: 33، 34]، وقال: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ﴾ [الواقعة: 25 - 34].
ثم أعادتِ السورةُ مثالَ الأقوام المُكذِّبين مِن أهل القرى، وحال أثرِهم بعد عينٍ، داعيةً إلى التفكر والاتِّعاظ بهم، ودراسةِ معالِمِهم الحضارية وأسباب زوالهم: ﴿ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [ق: 36].
وأعقبتِ الآيات الكونية؛ كخلق السماء والأرض، خلقًا تامًّا بديعًا ومُعجِزًا ﴿ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، ردًّا على زعم اليهود الذين قالوا: إن الله استراح يوم السبت بعد أن خلق السماوات والأرض، وردًّا ضمنيًّا على المُكذِّبين بيوم البعث، بأن الذي خلقَ الخلائقَ ولم يمسسه لغوبٌ ولا تعبٌ، قادرٌ على خلق أضعافِها وإماتتها وإعادة بعثها من جديد، قال تعالى: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]، وقال سبحانه: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [لقمان: 28].
ثم ختمتِ السورةُ بدعوةِ النبي صلى الله عليه وسلم آمرةً إياه بالصبر: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، آمرةً إياه بالتسبيح والتحميد آناء الليل وأطراف النهار.
كما أقفلت السورة بآيةٍ لها من المعاني الجليلة والأسرار الكامنة والخفية؛ جوابًا على آيِ المَطلَع، بعد أن ساقت الظواهر الكونية والطبيعية - للمثال والتقريب - دلالةً على قوله: ﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11]؛ وذلك بترقب الصيحة - صيحة الصعق وصيحة البعث - كعلامةٍ على يوم الخروج الحق؛ ففي مطلع السورةِ كذَّب الكافرون بيوم البعث والخروج من القبور، فضرب الله لهم الأمثال بالآيات الكونية والمظاهر الطبيعية مشبهة إياها ﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11]؛ فها هي السورة في ختامها - الذي يشبه نهايةَ حياةِ الفرد وحياة العالَم - تُؤكِّد على حقيقة عظمى (بعد إرسال الرسل، وإقامة الحجة، وضرب الأمثال)، ﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11].
إنها الحقيقة المطلقة التي من أجلها بُعِثَت الرسل، وأُنزِلت الشرائع؛ فكانوا بها يُكذِّبون: ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴾ [المرسلات: 29 - 33]، ومحددة أمر الرسول في التبليغ والبيان وإقامة الحجة والتذكير والإخبار، لمن يسمع هذا القرآن فيُؤمِن به، وتفيض عينه من الدمع، وينفطر قلبه خاشعًا لله: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
[1] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛
العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي،
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مطبوعات المجمع الإسلامي،
جُدَّة، المجلد 3، سورة هود، ص 3 و7.
وأقسَم الله تعالى بالقرآن المجيد؛ لِما فيه من خيرِ الدنيا والآخرة؛ ليُبيِّن صدقَ نُبوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويردَّ على عَجَب المُكذِّبين بالرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة.
كما مهَّدتِ الآياتُ للردِّ على تلك المقارنة الباطلة التي ذهبوا إليها: ﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [ق: 3]، كما بيَّن تكذيبَهم بالحق، وعَمَاهم عن النور الذي أُنزل إليهم؛ حيث فنَّد مزاعمهم، وأبطل دعاويَهم، ووصف حالهم بالأمر المريج؛ أي: المختلط الذي لا يقف عند أمر معلوم، أو حجة بالغة دامغة، وأنَّى لهم الردُّ أو دحض حرف واحد من الآيات البيِّنات؟!
ولقد استرسَلتِ الآياتُ للردِّ على هؤلاء الجاحدين والمفتَرِين، وسرَدت مجموعةً مِن الظواهر الطبيعية والآيات الكونية الدالَّة على عظمة الله سبحانه وتعالى، الذي خضع لأمره وصمديَّتِه كلُّ صغير وكبير من الذرَّة إلى المجرَّة؛ حيث جاءتِ الآياتُ الباهرات تحضُّ على التفكير والتدبُّر في خلق الله تعالى المُعجِز، والتأمُّل في عظمة خلقه وجليل صنعه؛ فتارةً ترشدُ الحيارى إلى النظرِ في خلق السماء كيف بُنِيَت، وما لها من فروجٍ ولا شقوق، ولا يعتريها أدنى نقيصة، قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ [ق: 6]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك: 3].
كما أشارَتْ إلى الآيات الممدودة مدَّ البصر، والمبثوثة على الأرض، قال سبحانه: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ق: 7]؛ لتُحدِّد السورةُ أن هذه المظاهر الكونية والطبيعية إنما هي: ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 8].
وردًّا على زعم أُبَيِّ بن خلفٍ، حين أخذ عظمًا باليًا فجعل يفتته بيدِه، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد، أترى الله يُحْيِي هذا بعدما تفتَّت؟!
وردًّا على غيره من منكري البعث، فقد ضرب الله تعالى مثلًا على حتمية البعث والنشور، لِمَن عاجله الموتُ وسكن القبورَ - بآيةِ الماء، الذي جاء في وصفِها: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، وقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9]، فأنبت الله تعالى به جناتٍ وحَبَّ الحَصِيد؛ رِزقًا للعباد، فكان مِن رحمته أن أحيا بالماءِ البلادَ والعبادَ؛ لتنجليَ الآيةُ عن معنًى خفيٍّ؛ ردًّا على منكري البعث والنشور، بأن النفخَ في الأجساد، والخروج من الأجداث والقبور، مثيلُه إخراجُ الحياة من الأرض الميتة بسبب الماء.
ثم ضرب الله مثلًا آخر: بعدما استند المكذِّبون بالرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة، إلى القوة الظاهرة لهم في الدنيا؛ مِن جاهٍ ومال وولد وقوة وسطوة، مُبيِّنًا ضلالَ الأقوام السابقة؛ كقوم نوحٍ، وأصحاب الرسِّ، وثمود، وعادٍ، وفرعونَ، وإخوان لوطٍ، وأصحاب الأيكةِ، وقوم تُبَّع؛ حيث كانوا أشدَّ قوةً وأكثر جمعًا، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسِبون، بعد أن كانوا يكذبون، قال سبحانه عن عذابهم في الدنيا:﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، وعن عذابِ الآخرة يومَ يقومُ الأشهادُ لربِّ العالمين: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].
لتعيدَ السورةُ التأكيدَ على البعث تارةً أخرى، وذلك بقياسِ الأَولى: فالذي خلق الحياةَ مِن عدمٍ قادرٌ على أن يُعيد الرُّوح بعد الموت للعظام النَّخِرة، قال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27]، وقال: ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق: 15].
ثم أوضحتِ الآياتُ بيانَ علمِ الله تعالى الذي أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا، وعلمه بخلق الإنسان وما تُوَسْوِسُ به نفسه، قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، كما أوضح أن كلَّ صغيرة وكبيرة إنما هي محسوبةٌ ومكتوبة على الإنسان: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وأردفتِ السورةُ تلك الحقيقةَ التي يغفُلُ عنها الناسُ، أو يتغافلون عن وقوعها وحتميَّتِها، بالقول: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19]، ثم صوَّرتِ الآياتُ الموالية (19- 30) مشاهدَ يومِ القيامة، بَدْءًا مِن النفخ في الصُّور إلى الحشر والعرض والحساب، والعقاب للذين استكبَروا في الأرض وعصَوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذَّبوا بالرسالة، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴾ [ق: 30]، وقال: ﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾ [الملك: 8، 9].
وفي مقابل ذلك بيَّنتِ السورةُ جزاءَ أهلِ النعيم المقيم: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق: 33، 34]، وقال: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ﴾ [الواقعة: 25 - 34].
ثم أعادتِ السورةُ مثالَ الأقوام المُكذِّبين مِن أهل القرى، وحال أثرِهم بعد عينٍ، داعيةً إلى التفكر والاتِّعاظ بهم، ودراسةِ معالِمِهم الحضارية وأسباب زوالهم: ﴿ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [ق: 36].
وأعقبتِ الآيات الكونية؛ كخلق السماء والأرض، خلقًا تامًّا بديعًا ومُعجِزًا ﴿ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، ردًّا على زعم اليهود الذين قالوا: إن الله استراح يوم السبت بعد أن خلق السماوات والأرض، وردًّا ضمنيًّا على المُكذِّبين بيوم البعث، بأن الذي خلقَ الخلائقَ ولم يمسسه لغوبٌ ولا تعبٌ، قادرٌ على خلق أضعافِها وإماتتها وإعادة بعثها من جديد، قال تعالى: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]، وقال سبحانه: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [لقمان: 28].
ثم ختمتِ السورةُ بدعوةِ النبي صلى الله عليه وسلم آمرةً إياه بالصبر: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، آمرةً إياه بالتسبيح والتحميد آناء الليل وأطراف النهار.
كما أقفلت السورة بآيةٍ لها من المعاني الجليلة والأسرار الكامنة والخفية؛ جوابًا على آيِ المَطلَع، بعد أن ساقت الظواهر الكونية والطبيعية - للمثال والتقريب - دلالةً على قوله: ﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11]؛ وذلك بترقب الصيحة - صيحة الصعق وصيحة البعث - كعلامةٍ على يوم الخروج الحق؛ ففي مطلع السورةِ كذَّب الكافرون بيوم البعث والخروج من القبور، فضرب الله لهم الأمثال بالآيات الكونية والمظاهر الطبيعية مشبهة إياها ﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11]؛ فها هي السورة في ختامها - الذي يشبه نهايةَ حياةِ الفرد وحياة العالَم - تُؤكِّد على حقيقة عظمى (بعد إرسال الرسل، وإقامة الحجة، وضرب الأمثال)، ﴿ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11].
إنها الحقيقة المطلقة التي من أجلها بُعِثَت الرسل، وأُنزِلت الشرائع؛ فكانوا بها يُكذِّبون: ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴾ [المرسلات: 29 - 33]، ومحددة أمر الرسول في التبليغ والبيان وإقامة الحجة والتذكير والإخبار، لمن يسمع هذا القرآن فيُؤمِن به، وتفيض عينه من الدمع، وينفطر قلبه خاشعًا لله: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
[1] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛
العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي،
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مطبوعات المجمع الإسلامي،
جُدَّة، المجلد 3، سورة هود، ص 3 و7.