في مَكْسِ أصحاب الحافلات
السؤال:
قام شخصٌ بإنشاءِ حظيرةٍ إجباريةٍ للحافلات على أرضٍ شاغرةٍ مِلْكٍ للدولة مِنْ غير ترخيصٍ، يؤدِّي فيها الحراسةَ وتنظيمَ دخولِ وخروجِ الحافلات بمُقابِلٍ ماليٍّ مفروضٍ، وحاوَلَتِ السلطاتُ غَلْقَ هذه الحظيرةِ لكِنْ دون جدوَى، واستمرَّ عملُها حتَّى أصبحَتْ ضروريةً؛ إذ تُحافِظُ على نظامِ سيرِ الحافلات تنظيمًا مُحْكَمًا، فنرجو ـ مِنْ شيخنا ـ أَنْ يبيِّن لنا حُكْمَ هذا الكسب؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ ما أُخِذَ مِنْ أصحاب الحافلات أو السيَّارات مِنَ الأموال بالكيفية المذكورةِ في السؤال يُعَدُّ مِنَ المكس والانتقاصِ مِنْ حقوق الناس والظلمِ لهم، وهو مِنَ البخس الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٨٥﴾ [هود: ٨٥؛ الشُّعَراء: ١٨٢]، سواءٌ كان الظلمُ بالمكس فرديًّا أو جماعيًّا أو عن طريقِ هيئاتٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ، وإِنْ غَلَبَ استعمالُ المكس فيما يأخذه أعوانُ السلطان ظلمًا عند البيع والشراء أو عند إدخال المَبيعات المُدُنَ(١)، ويتأوَّلون فيه معنى الزكاةِ أو الصدقات؛ فقَدْ كان هذا مِنْ سُنَّةِ أهلِ الجاهلية والعجم الذين كانوا يفرضون على التُّجَّارِ عُشْرَ أموالهم ضريبةً يَجْبُونها منهم إذا مَرُّوا عليهم، قال أبو عُبَيْدٍ ـ رحمه الله ـ عن المكس إنه: «كان له أصلٌ في الجاهلية، يفعله ملوكُ العرب والعجمِ جميعًا، فكانَتْ سُنَّتُهم أَنْ يأخذوا مِنَ التُّجَّار عُشْرَ أموالهم إذا مرُّوا بها عليهم»، إلى أَنْ قال: «فعَلِمْنا بهذا أنه قد كان مِنْ سُنَّةِ الجاهلية مع أحاديثَ فيه كثيرةٍ، فأَبْطَلَ اللهُ ذلك برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وبالإسلام، وجاءَتْ فريضةُ الزكاةِ بربع العشر: مِنْ كُلِّ مائتَيْ درهمٍ خمسةٌ»(٢).
والمكسُ قد وَرَدَ فيه الوعيدُ والتغليظ، وهو مِنَ الكبائر؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ صَاحِبَ المَكْسِ فِي النَّارِ»(٣)، وجاء في قصَّةِ توبةِ الغامدية رضي الله عنها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»(٤)، قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «فيه أنَّ المكس مِنْ أَقْبَحِ المعاصي والذنوب المُوبِقات؛ وذلك لكثرةِ مُطالَباتِ الناسِ له وظُلاماتِهم عنده، وتكرُّرِ ذلك منه، وانتهاكِه للناس، وأخذِ أموالهم بغير حقِّها، وصرفِها في غير وجهِها»(٥).
وعليه، فإنَّ الاسترزاق بهذه الطريقِ معدودٌ مِنَ المكاسب المحرَّمة الداخلةِ في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ ﴾ [البقرة: ١٨٨].
ولا يختلف حُكمُ المنعِ المقرَّرُ سابقًا ولا يتغيَّر ولو بترخيصٍ مِنَ الجهات الرسمية، بلديةً كانَتْ أو ولايةً.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
(١) قلت: والمكوسُ لم يُقْصَر أمرُها على التُّجَّار ـ في زمَنِنا ـ بل تعدَّتْ حتَّى أصبح المكسُ يُؤْخَذُ لزومًا مِنَ الحُجَّاج القاصدين بيتَ اللهِ الحرامَ لأداء فريضة الحجِّ، واللهُ المستعان.
(٢) «الأموال» لأبي عُبيدٍ القاسم بنِ سلَّام (٢١٢).
(٣) أخرجه أحمد في «مسنده»(١٧٠٠١) مِنْ حديثِ رُوَيْفِعِ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣٤٠٥)، وحسَّنه شعيب الأناؤوط في تحقيقه ﻟ: «مسند أحمد» (٤/ ١٠٩).
(٤) أخرجه مسلمٌ في «الحدود» (١٦٩٥) مِنْ حديثِ بُرَيْدة الأسلميِّ رضي الله عنه.
(٥) «شرح مسلم» للنووي (١١/ ٢٠٣).
المصدر... موقع الشيخ فركوس حفظه الله
السؤال:
قام شخصٌ بإنشاءِ حظيرةٍ إجباريةٍ للحافلات على أرضٍ شاغرةٍ مِلْكٍ للدولة مِنْ غير ترخيصٍ، يؤدِّي فيها الحراسةَ وتنظيمَ دخولِ وخروجِ الحافلات بمُقابِلٍ ماليٍّ مفروضٍ، وحاوَلَتِ السلطاتُ غَلْقَ هذه الحظيرةِ لكِنْ دون جدوَى، واستمرَّ عملُها حتَّى أصبحَتْ ضروريةً؛ إذ تُحافِظُ على نظامِ سيرِ الحافلات تنظيمًا مُحْكَمًا، فنرجو ـ مِنْ شيخنا ـ أَنْ يبيِّن لنا حُكْمَ هذا الكسب؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ ما أُخِذَ مِنْ أصحاب الحافلات أو السيَّارات مِنَ الأموال بالكيفية المذكورةِ في السؤال يُعَدُّ مِنَ المكس والانتقاصِ مِنْ حقوق الناس والظلمِ لهم، وهو مِنَ البخس الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٨٥﴾ [هود: ٨٥؛ الشُّعَراء: ١٨٢]، سواءٌ كان الظلمُ بالمكس فرديًّا أو جماعيًّا أو عن طريقِ هيئاتٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ، وإِنْ غَلَبَ استعمالُ المكس فيما يأخذه أعوانُ السلطان ظلمًا عند البيع والشراء أو عند إدخال المَبيعات المُدُنَ(١)، ويتأوَّلون فيه معنى الزكاةِ أو الصدقات؛ فقَدْ كان هذا مِنْ سُنَّةِ أهلِ الجاهلية والعجم الذين كانوا يفرضون على التُّجَّارِ عُشْرَ أموالهم ضريبةً يَجْبُونها منهم إذا مَرُّوا عليهم، قال أبو عُبَيْدٍ ـ رحمه الله ـ عن المكس إنه: «كان له أصلٌ في الجاهلية، يفعله ملوكُ العرب والعجمِ جميعًا، فكانَتْ سُنَّتُهم أَنْ يأخذوا مِنَ التُّجَّار عُشْرَ أموالهم إذا مرُّوا بها عليهم»، إلى أَنْ قال: «فعَلِمْنا بهذا أنه قد كان مِنْ سُنَّةِ الجاهلية مع أحاديثَ فيه كثيرةٍ، فأَبْطَلَ اللهُ ذلك برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وبالإسلام، وجاءَتْ فريضةُ الزكاةِ بربع العشر: مِنْ كُلِّ مائتَيْ درهمٍ خمسةٌ»(٢).
والمكسُ قد وَرَدَ فيه الوعيدُ والتغليظ، وهو مِنَ الكبائر؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ صَاحِبَ المَكْسِ فِي النَّارِ»(٣)، وجاء في قصَّةِ توبةِ الغامدية رضي الله عنها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»(٤)، قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «فيه أنَّ المكس مِنْ أَقْبَحِ المعاصي والذنوب المُوبِقات؛ وذلك لكثرةِ مُطالَباتِ الناسِ له وظُلاماتِهم عنده، وتكرُّرِ ذلك منه، وانتهاكِه للناس، وأخذِ أموالهم بغير حقِّها، وصرفِها في غير وجهِها»(٥).
وعليه، فإنَّ الاسترزاق بهذه الطريقِ معدودٌ مِنَ المكاسب المحرَّمة الداخلةِ في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ ﴾ [البقرة: ١٨٨].
ولا يختلف حُكمُ المنعِ المقرَّرُ سابقًا ولا يتغيَّر ولو بترخيصٍ مِنَ الجهات الرسمية، بلديةً كانَتْ أو ولايةً.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١١ ربيع الأوَّل ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ١٨/ ٠٣/ ٢٠٠٨م
الموافق ﻟ: ١٨/ ٠٣/ ٢٠٠٨م
(١) قلت: والمكوسُ لم يُقْصَر أمرُها على التُّجَّار ـ في زمَنِنا ـ بل تعدَّتْ حتَّى أصبح المكسُ يُؤْخَذُ لزومًا مِنَ الحُجَّاج القاصدين بيتَ اللهِ الحرامَ لأداء فريضة الحجِّ، واللهُ المستعان.
(٢) «الأموال» لأبي عُبيدٍ القاسم بنِ سلَّام (٢١٢).
(٣) أخرجه أحمد في «مسنده»(١٧٠٠١) مِنْ حديثِ رُوَيْفِعِ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣٤٠٥)، وحسَّنه شعيب الأناؤوط في تحقيقه ﻟ: «مسند أحمد» (٤/ ١٠٩).
(٤) أخرجه مسلمٌ في «الحدود» (١٦٩٥) مِنْ حديثِ بُرَيْدة الأسلميِّ رضي الله عنه.
(٥) «شرح مسلم» للنووي (١١/ ٢٠٣).
المصدر... موقع الشيخ فركوس حفظه الله