"أصبحنا واصبح الملك لله ولاحول ولا قوة الا بالله اللهم مرر هذا اليوم على خير ولا تجعله كسائر الأيام"
بهذه الكلمات اصطبح مريزق وعلى ثغاء وبعبعات الاضاحي المنبعثة من منازل الجيران المتفرقة كجوقة غير متناسقة تعزف أنغاما مملّة طلع نهاره المظلم.
وكلما تعالت اصواتها زاد أنينه و من داخله فورة و رغبة في اسكاتها والكتم على أنفاسها حتى لا توقض انتباه زوجته المنهمكة في احدى زوايا المنزل من أولى لحظات بزوغ الفجر معلنة عن انطلاق حملة تنظيف وتقليب واسعة النطاق في يوم يتذكر فيه مريزق ويلات عذاب القبر وخيبة أمله الكبيرة في عيش حياة سعيدة.
ولأنه على دراية يائسة أن هذه المغارة شبه البيت القائم بالطوب المكسوة بالقصدير الآيل للانهيار او الانجراف لا يستحق عناء التنظيف والترتيب ساعة بل ان ساعة تكفي لتهديمه واعادة بناءه وليس فقط تنظيفه فإنه في قرارة نفسه وبحدسه الذي لا يخيب في مثل هذه المواقف المنحوسة يعي جيدا أن هذه الحملة الباكرة هي بوادر اضطراب وتحضير ليوم الحساب والعقاب للعبد الضعيف وصداع لن يفارقه الا بتشريف كبش أو شبه كبش على الأقل مثل سائر الناس يفكّ النزاع ويهدئ الأجواء ويزرع السرور في قلوب المتخاصمين حتى حين.
ولكن من أين ومريزق مجرد عتال يعمل بأجرة زهيدة لا تكاد تسدّ رمق فردين من بين سبعة أفواه تنتظره آخر كل مساء كما تنتظر صغار العصافير من يطعمها.
ومع كل ضجة تحدثها زوجته وطرقة تطرقها يخفق قلبه في وجل ووجع وتوجس مما هو آت. فكـر واسترجع ثم فكر واستغفر ثم قرّر ،نهض مريزق من مكانه قبل ان يلحقه شواظ من سعير زوجته المتأجج رويدا رويدا ينوء بحمل متجدد كلما حلت مناسبة العيد الكبير عبء يظيفه الى قائمة همومه المكوّمة منذ أول يوم طل فيه على خِلقة السعدية او "الرعدة" كما يسميها مريزق في دفتر الكنايات الأحمر المخبئ في غياهب وجدانه... الرعدة،المصيبة،المدفع،جهنم الحمراء ...كلها كانت تعني السعدية، بالنسبة إليه يحمّلها أسباب نكسته وضياع شبابه وقعوده عن مواكبة التطور والازدهار كأقرانه من أصدقاء المدرسة والشباب منذ ارتبط بها كالوتد المثبت في أرض يُشدّ به وثاق الحيوان حتى يستكين ويتوقف نعم أنا الحيوان الذي رضيت بهذا الحال قبل ان تزيد في شدّ وِثاقي بسبع أقفال يغرقون معي في هذا المستنقع الأسود كسواد حظي هذه هي الاسطوانة الوحيدة التي يقلبها مريزق من الصباح الى المساء ولا يملّ من ترديدها كلما أتيحت له فرصة التعبير فيها.
سعدية التي لم يكن لها نصيب من اسمها ولا من حظ من تيمنت بها جدتها لابيها التي كانت خاتمتها في زريبة تحت حوافر عجل هائج عجّل بنهاية معاناتها الطويلة في رعاية قطيع من الاولاد والعناية بزوجها وقطيع من الأبقار ربما أن الحظ الوحيد الذي منيت به السعدية الصغيرة هي أن خاتمتها لن تكون كجدتها وهي تعيش في منزل مع مريزق الحمل الوديع الواهن الذي لا يرمح ولا ينطح ومن شدة هزاله لا يكاد يضع حافر قدمه على الارض حتى يتحرك بانسيابية ورشاقة.
لقد اكتسبت سعدية من معترك الحياة وقساوتها فظاظة وجفاء تجاه المسكين مريزق ما يجعله دائم النفور منها ومن ثرثرتها الثقيلة الجارحة.
بأنفاس متخفية وخطى طويلة و بطيئة وبحركة بهلوانية لا يتقنها الا مريزق ينتعل خفا في رجل ثم يمد الاخرى ليخطوا خطوته الموالية وينتعل الثاني يحاول مريزق الوصول الى مخرج البيت بهدوء وسلام فارا من جحيم مرتقب في هذا اليوم الغائم كأنه يجتاز حقلا من ألغام فارا من قصف يتبعه وما إن دنى من الباب ومد يده الى المقبض وتيقن من النجاح حتى صعقته صيحة السعدية المعهودة من وراءه تفرّق من صداها في أرجاء البيت سرب الحمام المصطف على جدار المنزل في جمهرة لمشاهدة هذا الفصل من مسرحية لا يمل منها في هذا البيت بالذات،تجمدت من اثرها الدماء في عروق مريزق الظاهرة من من بعيد من شدة هزاله ومع اختراق رعشة خاطفة لكل ضلوعه تيبس في مكانه كتمثال الحرية لكنه لم يحقق تلك الحرية بالفرار من أرض المعركة التبس عليه الأمر بين الذهاب و الاياب وأخيرا تراءت الفئتان في مدخل الفِناء.
وفي محاولة بهلوانية أخرى لاستبدال هذا المشهد المخزي أمام الحمام بمشهد تطبعه البطولة والشجاعة استجمع بطلنا مريزق المغوار ما تبقى له من ذرات حزم ورجولة مبعثرة في جسمه الصغير و انتصب من انحنائته كأسد عرمرم واثبا على الباب في صولة وانفعال كاد يسقط أرضا على إثرها.
مخاطبا خيالا من وراء الباب: من هذا الحمار الذي يقرع ابواب الناس على وجه الصباح الا تستحون الناس نيام يا... يا همج يا حيوانات..يا .... وما ان وضع طرف اصبعه على المقبض حتى انساب الى الخارج كالشبح كأن الباب لم يُفتح وهو يكمل حركته التمويهية وانطلق مع طول الشارع الشديد الانحدار تتصارع رجلاه الرقيقتان كأنهما سيفان يتعاركان يقسم بالايمان المغلظة أن لا تطئ قدمه البيت طيلة اليوم حتى تنقشع غيمة النكد هذه وتخلد الرعدة سعدية الى النوم.
بارك الله فيكم.
فريد أبو فيصل
آخر تعديل بواسطة المشرف: