- إنضم
- 13 أفريل 2013
- المشاركات
- 14,618
- نقاط التفاعل
- 54,537
- النقاط
- 1,756
- العمر
- 31
- محل الإقامة
- قسنطينة
- الجنس
- أنثى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأسعد الله أوقاتكم وملأها بركة وطمأنينة
كالعادة كلّما شعرتُ برغبة في الكتابة إلا وأستشيركم فيما يخطه قلمي، أتمنى أن تروقكم القصة هذه المرّة كذلك
مع أنني أعلم أنها أقل مستوى من القصة السابقة فهي تحتاج للكثير من التصحيح والتصليح
ولكن لأن عنوانها يتزامن مع هذه الفترة فأردت مشاركتكم بها، وكالعادة لا تبخلوا عليّ بانتقاداتكم البناءة
أترككم مع القصّة
{ليلةُ عِيد}
حلّ المساءُ أخيرًا بعد عمل يوم طويلٍ أنهك كاهلي وجهد عظيم كاد يفصل عظامي عن جسدي، سرتُ بتعبٍ وأنا أجرُّ جسدًا هزيلًا ما عاد يقوى على هذا النّوع من الأعمال ولا على هذا النوع من الشقاء إلى أن توقفت قدماي المرتجفتان عند محطة الحافلات، لم يطُل انتظاري حتى لمحت حافلة مهترئة تلوّح من بعيد ترتعش وتنفث دخانا كثيفا كرجل عجوز أهلكه التدخين وقد فاض ما بجوفها من ركاب على نوافذها يخيّل للناظر إليهم أنهم على أهبة الانتحار، لكن رغم ذلك كانت عيناي تراها بُراقا سيحملني للجنة فمع الإعياء الذي اجتاح كلّ جسدي أريد فقط أن أصل إلى بيتي مهما كان نوع الوسيلة التي ستحملني إليه، ركبتُ الحافلة أو لنقل دخلت ساحة المعركة وسط الحشود الغفيرة وبين دفعٍ وشدّ كأننا في حلبة مصارعة بحثت بلهفة عن مقعد يحتوي آلام مفاصلي ولكن خاب ظني مع أن مظهرها السابق لا يحتمل الظن، أغلب المقاعد قد استولى عليها الشباب وكل منهم قد غاص في عالمه الخاص وهو يتصفّح هاتفه غير آبه برجل مسن جسده الهزيل لا يقوى على حمله ولا بامرأة حامل تعذّر عليها الوقوف ولا بمريض يئن منتظرا الرحمة من أحدهم.
-شباب جالسون وشيوخ واقفون يا له من زمن.
تخطّيت الجموع بصعوبة وأنا أتمتم بين شفتي بتذمر لأصل أخيرا للنافذة وأقف عندها منتصرًا كمن عثر على كنز، وبعد انتظارٍ أطول من انتظاري في المحطة تحرّكت الحافلة أخيرا وتحرّك معها الشريط السينمائي خلف نافذتها، مشاهد بنايات شامخة وحدائق مزهرة وسيارات يقف معظمها عند الزحام، أما المشهد الأكثر تكرارا هو مشهد تجمّع الناس حول قطعان الأغنام على جوانب الطرقات، نعم غدا عيد ومن الطبيعي أن يتهافت الناس على الخرفان بهذا الشّكل فمعظمهم يتّبع خطّة الشراء في آخر يومٍ ليتجنّب ارتفاع الأسعار، كانت ملامح السعادة والبهجة بادية على وجوه الناس خارجا فهذا يقود خروفه نحو سيارته وآخر يشتري خضرا وفواكه لعائلته وآخر يقتني بعض السكاكين وأطفال يركضون هنا وهناك، كلمة من حرفين قادرة على زرع الفرحة والسرور في قلوب أفراد مجتمع بأكمله صغيرا كانوا أم كبيرا فتخلق جوّا مميّزا فريدا من نوعه، أما بالنسبة لي فكل حرف منها يقتات على مقدرتي وكرامتي في هذه الحياة ليحيلني بشرًا بلا معنى، زفّرت بضيق وقد لامس ذاكرتي ما حدث قبل ساعات حينما تذلّلت لرئيس عملي ورجوته أن يمنحني أجر الشهر المقبل مسبقا لحاجتي إليه فتلقيت منه إجابة كافية لقتل كل رغبة لديّ في السؤال مدى الحياة.
-من يعمل يُمنح أجرا ومن لا يعمل فهناك كثيرون يريدون العمل مكانه.
هل هذا تصريح مباشر بالطرد؟ أم هو مجرّد تهديد؟ يا إلهي هذا آخر همّ أريد تحمّل عواقبه، كان هذا ثاني طلب مساعدة ألجأ إليه والقشة الأخيرة التي أتمسك بها في محيط آمالي ولكنها أغرقتني، أما الطلب الأول فكان زيارتي لأخي في بيته ذو الأربع طوابق لجأت إليه طالبا مبلغا بسيطا من المال وأنا أحمل في جعبتي حقائب ذكرياتنا ومشاغبات صبانا آملا بأن تشفع لي أمام رفيق دربي وابن أمي، ولكنه اعتذر مني يقول أن لديه الكثير من الديون التي تثقل كاهله وتُؤرقه ليلا أهمها مشروع شراء سيارة فاخرة لابنته التي مازال على بلوغها عتبة العشرين ثلاث سنوات كاملة، بالرغم من أن المبلغ الذي طلبته لا يرقى حتى لثمن بنزين تلك السيارة ولكن لا بأس تدثرت بخيبتي واصطحبت انكسار مشاعري معي وهوّنت على نفسي قائلا "يا له من زمن".
استفقت من شرودي على صوت صاحب الحافلة وهو يذكّر بالمحطة التالية، حملتُ جسدي المتعب وكومة ذكرياتي المؤلمة معي ونزلت من الحافلة، وبالرغم من أن هذه المحطة هي الأقرب لبيتي ولكنها تظلّ بعيدة عنه مما يضطرني للمشي دقائق كثيرة تكاد تفوق دقائق ركوبي الحافلة، أما كان أولى لأخي أن يشتري لي سيارة صغيرة؟ فأنا أحوج إليها من ابنته، ابتسمت بسخرية مما توصلت إليه أفكاري الساذجة ونفضتها من عقلي نهائيا فهي لن تزيد سوى من ألمي وعجزي، واصلت المسير بخطى متثاقلة وعيناي تتأملان بحزن وضعف الأطفال أمام بيوتهم وهم يداعبون الأغنام راكضين خلفها بمرح، ترى كيف ستكون ردّة فعل صغاري عندما ألج البيت وأنا خاوي اليدين؟ غير قادر على تحمّل مسؤوليتي كأب وتوفير خروف صغير للعيد، شعرت بوخز في قلبي وطأطأت رأسي خجلًا من نفسي غارقا في همي شاردا في عالمٍ غير عالمي لينتشلني فجأة من بحر شرودي سقوط محفظة صغيرة من جيب أحدهم كان يسير قبلي مسرعًا ولأنه لم ينتبه لسقوطها واصل سيره تاركا إياها خلفه، حملتها بسرعة ونفضت عنها الغبار العالق بها وأسرعت الخطى خلفه لأعيد إليه أمانته، أسرعت وأسرعت وأسرعت ثم شيئا فشيئا تباطأت خطواتي وخفّت وتيرة سرعتي إلى أن توقفت تماما وأنا ألمح ابتعاده واختفاء خياله بقلب بارد، فتحت المحفظة بفضول لأتفاجأ بمبلغ محترم بداخلها رغم أنني لم أقم بعدّه لكنّ حجمه وفئة الأوراق المكوّن منها كفيلة لإعطائي فكرة حول حجم المبلغ، يا إلهي إنه الفرج ! هذا المبلغ كافٍ لشراء خروفٍ كامل يُسعد صغاري، يمكنني الآن وبسرعة أن ألجأ لأقرب بائع للخرفان وأختار أجمل وأكبر خروف في المدينة، ترى كيف ستكون ردّة فعلهم؟ سألمح ملامح السعادة على وجوههم البريئة ككل الأطفال، ولكن ماذا عن هذا الرجل؟ أليس له أطفال؟ أليست له عائلة؟ مهلا يا رجل إلى أين سيوصلك طمعك وقلّة حيلتك؟ إلى معصية الله؟.
وسط هذا الحوار المرهق بيني وبين نفسي ضميري كان حاضرًا وبقوّة ليصفعني وأستفيق من غفلتي وأنانيتي التي كادت تعمي بصيرتي، فركضت بما تبقى لي من قوّة باحثا عن صاحب المحفظة وقد امتلك الرعب قلبي، ماذا لو لم أجده؟ يا إلهي لا أريد هذه النقود لا أريد أن أكون مذنبا يا إلهي اغفر لي، فجأة تراءى لي خياله واقفا عند بائع الخضار يستلم منه كيس الفواكه فشكرت الله ولحقت به وقبل أن يضع يده في جيبه باحثا عن محفظته كنت واقفا أمامه وسلّمته أمانته، حاز موقفي هذا إعجاب الرجل فابتسم لي بكل ما يحمله قلبه من ودّ ووضع يده على كتفي وهو يربت عليه برفق.
-أنتَ رجُلٌ أمين، بارك الله فيك.
أنا رجل أمين؟ يا لها من نكتة سخيفة، أنا لا أكاد أكون كذلك وربّما لست كذلك فلا تخدعك المظاهر يا صديقي، عدت إلى منزلي وأنا أجرّ خيبتي متعثّرا في كل خطوة بشعور الخزي والاحتقار، كيف لرجلٍ في مثل سنِّي لم يعتد على إطعام أطفاله إلا الحلال أن يلجأ للسرقة؟ أهانت عليك شيبتك يا رجل؟ أهانت عليكَ ثقة أطفالك وزوجتك؟ يا للعار.
كانت جلسة التأنيب التي أخضعني إياها ضميري كفيلة بعدم انتباهي لطول الطريق ولا حتى لضجيج الشوارع وأصوات المارّة ولا أضواء السيارات حتى وجدتني أفتح باب منزلي وأدخله خائر القوى ومنهك التفكير، أقبل أطفالي راكضين نحوي فور سماعهم صوت الباب ليحتضن أحدهم قدميّ والآخر يتعلّق برقبتي والآخر يقبّل كفِّي، حقا هذه أجمل مكافأة ينالها قلبي التعيس بعد هذا اليوم الشاقّ، فرحتُ أضمّهم إلى صدري وأقبل جباههم الصغيرة وأحتضن أكفّهم الدافئة وأستمد منها روح الأمل والرغبة في هذه الحياة البائسة، تسرّب بهدوء من بين يديّ أصغر أبنائي وأطلّ من الباب المفتوح بفضول.
-بابا، ألم تحضر معكَ خروفنا؟
-أيمن، اِدخل وأغلق الباب خلفك، وهل هكذا تقابل والدك بعد عملِ يومٍ طويل؟
أطلّت زوجتي من باب المطبخ وهي تؤنّب أيمن بنظرات جادّة، فأغلقتُ الباب خلفي ثم بادلتها نظراتٍ منكسرةٍ بعد عشرةٍ طويلة بيننا أصبحت قادرة على فكِّ رموزها وفهم حروفها حتى قبل أن أنطق بحرفٍ واحد.
-هيا يا صغار، دعوا والدكم يرتاح قليلا من عمله ريثما نحضّر له مائدة الطعام.
اِمتثل الأطفال لأوامر والدتهم وذهبوا لمساعدتها داخل المطبخ، أما أنا فغيّرت ثيابي واغتسلت وصلّيت ما فاتني من صلوات بسبب تأخري خارج البيت، ثم اجتمعت بأسرتي على مائدة واحدة نتناول ما كتبه الله لنا من رزق يُسكتُ جوعنا ويملأ بطوننا، شردتُ أتأمل صغاري شموع حياتي ومنارة قلبي التي أحالت ظلمة الحياة وقساوتها لنور، وكل واحد منهم كان يُلقمُ اللّقمة في فاه أخيه مبتسما مستمتعا إلا أصغرهم كان يضع لقمة في فمه وأخرى في فم والدته، أفنيتُ عمري في تلقين أطفالي أجمل الخصائل وأنبل الأخلاق وها أنا أحصد ما زرعته في قلوبهم البريئة الطاهرة وأتذوّق ثمار تعبي، ولكن أين أخلاقي أنا كأب؟ أين مبادئي وكرامتي؟ ألستُ قدوة حسنة يقتدون بها؟ حقا أنا عار عليهم.
-يا رجل، ما بك لا تأكل؟ ألم يعجبك الطعام؟
استفقت من شرودي على تساؤل زوجتي ونظراتِ صغاري المبهمة، رغم أنها نظرات بريئة إلا أنني كنت أراها عتابا وطعنات اتهام تنخر بصدري ومهما حاولت الهروب منها إلا أنها تلاحقني من كل صوب كسهام عدوّ تحاصر قلعة، وضعت ملعقة الطعام جانبا وسمحت للصمت بالحضور بيننا كضيف شرف لبعض الوقت.
-أنصتوا إليّ جيّدا يا صغاري، كما تعلمون غدًا يوم عيد، وكلّ الناس جيرانا كانوا أم أهلا أم أصدقاء سيكون لهم غدًا أضحية أي خروف عيد، وأنا أعلم يا قرّة عيني أنه من حقّكم كذلك الحصول على كبش عيد كأي طفل في هذا العالم وملاعبته وإطعامه، ولكن والدكم يا أبنائي رجل فقير يكسب بضعة دنانير بالحلال وغير قادر على توفير خروف عيد مثل بقية الآباء، والطريقة الوحيدة التي تسمح لي بالحصول عليه هي طريقة سيّئة جيّدة لا يحبّها الله تعالى ويعاقب عليها، فهل ترضون لوالدكم أن يُحشر في جهنّم مقابل أن يُحضر لكم كبش عيد؟ هل ترضونَ لوالدكم الهلاك؟
كان الصّمت مجدّدا سيّد الموقف أمام علامات الاستفهام البادية على وجوه الأطفال، ليقترب مني فجأة أيمن يتحسّس كفّي بلطف وحنان وعلامات الخوف والقلق استعمرت ملامح وجهه البريئة.
-بابا أنا لا أريد خروفا، أريدك أنت فقط.
ليتبعه بقية إخوته مردّدين نفس الجملة، ترقرق الدمع في عينيّ من تأثري وابتسمت لزوجتي التي كانت بدورها سعيدة وفخورة بهذه الجواهر الثمينة التي رزقنا الله إياها، ثم فتحت ذراعيّ لأطفالي ليستقرّوا جميعا بين أحضاني متخذين منه ملجأً دافئا لهم.
-حفظكم الله لي يا قرّة عيني، ومثلما زرع الله في قلوبكم بذرة الصبر هذه سيجازينا عليها وسيرزقنا من حيث لا نحتسب، سيرزقنا الله يا أعزائي، سيرزقنا الله.
رُحت أقبل رؤوس صغاري وأطعمهم بيدي وسط ضحكاتهم التي تُطربُ أذنيّ كموسيقى عذبة وتروي صدري الذابل فتزهر فيه حديقة أمل وطمأنينة وتفاؤل، فجأة تعالى رنين جرس الباب عاليا ليقطع هذا الجوّ الدافئ والعامر بالمحبّة والمودّة، فتحت الباب فوجدت عنده شابًا واقفا وبقربه كبش سمين أقرن بهيّ المنظر، كانت علامات الاستفهام واضحة على سحنتي وقبل أن أبادر بالسؤال سألني بدوره عن اسمي وإن كنت صاحب البيت وبعد تأكده من هويتي أخبرني بما لم أتوقعه.
-هذا الكبش هو صدقة من أحد الرجال المحسنين الذي يفضل التكتم عن اسمه، فبعد بحثه عن عوائل فقيرة لم تتمكن من شراء خروفٍ للعيد دلّه أحدهم على بيتك فقرر إهداءك هذا الكبش، فهنيئًا لك به يا سيدي وعيد مبارك مسبقا لك ولعائلتك الكريمة.
طفرتِ الدموع من عينيّ وأنا غير مصدّق لما أسمعه وغير واعٍ لما يحدث حولي، رفعت رأسي للسماء حامدا الله عز وجل ففعلا ما خاب من طرق بابه، اتسعت فتحة باب المنزل فجأة ليطلّ منه أيمن بفضول وما أن لمح الخروف واقفا عند الباب حتى اتسعت عيناه دهشة.
-بابا، هل رزقنا الله؟
أشرق وجهي بابتسامة هادئة وحملت صغيري بين ذراعيّ وقبّلت خدّه وأنا أمسح على رأس الخروف بلطف.
-نعم يا عزيزي، لقد رزقنا الله، رزقنا الله من حيث لا نحتسب.
بقلمي ~لؤلؤة قسنطينة~
وأسعد الله أوقاتكم وملأها بركة وطمأنينة
كالعادة كلّما شعرتُ برغبة في الكتابة إلا وأستشيركم فيما يخطه قلمي، أتمنى أن تروقكم القصة هذه المرّة كذلك
مع أنني أعلم أنها أقل مستوى من القصة السابقة فهي تحتاج للكثير من التصحيح والتصليح
ولكن لأن عنوانها يتزامن مع هذه الفترة فأردت مشاركتكم بها، وكالعادة لا تبخلوا عليّ بانتقاداتكم البناءة
أترككم مع القصّة
{ليلةُ عِيد}
حلّ المساءُ أخيرًا بعد عمل يوم طويلٍ أنهك كاهلي وجهد عظيم كاد يفصل عظامي عن جسدي، سرتُ بتعبٍ وأنا أجرُّ جسدًا هزيلًا ما عاد يقوى على هذا النّوع من الأعمال ولا على هذا النوع من الشقاء إلى أن توقفت قدماي المرتجفتان عند محطة الحافلات، لم يطُل انتظاري حتى لمحت حافلة مهترئة تلوّح من بعيد ترتعش وتنفث دخانا كثيفا كرجل عجوز أهلكه التدخين وقد فاض ما بجوفها من ركاب على نوافذها يخيّل للناظر إليهم أنهم على أهبة الانتحار، لكن رغم ذلك كانت عيناي تراها بُراقا سيحملني للجنة فمع الإعياء الذي اجتاح كلّ جسدي أريد فقط أن أصل إلى بيتي مهما كان نوع الوسيلة التي ستحملني إليه، ركبتُ الحافلة أو لنقل دخلت ساحة المعركة وسط الحشود الغفيرة وبين دفعٍ وشدّ كأننا في حلبة مصارعة بحثت بلهفة عن مقعد يحتوي آلام مفاصلي ولكن خاب ظني مع أن مظهرها السابق لا يحتمل الظن، أغلب المقاعد قد استولى عليها الشباب وكل منهم قد غاص في عالمه الخاص وهو يتصفّح هاتفه غير آبه برجل مسن جسده الهزيل لا يقوى على حمله ولا بامرأة حامل تعذّر عليها الوقوف ولا بمريض يئن منتظرا الرحمة من أحدهم.
-شباب جالسون وشيوخ واقفون يا له من زمن.
تخطّيت الجموع بصعوبة وأنا أتمتم بين شفتي بتذمر لأصل أخيرا للنافذة وأقف عندها منتصرًا كمن عثر على كنز، وبعد انتظارٍ أطول من انتظاري في المحطة تحرّكت الحافلة أخيرا وتحرّك معها الشريط السينمائي خلف نافذتها، مشاهد بنايات شامخة وحدائق مزهرة وسيارات يقف معظمها عند الزحام، أما المشهد الأكثر تكرارا هو مشهد تجمّع الناس حول قطعان الأغنام على جوانب الطرقات، نعم غدا عيد ومن الطبيعي أن يتهافت الناس على الخرفان بهذا الشّكل فمعظمهم يتّبع خطّة الشراء في آخر يومٍ ليتجنّب ارتفاع الأسعار، كانت ملامح السعادة والبهجة بادية على وجوه الناس خارجا فهذا يقود خروفه نحو سيارته وآخر يشتري خضرا وفواكه لعائلته وآخر يقتني بعض السكاكين وأطفال يركضون هنا وهناك، كلمة من حرفين قادرة على زرع الفرحة والسرور في قلوب أفراد مجتمع بأكمله صغيرا كانوا أم كبيرا فتخلق جوّا مميّزا فريدا من نوعه، أما بالنسبة لي فكل حرف منها يقتات على مقدرتي وكرامتي في هذه الحياة ليحيلني بشرًا بلا معنى، زفّرت بضيق وقد لامس ذاكرتي ما حدث قبل ساعات حينما تذلّلت لرئيس عملي ورجوته أن يمنحني أجر الشهر المقبل مسبقا لحاجتي إليه فتلقيت منه إجابة كافية لقتل كل رغبة لديّ في السؤال مدى الحياة.
-من يعمل يُمنح أجرا ومن لا يعمل فهناك كثيرون يريدون العمل مكانه.
هل هذا تصريح مباشر بالطرد؟ أم هو مجرّد تهديد؟ يا إلهي هذا آخر همّ أريد تحمّل عواقبه، كان هذا ثاني طلب مساعدة ألجأ إليه والقشة الأخيرة التي أتمسك بها في محيط آمالي ولكنها أغرقتني، أما الطلب الأول فكان زيارتي لأخي في بيته ذو الأربع طوابق لجأت إليه طالبا مبلغا بسيطا من المال وأنا أحمل في جعبتي حقائب ذكرياتنا ومشاغبات صبانا آملا بأن تشفع لي أمام رفيق دربي وابن أمي، ولكنه اعتذر مني يقول أن لديه الكثير من الديون التي تثقل كاهله وتُؤرقه ليلا أهمها مشروع شراء سيارة فاخرة لابنته التي مازال على بلوغها عتبة العشرين ثلاث سنوات كاملة، بالرغم من أن المبلغ الذي طلبته لا يرقى حتى لثمن بنزين تلك السيارة ولكن لا بأس تدثرت بخيبتي واصطحبت انكسار مشاعري معي وهوّنت على نفسي قائلا "يا له من زمن".
استفقت من شرودي على صوت صاحب الحافلة وهو يذكّر بالمحطة التالية، حملتُ جسدي المتعب وكومة ذكرياتي المؤلمة معي ونزلت من الحافلة، وبالرغم من أن هذه المحطة هي الأقرب لبيتي ولكنها تظلّ بعيدة عنه مما يضطرني للمشي دقائق كثيرة تكاد تفوق دقائق ركوبي الحافلة، أما كان أولى لأخي أن يشتري لي سيارة صغيرة؟ فأنا أحوج إليها من ابنته، ابتسمت بسخرية مما توصلت إليه أفكاري الساذجة ونفضتها من عقلي نهائيا فهي لن تزيد سوى من ألمي وعجزي، واصلت المسير بخطى متثاقلة وعيناي تتأملان بحزن وضعف الأطفال أمام بيوتهم وهم يداعبون الأغنام راكضين خلفها بمرح، ترى كيف ستكون ردّة فعل صغاري عندما ألج البيت وأنا خاوي اليدين؟ غير قادر على تحمّل مسؤوليتي كأب وتوفير خروف صغير للعيد، شعرت بوخز في قلبي وطأطأت رأسي خجلًا من نفسي غارقا في همي شاردا في عالمٍ غير عالمي لينتشلني فجأة من بحر شرودي سقوط محفظة صغيرة من جيب أحدهم كان يسير قبلي مسرعًا ولأنه لم ينتبه لسقوطها واصل سيره تاركا إياها خلفه، حملتها بسرعة ونفضت عنها الغبار العالق بها وأسرعت الخطى خلفه لأعيد إليه أمانته، أسرعت وأسرعت وأسرعت ثم شيئا فشيئا تباطأت خطواتي وخفّت وتيرة سرعتي إلى أن توقفت تماما وأنا ألمح ابتعاده واختفاء خياله بقلب بارد، فتحت المحفظة بفضول لأتفاجأ بمبلغ محترم بداخلها رغم أنني لم أقم بعدّه لكنّ حجمه وفئة الأوراق المكوّن منها كفيلة لإعطائي فكرة حول حجم المبلغ، يا إلهي إنه الفرج ! هذا المبلغ كافٍ لشراء خروفٍ كامل يُسعد صغاري، يمكنني الآن وبسرعة أن ألجأ لأقرب بائع للخرفان وأختار أجمل وأكبر خروف في المدينة، ترى كيف ستكون ردّة فعلهم؟ سألمح ملامح السعادة على وجوههم البريئة ككل الأطفال، ولكن ماذا عن هذا الرجل؟ أليس له أطفال؟ أليست له عائلة؟ مهلا يا رجل إلى أين سيوصلك طمعك وقلّة حيلتك؟ إلى معصية الله؟.
وسط هذا الحوار المرهق بيني وبين نفسي ضميري كان حاضرًا وبقوّة ليصفعني وأستفيق من غفلتي وأنانيتي التي كادت تعمي بصيرتي، فركضت بما تبقى لي من قوّة باحثا عن صاحب المحفظة وقد امتلك الرعب قلبي، ماذا لو لم أجده؟ يا إلهي لا أريد هذه النقود لا أريد أن أكون مذنبا يا إلهي اغفر لي، فجأة تراءى لي خياله واقفا عند بائع الخضار يستلم منه كيس الفواكه فشكرت الله ولحقت به وقبل أن يضع يده في جيبه باحثا عن محفظته كنت واقفا أمامه وسلّمته أمانته، حاز موقفي هذا إعجاب الرجل فابتسم لي بكل ما يحمله قلبه من ودّ ووضع يده على كتفي وهو يربت عليه برفق.
-أنتَ رجُلٌ أمين، بارك الله فيك.
أنا رجل أمين؟ يا لها من نكتة سخيفة، أنا لا أكاد أكون كذلك وربّما لست كذلك فلا تخدعك المظاهر يا صديقي، عدت إلى منزلي وأنا أجرّ خيبتي متعثّرا في كل خطوة بشعور الخزي والاحتقار، كيف لرجلٍ في مثل سنِّي لم يعتد على إطعام أطفاله إلا الحلال أن يلجأ للسرقة؟ أهانت عليك شيبتك يا رجل؟ أهانت عليكَ ثقة أطفالك وزوجتك؟ يا للعار.
كانت جلسة التأنيب التي أخضعني إياها ضميري كفيلة بعدم انتباهي لطول الطريق ولا حتى لضجيج الشوارع وأصوات المارّة ولا أضواء السيارات حتى وجدتني أفتح باب منزلي وأدخله خائر القوى ومنهك التفكير، أقبل أطفالي راكضين نحوي فور سماعهم صوت الباب ليحتضن أحدهم قدميّ والآخر يتعلّق برقبتي والآخر يقبّل كفِّي، حقا هذه أجمل مكافأة ينالها قلبي التعيس بعد هذا اليوم الشاقّ، فرحتُ أضمّهم إلى صدري وأقبل جباههم الصغيرة وأحتضن أكفّهم الدافئة وأستمد منها روح الأمل والرغبة في هذه الحياة البائسة، تسرّب بهدوء من بين يديّ أصغر أبنائي وأطلّ من الباب المفتوح بفضول.
-بابا، ألم تحضر معكَ خروفنا؟
-أيمن، اِدخل وأغلق الباب خلفك، وهل هكذا تقابل والدك بعد عملِ يومٍ طويل؟
أطلّت زوجتي من باب المطبخ وهي تؤنّب أيمن بنظرات جادّة، فأغلقتُ الباب خلفي ثم بادلتها نظراتٍ منكسرةٍ بعد عشرةٍ طويلة بيننا أصبحت قادرة على فكِّ رموزها وفهم حروفها حتى قبل أن أنطق بحرفٍ واحد.
-هيا يا صغار، دعوا والدكم يرتاح قليلا من عمله ريثما نحضّر له مائدة الطعام.
اِمتثل الأطفال لأوامر والدتهم وذهبوا لمساعدتها داخل المطبخ، أما أنا فغيّرت ثيابي واغتسلت وصلّيت ما فاتني من صلوات بسبب تأخري خارج البيت، ثم اجتمعت بأسرتي على مائدة واحدة نتناول ما كتبه الله لنا من رزق يُسكتُ جوعنا ويملأ بطوننا، شردتُ أتأمل صغاري شموع حياتي ومنارة قلبي التي أحالت ظلمة الحياة وقساوتها لنور، وكل واحد منهم كان يُلقمُ اللّقمة في فاه أخيه مبتسما مستمتعا إلا أصغرهم كان يضع لقمة في فمه وأخرى في فم والدته، أفنيتُ عمري في تلقين أطفالي أجمل الخصائل وأنبل الأخلاق وها أنا أحصد ما زرعته في قلوبهم البريئة الطاهرة وأتذوّق ثمار تعبي، ولكن أين أخلاقي أنا كأب؟ أين مبادئي وكرامتي؟ ألستُ قدوة حسنة يقتدون بها؟ حقا أنا عار عليهم.
-يا رجل، ما بك لا تأكل؟ ألم يعجبك الطعام؟
استفقت من شرودي على تساؤل زوجتي ونظراتِ صغاري المبهمة، رغم أنها نظرات بريئة إلا أنني كنت أراها عتابا وطعنات اتهام تنخر بصدري ومهما حاولت الهروب منها إلا أنها تلاحقني من كل صوب كسهام عدوّ تحاصر قلعة، وضعت ملعقة الطعام جانبا وسمحت للصمت بالحضور بيننا كضيف شرف لبعض الوقت.
-أنصتوا إليّ جيّدا يا صغاري، كما تعلمون غدًا يوم عيد، وكلّ الناس جيرانا كانوا أم أهلا أم أصدقاء سيكون لهم غدًا أضحية أي خروف عيد، وأنا أعلم يا قرّة عيني أنه من حقّكم كذلك الحصول على كبش عيد كأي طفل في هذا العالم وملاعبته وإطعامه، ولكن والدكم يا أبنائي رجل فقير يكسب بضعة دنانير بالحلال وغير قادر على توفير خروف عيد مثل بقية الآباء، والطريقة الوحيدة التي تسمح لي بالحصول عليه هي طريقة سيّئة جيّدة لا يحبّها الله تعالى ويعاقب عليها، فهل ترضون لوالدكم أن يُحشر في جهنّم مقابل أن يُحضر لكم كبش عيد؟ هل ترضونَ لوالدكم الهلاك؟
كان الصّمت مجدّدا سيّد الموقف أمام علامات الاستفهام البادية على وجوه الأطفال، ليقترب مني فجأة أيمن يتحسّس كفّي بلطف وحنان وعلامات الخوف والقلق استعمرت ملامح وجهه البريئة.
-بابا أنا لا أريد خروفا، أريدك أنت فقط.
ليتبعه بقية إخوته مردّدين نفس الجملة، ترقرق الدمع في عينيّ من تأثري وابتسمت لزوجتي التي كانت بدورها سعيدة وفخورة بهذه الجواهر الثمينة التي رزقنا الله إياها، ثم فتحت ذراعيّ لأطفالي ليستقرّوا جميعا بين أحضاني متخذين منه ملجأً دافئا لهم.
-حفظكم الله لي يا قرّة عيني، ومثلما زرع الله في قلوبكم بذرة الصبر هذه سيجازينا عليها وسيرزقنا من حيث لا نحتسب، سيرزقنا الله يا أعزائي، سيرزقنا الله.
رُحت أقبل رؤوس صغاري وأطعمهم بيدي وسط ضحكاتهم التي تُطربُ أذنيّ كموسيقى عذبة وتروي صدري الذابل فتزهر فيه حديقة أمل وطمأنينة وتفاؤل، فجأة تعالى رنين جرس الباب عاليا ليقطع هذا الجوّ الدافئ والعامر بالمحبّة والمودّة، فتحت الباب فوجدت عنده شابًا واقفا وبقربه كبش سمين أقرن بهيّ المنظر، كانت علامات الاستفهام واضحة على سحنتي وقبل أن أبادر بالسؤال سألني بدوره عن اسمي وإن كنت صاحب البيت وبعد تأكده من هويتي أخبرني بما لم أتوقعه.
-هذا الكبش هو صدقة من أحد الرجال المحسنين الذي يفضل التكتم عن اسمه، فبعد بحثه عن عوائل فقيرة لم تتمكن من شراء خروفٍ للعيد دلّه أحدهم على بيتك فقرر إهداءك هذا الكبش، فهنيئًا لك به يا سيدي وعيد مبارك مسبقا لك ولعائلتك الكريمة.
طفرتِ الدموع من عينيّ وأنا غير مصدّق لما أسمعه وغير واعٍ لما يحدث حولي، رفعت رأسي للسماء حامدا الله عز وجل ففعلا ما خاب من طرق بابه، اتسعت فتحة باب المنزل فجأة ليطلّ منه أيمن بفضول وما أن لمح الخروف واقفا عند الباب حتى اتسعت عيناه دهشة.
-بابا، هل رزقنا الله؟
أشرق وجهي بابتسامة هادئة وحملت صغيري بين ذراعيّ وقبّلت خدّه وأنا أمسح على رأس الخروف بلطف.
-نعم يا عزيزي، لقد رزقنا الله، رزقنا الله من حيث لا نحتسب.
بقلمي ~لؤلؤة قسنطينة~
آخر تعديل: