©... الصلاة و السلام على أشرف المرسليـن ...©
... الحمد لله وحده نحمده و نشكره و نستعينه و نستغفره و نعود بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ...
... من يهده الله فلا مظل له و من يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا ...
... و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه و سلم ...
... و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
... ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الخبير ...
... ربنا لا فهم لنا إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم ...
... ربي اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ...
... أما بعد ...
لمحات وامضة مع خيرة الخلق: أولي العزم من الرسل الحلقة الخامسة
(للنفوس التي أرهقتها الحِدثان)
أخي القارئ، جاء في صحيح مسلم، كتاب فضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم: باب تتميم الأنبياء، وختمهم بالنبي: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين))؛ رواه مسلم.
وكثيرة هي الإشراقات من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو نبينا المرسل الذي لولاه ما بلغنا الوحي، وكل ما أوتينا من نعم الإيمان والإسلام، والعبادة لله وحده، والانسجام الفطري مع داخلنا ومع الكون من حولنا، فله صلى الله عليه وسلم فيه يد علينا وفضل، فلنتذكر ذلك.
وفي البداية أضع حقيقة هامَّة يُبقيها القارئ في ذهنه، أو يضع تحتها خطوطًا، وهي تحقق التوازن التام بين عظمة النبوة والرسالة وتشريف حاملها وسموّه بها، وبين بشرية الرسول بكل ما في الكلمة من معنى، ومنها بشريته في حياته الخاصة صلى الله عليه وسلم (تأثره الشديد لوفاة زوجته خديجة، وعمه، ولوفاة ولده، حادثة الإفك...)، ومنها عبوديته التامة الخالصة لله وحده؛ حقائق نتمثَّلها في ضمائرنا، وعقولنا، وقلوبنا، بعد أن نتبيَّنها جلية في شخصيته، وأقواله، وأعماله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فنحبه ونتبعه في صغير الأمور وكبيرها، ونحب ما يحبه ومن يحبه، وهذا الاعتدال والتوافق هو من معالم الوسطية لأمتنا (ويا ليتنا نتوازن في مشاعرنا وسلوكنا نحوه صلى الله عليه وسلم، بمثل هذا التوازن، فلا نُفرِط ولا نُفرِّط).
العزم في أداء الأمانة:
قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، وأولو العزم؛ أي: أرباب الثبات والحزم، فإنك منهم (فتح القدير)، وقال ابن عباس: ذوو الحزم والصبر، وهي صبغة تكاد تغطي كل تفصيلات حياته صلى الله عليه وسلم، مع ذرى حادة من الصعوبات التي قد توهن أقوى العزائم، نتوقف عند لمحات من بعضها:
الوحي: عزم في التلقي والتبليغ:
منذ التنزيل الأول للوحي في قوله تعالى للحبيب: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وحتى انقطاع الوحي، والرسول يتلقى بعزم واحتمال يفوق الوصف ذلك العبء العظيم، الذي لو نزل ﴿ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]، وهو يجهد في أداء الأمانة خالصة حتى أتاه اليقين، وقد تركنا صلى الله عليه وسلم "على المحجَّة البيضاء".
وفي تلك العجالة، نتواصى بأن نتذكر مع كل عبادة وسلوك إسلامي، وفي كل ركعة نصليها، وكل تسبيحة وتكبيرة، ما احتمله الحبيب من إيذاء وتكذيب في رحلة التلقي والتبليغ، وكيف حوَّل تلك السلبيات إلى إيجابيات بحزمه وثباته، من ذلك ما نقلته لنا كتب السيرة والسنة من تعذيب الكفار لأتباعه، والحصار في الشِّعب، والإيذاء الذي تعرض له من سفهاء الطائف، وصولاً إلى تآمر أهل الكتاب مع المشركين ضده، وانتهاء بتبليغه صلى الله عليه وسلم الثقلين (الجن والإنس)، وأمم الأرض في المشرق والمغرب، ومخاطبته للملوك والأباطرة، ونتعلم منه صلى الله عليه وسلم الصبر والثبات على الحق، والاستمرار في التناصح، والتوازن بين التوكل واتخاذ الأسباب، والعزة بالله وحده، واليقين بنصره، في رحلة الدعوة إلى الله، والمزيد مما صنف فيه علماء الأمة[1].
قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وكثيرة هي الآيات القرآنية التي نزلت تشدُّ من عزمه وتُسرِّي عنه صلى الله عليه وسلم، تُذكِّره إخوانه الرسل الذين سبقوه، وما لقوه من قومهم؛ قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34]، أو تطمئنه إلى إعجاز ما أوتيه بصيغ عدة، أكثرها مباشرة التحدي بالوحي، (البقرة 23)، وتبشره وإيانا من بعده بالنصر والتمكين، بالمقابل هنالك آيات نزلت، وتكاليف بُلِّغها الحبيب من ربِّه، تحمل النقيض بالمنظور البشري الضيق، ولو كان الأمر لبشر عادي لأخفاها، ولكن هذا وحي، وليس مؤسسات إعلام ترسم وتخطط، وتعلن وتخفي لمصلحة "الدعوة" ومستقبل "الدولة الفتية"، وفي الطبري "قيل: إن أولي العزم من الرسل كانوا الذين امتُحِنوا في ذات الله في الدنيا بِالمحَن، فلم تزدهم المحن إلا جدًّا في أمر الله"، ويدهشك هنا شدة العزم والإخلاص، والدقة العظيمة للمصطفى في تأدية أمانة التبليغ بالحرف والكلمة، ومن الأمثلة:
• النصوص التي تنوء بحملها وتضيق بنشرها طينتنا نحن البشر؛ مثل: سورة عبس وتولى، والنصوص التي يترتب عليها واجبات تؤلِّب عليه القوم، وبالمنظور البشري تُرجع الدعوة للوراء؛ مثل: إبطال التبني، وتزويجه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم مُطلَّقة متبنَّـاه (والتفاصيل في سورة الأحزاب)[2].
•• وبعض تكاليف الرسالة وكيفية تلقيها، والتي في نشرها إضرار بشخصه صلى الله عليه وسلم، والرسالة التي يحملها؛ مثل: الإسراء والمعراج، فقد قَوِيَ موقف المكذبين له بعد أن بلَّغها للأمة، وتمادوا في السخرية، ورميه بالجنون[3].
الهجرة عزيمة نحو الهدف:
كانت هجرة الرسول والصديق من مكة إلى المدينة رحلة محفوفة بالمخاطر المادية، والضغوط النفسية، ولعل أهم ما نتعلمه منها صدق النية، ووضوح الهدف، وكيف يشحذان الهمة والعزيمة:
هنا نجد نبينا صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه، وهما في حسِّهما وبالذات في حسِّ أبي بكر الصديق، ومن خلال النظرة البشرية القاصرة لأي مراقب محايد، في منقطع من السماء والأرض، في غمارٍ مظلم صغير لا يكاد يخفيهم، والمشركون على بعد خطوات منهم، حتى قال أبو بكر للرسول الكريم: "لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإيَّاك"، ونسمع الرسول القائد وهو يخفف عن صاحبه ويلاطفه: ((لا تحزن))، ويذكره بمعية الله تعالى التي كانت حاضرة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وهما في عتمة الغار، حتى وقد أحيط بهما، يقول عزَّ من قائل: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40]، كانت لحظة مصيرية، ليس في تاريخ الأمة وحسب، بل وفي تاريخ البشرية جمعاء، وسماه الله تعالى نصرًا، إنجاز الهجرة المباركة بكل مراحلها، قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 40].
الغزوات والفتوح.. الحديبية مثلاً:
إن الحرب هي آخر ما يودُّ الإنسان عمومًا الانخراط فيه؛ لما تحمله من آلام وجراحات وتشريد، والمسلمون ليسوا بِدْعًا في ذلك، وقد أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ألا نتمنى لقاء العدو، ونهانا القرآن الكريم أن نبدأ الخَصم بالاعتداء، ولكن عندما نضطر للقتال فنحن مأمورون بالثبات وحسن البلاء والصبر والمصابرة، وموعودون - بحمد الله وفضله - بإحدى الحسنيين، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا))؛ وصححه الألباني[4].
وكلُّ غزواته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم امتحان للعزيمة، وساحة للصعوبات والابتلاءات، بما فيها احتساب الأحبة من الشهداء، والهزيمة بعد النصر، وبروز الخونة وأهل النفاق، ولكن من أعجبها: محنة يوم الحديبية، يوم الفتح المبين، فقد أصاب المصطفى خلاله شدة نفسية عظيمة، ولقد سماه الله تعالى فتحًا رغم أنه صلى الله عليه وسلم لم يلقَ قتالاً، كما ورد في سورة الفتح وتفسيرها، بل عقد صلحًا كان فتحًا مبينًا – وليس أي فتح - قال تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1][5]، وسنتوقف عنده ببعض التفصيل:
إذ كان يوم صلح الحديبية يومًا عصيبًا، حتى تنزلت سكينة الرحمن خلاله وبعده على المؤمنين الذين شهدوه[6]، وروي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم المشهود عندما بركت ناقته القصواء قال: ((لا تدعوني قريش اليوم إلى خطَّة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إيَّاها))، ثم عندما رأى موفد قريش قادمًا، واسمه سهيل، قال للناس: ((سهل أمركم))، ومع ذلك فقد كان الصحابة يتميزون غيظًا، وقد جاؤوا معتمرين فمُنعوا، وبدت لهم شروط الصلح مع المشركين مُجحفةً، فغضبوا لله ولرسول الله، حتى أن عمرَ قال للصديق رضي الله عنهما: "يا أبا بكر، أليس رسول الله؟ قال: بلى، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا"؟! قال الصديق: "يا عمر، الزم غرزه (أي: الزم طريقه)، فإني أشهد أنه رسول الله"، قال عمر: "وأنا أشهد أنه رسول الله"، ولكن عمر رضي الله عنه لم يسكن فؤاده لهذا الرد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعاد عليه ما كان قاله لأبي بكر، (وفي بعض الروايات أن عمر ناقش الرسول أولاً، ثم أبا بكر)، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني))، ويا له من موقف عصيب! فأي شيء يمكن أن يُهدِّئ هذه النفوس التي تغلي؟! ونحن نعلم أن ردَّ فعل عمر رضي الله عنه جاء تعبيرًا عما كان "يغلي ويضطرب ويجيش في النفوس من مشاعر تصعَّدت مع خطوات الصلح"، كما وصفها صاحب الظلال، ثم إن الرسول المصطفى نفسه في ذلك اليوم صار في انزعاج رغم ثباته، وهو النبي الواثق بربه، وعمر يراجعه - كما قلنا - فيرد عليه: ((أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيِّعني"، وعلي رضي الله عنه يرفض أن يمحو من كتاب الصلح التسمية (بسم الله) وصفته بأنه رسول الله كما طلب مندوب الكفار، فيمحوها بنفسه، وهو يقول: ((اللهم إنك تعلم أني رسولك)) (عليك صلوات الله وسلامه يا نبي الله)، وأبو جندل يستغيثه، وقد جاء فارًّا بدينه، والرسول يردُّ عليه الرد الكريم الشفيق: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا))، فيستعيده الكفار بناء على أحد بنود الصلح الذي أُبرم لِتوِّه، والمسلمون يغلون غضبًا لمرأى أخ لهم في الله على هذه الحالة، والله يعلم كم كان ذلك يشقُّ على الرسول عليه صلوات الله وسلامه، ولكنه - وهو المشرع - يقدم القدوة والبرهان العملي لهم وللكفار وللعالمين: أن المسلم لا يغدر، ولا ينكث العهد[7].
كل هذه الأحداث كانت تتوالى عليه صلى الله عليه وسلم، وهو بشر، وأشد ما شقَّ عليه أن المسلمين لم يطيعوه بعد إتمام أمر الصلح حينما دعاهم للتحلل من إحرامهم، "كررها ثلاثًا فما قام منهم أحد"، "فدخل على زوجه أم سلمة، وشكا لها ما يجد من الناس"، فكيف كان ردها؟ لنتابع النص كما ورد في مصادر السيرة والتفسير: "قالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرج، ثم لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا[8]".
سبحان الله! كيف بثَّ رسول الأمة وقائدها همَّه وشكواه في أمر جلل كهذا لزوجته، وكيف كان لمشورة أم سلمة رضي الله عنها ذاك الأثر العظيم، ليس على رب أسرتها، قائد الأمة وحسب، بل وعلى الناس من حوله، وإن العمل بمشورة الزوجة الهادئة المطمئنة التي فاضت في جوانحها سكينة الرحمن لم يتناقض مع الرسالة والقيادة، وفي هذا مثال يُقتدى، ولكن مع التنبه واستقراء مشورتها برويَّة، فهي قدمتها مشفوعة بأمرين: بتسميته بأنه "نبي الله"، التي تُذهب عنه الضيق وتذكِّره بأن الله معه، وبمقامه وشرفه بين الخلق وأنه المصطفى، وبلفتة لطيفة تتواضع له فيها، وتترفق بعرض رأيها، فقالت: "يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟" فإن أحب مشورتها أخذ بها، وإلا ارتأى رأيه، فهي لا تستبدُّ برأيها ولا تُصرُّ عليه (ولو كانت واثقة من صوابه)، وإلا كيف تكون سكنًا؟! موقف نتعلم منه الكثير.
ورغم البشارات التي حفلت بها سورة الفتح لمن حضر الصلح من الصحابة، أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم وأرضاهم، إلا أن عمر يقول عن موقفه ذاك: "وما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيرًا"، رضي الله عنك أيها الفاروق.
وأختم البحث بحبه لنا، وحبنا له، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
كيف أحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد أحب رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم صحابته حبًّا مشهودًا، وخصَّ بعضهم بمكانة في نفسه؛ مثل: الصديق، وابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، وزوجته خديجة رضي الله عنها، والكثير الكثير من الصحابة الذين نجد في السيرة والصحاح لكل منهم ما يميزه[9]، وهذا ليس مستغربًا، ولكن العجيب أنه أحبنا نحن، أنا وأنت، بل وسمَّانا إخوانه، ووَدَّ لو أنه التقانا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي))، قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟! قَالَ: ((أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي))؛ (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 2888)، فأي تشريف أن المصطفى صلى الله عليه وسلم سمَّانا إخوانه، وتاق للقائنا؟! فماذا عنا؟ غفر الله لنا، وجعلنا أهلاً لذلك الودِّ، وتلك التسمية.
كيف نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
كلنا نعلم أننا لن نحبه صلى الله عليه وسلم حقًّا ما لم نُطِعه، وفي ذلك صلاح أمرنا، وبلوغنا رحمة خالقنا؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، بل إن اتباعنا له هو المقياس لصدق حبنا لله ربنا، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، ومع علمنا بذلك فنحن بين الإفراط والتفريط بهذا الشأن:
• فنحتفل بمولده، ونقيم مجالس الصلاة عليه، بينما أعمالنا تخالف هديه! ونحتفل برأس السنة الهجرية لنبدأ بذلك العام الهجري الجديد، وننسى أن الاحتفال يكون بأن نقتدي بخير المهاجرين صلى الله عليه وسلم، وبأن نبدأ عامنا ونتمَّه بهِجران المعاصي.
• ونغضب عندما يتحدانا الأعداء بالسخرية منه صلى الله عليه وسلم، وننسى أن السخرية سلوك غير مستنكر في عَلاقاتنا، وقد بلَّغنا الحبيب النهي عنها وحيًا وسنة، بل نحن نمارسها "جادين ولاعبين"، ويتربى أولادنا على تلك الممارسة ومعها، فنسخر ويسخرون بذات الأساليب والمضامين التي نهانا عنها الله ورسوله بالضبط[10]!
ولنسأل أنفسنا: إذا كنا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذا الحب أصدقائي، فلماذا نحن في آخر الركب، بينما كان هو ومن أحبوه بحق في المقدمة، وصاغوا أعظم أمة، وأسمى حضارة ارتقت بإنسانية الإنسان في أقصر وقت؟! ولماذا بيوت الله تعالى تُدكُّ والحرمات التي حرمها رسوله أن تُمس، تُنتهك - حقًّا وليس تمثيلاً - على مرأى ومسمع من المسلمين مدّعي حبه، فأيُّ حـب هـذا؟! حبه صلى الله عليه وسلم ليس كلمات وشعارات تصرخ بها حناجر، وتتغنى بها جوقات[11]، وتتبارى بها أقلام، وفي القرآن الكريم يكاد يكون العمل توءم الإيمان، ثم إن هذا ما نعيشه مع سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلا قيمة لأحدهما بغياب الآخر، ولا معنى لحبنا له وتَكرار الصلوات عليه ونحن نخالفه في داخلنا وظاهرنا، ونكاد نقتل حبنا العظيم هذا بمئات المخالفات اليومية لما دعانا إليه وأمرنا به حبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لأكثرنا، ترجمة الحب إلى عمل وواقع يعاش بكل مفرداته هي المعضلة، رغم علمنا أن اتباعه شرط ليس لحبه وحسب، بل لحب الله تعالى لنا فأيُّ حب هذا؟!
وما أكثرَ الاستثناءاتِ في تطبيقنا لشرعة الحبيب المصطفى! وكم نتفنن في ممارسة التبعيض الذي شدد القرآن الكريم النكير على من يسوغه، ويدعو إليه، فأيُّ حب هذا؟!
غفر الله لنا إخوتي، وألهمنا العزم والصواب
[1] وهنالك أمهات المصادر والأسفار المعروفة، وهنالك الكتب والكتيبات التي أنصح الشباب باقتنائها، والعيش معها، وعدم الاكتفاء بمعلبات النت، وقصاصات مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: "دراسة في السيرة" د. عماد الدين خليل، و"نور اليقين في سيرة سيد المرسلين" للشيخ محمد الخضري، تحقيق عدنان مولود المغربي، و"تهذيب سيرة ابن هشام" لعبدالسلام هارون رحمه الله، وكذلك "فقه السيرة" للغزالي، و"الرحيق المختوم" للمباركفوري.
[2] أشير إلى أن كل مثال هو عنوان لبحث هام، ولكن المقال كحلقة في الحديث عن أولي العزم من الرسل لا يسمح بأكثر مما ورد.
[3] ويمكن الاستزادة من الكتب أعلاه.
[4] والنص في صحيح الجامع الصغير، مج السادس - رقم7099.
[5] وجدير بالذكر أنها كانت من أحب السور إليه صلى الله عليه وسلم وقت تنزلها، إذ قال: ((لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]))، وفي لفظ آخر عن أنس: ((هي أحب إليَّ من الدنيا جميعًا))؛ صحيح الجامع الصغير/ رقم الحديث 4997/ مج الخامس.
[6] وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك: ((ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد))؛ نور اليقين في سيرة سيد المرسلين محمد الخضري، تحقيق عدنان مولود المغربي، مناهل العرفان بيروت - ط2 /1986 م-1406 هـ/، وتهذيب سيرة ابن هشام مرجع سابق، وتفسير ابن كثير لسورة الفتح.
[7] كتاب السكينة في الزمن الصعب للمؤلفة – مخطوط (ونشر بعضه في مجلة النور - بيت التمويل الكويتي).
[8] انظر سيرة ابن هشام، وهذا النص أورده ابن كثير في تفسير سورة الفتح، عن البخاري في صحيحه، وانظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني/ ط الثامنة - دار القرآن الكريم بيروت - مج3 ص 351.
[9] من ذلك حبه الشديد صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه، وثقته به، وسماه الحِب بن الحِب، وولاه - كما نعلم - (قبل وفاته) قيادة جيش كان فيه تحت إمرته كبار الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب - كما ثبت في الصحيحين -: "إن لكل نبي حواريًّا وحواريَّ الزبير"، والحواري: الناصر، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خصَّ حذيفة بن اليمان سرًّا بأسماء المنافقين؛ لذلك يكنى رضي الله عنه بحافظ سر الرسول.
[10] وانظر كتاب السخرية والاستهزاء بين حرية الرأي واحتقار الآخر- د. غنية النحلاوي.
[11] وبعض الناس يصبح لديهم رد فعل عكسي عندما يرى كثرة مدّعي الهُيام في حبه صلى الله عليه وسلم وممارساتهم، منذ شهر تقريبًا أُقيم مهرجان الغناء الصوفي في تونس، وأكثر من تحدث عنه وروَّج له محطة فرنسا 24 العلمانية.