بين الدين والتدين
(تصحيح مفهوم)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فما أجمل أن يكون الإنسان متدينًا، مستقيم السلوك، قويَّ الصلة بالله جل جلاله! إلا أن التدين الحقَّ لا يعني الالتزام الصارم بأداء الفرائض والانحراف السلوكيَّ والأخلاقي؛ كإساءة معاملة الناس، والكذب والنفاق، وظلم المرؤوسين، وقبول الرشوة، ونهب المال العام.
ومظاهر التدين عند الناس تنتشر في كل مكان، ولا تختصُّ بشعب دون شعب، لدرجة جعلت معهد (غالوب الأمريكي) يُعِدُّ دراسةً عن أكثر المناطق تدينًا في العالم! واللطيف في الدراسة أنها وجدت أن العالم العربيَّ من أكثر الشعوب تدينًا على وجه الأرض، ولكن في الوقت نفسه، نجد أن شعوب هذه المنطقة تحتلُّ مراكزَ متقدمةً في الفساد والرشوة، والتحرش الجنسيِّ، والغشِّ والنصب والتزوير؛ لذا لا بد من محاولة لتفسير هذا التناقُض، والسؤال: كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينًا وفي الوقت نفسه الأكثر انحرافًا؟! فأين أثر الصلاة في حياتنا؟! وأين أثر العبادات عمومًا على العابدين؟!
والدين قد يكون سماويًّا، وقد يكون وضعيًّا، والدين السماوي الحقُّ في تعريف العلماء هو: (وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارِهم المحمُود)[1]، وعلى هذا التعريف يمكن أن نقول: إن التديُّن وضعٌ بشريٌّ ينساق به أولو الألباب إلى الخيرات باختيارهم.
فالدين وضعٌ إلهي؛ أي: نصوص جاء بها الوحيُ من كتاب وسُنة، والتدين وضعٌ بشري؛ أي: التزام إنسانيٌّ باختيار المتديِّن وفق فهم المتدين نفسه.
وفي تعريف الدين والتدين جاء الكلام عن (أولي الألباب)، ففي الدين يسوق الوضع الإلهيُّ أولي الألباب، وفي التدين ينساق المتدينون (أولو الألباب) للدين؛ أي: إن الخطاب الدينيَّ لأصحاب العقول، فمن حُرِم نعمة العقل؛ لصغر سنٍّ أو جنون، فهو غير مخاطب بهذا الوضع الإلهيِّ، وغير ميسَّر له فهمُ الدين؛ لذا قالوا: العقل مناط التكليف، أما من غَيَّب عقله أو عطَّله، فهذا محاسب على التعطيل والتغييب، وعلى سوء التدين.
فعندما ينحرف التدين، فهذا يعني تعطيلًا للعقل، وخللًا في الفهم، يجب أن نتداركه، إن كنا متدينين حقًّا، فالتدين فَهْمٌ للوضع الإلهي الذي هو النص المنزَّل، ثم ترجمةٌ لهذا الفهم بسلوك تعبُّديٍّ وأخلاقي وتعامُلي قويم.
فكما أن الذي يدعو مع الله إلهًا آخر، ما فهم الخطاب الديني الذي يقول: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]؛ لذا انحرف إلى الشِّرك، كذلك الذي ينحرف أخلاقيًّا، ما فهم الخطاب الدينيَّ الذي يقول)) :ما شيء أثْقَل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حَسَنٍ، وإن اللَّه لَيُبْغِضُ الفاحش البذيء)) [2]، ويقول أيضًا: ((أكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أَحسنُهم خُلُقًا)[3]
فكمال الإيمان بحُسن الخلق، وثقلُ الميزان بحسن الخلق، والله يبغض سيِّئ الخلق؛ الفاحش في أفعاله، البذيءَ في أقواله، وقد سُئِل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أكْثرِ ما يُدخل الناسَ الجنَّةَ، فقال(تَقْوى اللَّه، وحُسْنُ الخُلُقِ))، وسُئِلَ عن أكثر ما يُدخل الناس النارَ، فقال: ((الفَمُ والفَرْجُ))[4]؛ أي الكلام السيِّئ؛ كالكذب، والغيبة، والفعل السيِّئ؛ كالزنا، فهذا كله دين، وليس الصلاة والصوم والحج وحدها دينًا.
والتَّدين الذي لا ينعكس أثرًا في السُّلوك تديُّنٌ أجوف، فأندونيسيا لم يفتحها المحاربُون بسيوفهم؛ وإنما فتحها التُّجارُ المسلمون بأخلاقهم وأماناتهم، الذين لم يكونوا يبيعون بضائعهم بدينهم؛ لهذا أُعجبَ الناس بهم، وكذلك انتشر الإسلام في الهند وماليزيا بالتعاملات المستقيمة.
والتعامل مع الآخرين محكُّ التَّديُّنِ الصحيح، فإذا لم يلحظ الناسُ الفرقَ بين المتديِّنِ وغير المتديِّن في التجارة والحياة الزوجية والاجتماعية؛ فما فائدة التَّدينِ الشعائريِّ الفردي؟
وحقًّا مصيبةٌ أن تكون الصلوات تمرينات رياضية لتقوية العضلات والمفاصل، ولا يستفيد منها القلب، ومصيبةٌ ألا يكون لنا من صيامنا إلا الحلويات، ومتابعة المسلسلات، ومصيبةٌ ألا يكون لنا من حجِّنا إلا تَمْرُ المدينة، وماء زمزم، ومسبحة مصنوعة في الصِّين.
وربما يُشكل على بعض الناس هذا الفهم؛ فيقول: إن الإيمان بالله، وحسن الصلة به، والإخلاص له في العبادة - أفضلُ الأعمال، فهي الأثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة، فكيف يكون حسن الخلق أثقلَ؟! وهذا الإشكال لا يلبث أن ينحَلَّ إذا عرفنا أن الإيمان وعبادة الله الأثقل هي التي تكون بما توجِبه الأسسُ الأخلاقية، وتفرضه مكارم الأخلاق.
فتدينٌ يكتفي بالعبادة ويترك السلوك، يترك خللًا في الحياة، فلا يكفي أن نصلِّيَ ونصوم، بل لا بد من ترجمة لأثر الصلاة بحفظ الفرج، ورعاية الأمانة والعهد؛ لنكون الوارثين؛ لذا يُبيِّن الله أهل الفلاح بالإيمان فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 10]
فجمع المؤمن بين خشوع في محراب الصلاة، وإعراض عن الباطل والشتيمة، وتقديم يد العون من أجل تزكية النفس، وحفظ العِرض والنَّسب إلا فيما يحل، ورعاية الأمانة والعهد، والمحافظة على الصلاة في مواقيتها وعدم فعل ما يتعارض مع مقتضاها؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
نحن نعتزُّ بديننا شكلًا ومضمونًا، ولكن من العيب أن نتمسَّك بالشَّكلِ ونتركَ المضمون؛ فالدِّينُ الذي حوَّل رعاةَ الغنمِ إلى قادةٍ للأممِ لم يُغيِّر أشكالهم فقط؛ وإنَّما غيَّر مضامينهم؛ فأبو جهل كان يلبسُ عمامة مثل العمامة التي كان يلبسها أبو بكر؛ لأنها من عادات العرب، وما امتاز به أبو بكر رضي الله عنه هو المضمون وليس الشكل.
وكذلك لحية أُميَّة بن خلف كانتْ طويلة كلحية عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ لأن العرب معتادون على ذلك بلا تديُّن، والفرق بينهما في المضمون أولًا، وهذا لا يعني إلغاء الشكل؛ بل معناه بناء المضمون الذي يصقل الشكل، فالمظهر الإيمانيُّ الناتج عن جوهر التحقُّق بالعبودية الحقَّة هو المطلوب، أما المظهر الخالي من الجوهر، فربما يحمل إساءةً للدين باسم الدين، كالصائم الذي ليس له من صيامه سوى الجوع والعطش.
فالدين غير التدين، والدين الحق يريد منا أن نكون متدينين بالمفهوم الشامل للعبادة، والذي يعني إحسان الشعائر والأخلاق والمعاملات... فهي كل ما يحبه الله ويرضاه من اﻷقوال واﻷفعال الظاهرة والباطنة.
المصدر: بين الدين والتدين (تصحيح مفهوم)
(تصحيح مفهوم)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فما أجمل أن يكون الإنسان متدينًا، مستقيم السلوك، قويَّ الصلة بالله جل جلاله! إلا أن التدين الحقَّ لا يعني الالتزام الصارم بأداء الفرائض والانحراف السلوكيَّ والأخلاقي؛ كإساءة معاملة الناس، والكذب والنفاق، وظلم المرؤوسين، وقبول الرشوة، ونهب المال العام.
ومظاهر التدين عند الناس تنتشر في كل مكان، ولا تختصُّ بشعب دون شعب، لدرجة جعلت معهد (غالوب الأمريكي) يُعِدُّ دراسةً عن أكثر المناطق تدينًا في العالم! واللطيف في الدراسة أنها وجدت أن العالم العربيَّ من أكثر الشعوب تدينًا على وجه الأرض، ولكن في الوقت نفسه، نجد أن شعوب هذه المنطقة تحتلُّ مراكزَ متقدمةً في الفساد والرشوة، والتحرش الجنسيِّ، والغشِّ والنصب والتزوير؛ لذا لا بد من محاولة لتفسير هذا التناقُض، والسؤال: كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينًا وفي الوقت نفسه الأكثر انحرافًا؟! فأين أثر الصلاة في حياتنا؟! وأين أثر العبادات عمومًا على العابدين؟!
والدين قد يكون سماويًّا، وقد يكون وضعيًّا، والدين السماوي الحقُّ في تعريف العلماء هو: (وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارِهم المحمُود)[1]، وعلى هذا التعريف يمكن أن نقول: إن التديُّن وضعٌ بشريٌّ ينساق به أولو الألباب إلى الخيرات باختيارهم.
فالدين وضعٌ إلهي؛ أي: نصوص جاء بها الوحيُ من كتاب وسُنة، والتدين وضعٌ بشري؛ أي: التزام إنسانيٌّ باختيار المتديِّن وفق فهم المتدين نفسه.
وفي تعريف الدين والتدين جاء الكلام عن (أولي الألباب)، ففي الدين يسوق الوضع الإلهيُّ أولي الألباب، وفي التدين ينساق المتدينون (أولو الألباب) للدين؛ أي: إن الخطاب الدينيَّ لأصحاب العقول، فمن حُرِم نعمة العقل؛ لصغر سنٍّ أو جنون، فهو غير مخاطب بهذا الوضع الإلهيِّ، وغير ميسَّر له فهمُ الدين؛ لذا قالوا: العقل مناط التكليف، أما من غَيَّب عقله أو عطَّله، فهذا محاسب على التعطيل والتغييب، وعلى سوء التدين.
فعندما ينحرف التدين، فهذا يعني تعطيلًا للعقل، وخللًا في الفهم، يجب أن نتداركه، إن كنا متدينين حقًّا، فالتدين فَهْمٌ للوضع الإلهي الذي هو النص المنزَّل، ثم ترجمةٌ لهذا الفهم بسلوك تعبُّديٍّ وأخلاقي وتعامُلي قويم.
فكما أن الذي يدعو مع الله إلهًا آخر، ما فهم الخطاب الديني الذي يقول: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]؛ لذا انحرف إلى الشِّرك، كذلك الذي ينحرف أخلاقيًّا، ما فهم الخطاب الدينيَّ الذي يقول)) :ما شيء أثْقَل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حَسَنٍ، وإن اللَّه لَيُبْغِضُ الفاحش البذيء)) [2]، ويقول أيضًا: ((أكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أَحسنُهم خُلُقًا)[3]
فكمال الإيمان بحُسن الخلق، وثقلُ الميزان بحسن الخلق، والله يبغض سيِّئ الخلق؛ الفاحش في أفعاله، البذيءَ في أقواله، وقد سُئِل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أكْثرِ ما يُدخل الناسَ الجنَّةَ، فقال(تَقْوى اللَّه، وحُسْنُ الخُلُقِ))، وسُئِلَ عن أكثر ما يُدخل الناس النارَ، فقال: ((الفَمُ والفَرْجُ))[4]؛ أي الكلام السيِّئ؛ كالكذب، والغيبة، والفعل السيِّئ؛ كالزنا، فهذا كله دين، وليس الصلاة والصوم والحج وحدها دينًا.
والتَّدين الذي لا ينعكس أثرًا في السُّلوك تديُّنٌ أجوف، فأندونيسيا لم يفتحها المحاربُون بسيوفهم؛ وإنما فتحها التُّجارُ المسلمون بأخلاقهم وأماناتهم، الذين لم يكونوا يبيعون بضائعهم بدينهم؛ لهذا أُعجبَ الناس بهم، وكذلك انتشر الإسلام في الهند وماليزيا بالتعاملات المستقيمة.
والتعامل مع الآخرين محكُّ التَّديُّنِ الصحيح، فإذا لم يلحظ الناسُ الفرقَ بين المتديِّنِ وغير المتديِّن في التجارة والحياة الزوجية والاجتماعية؛ فما فائدة التَّدينِ الشعائريِّ الفردي؟
وحقًّا مصيبةٌ أن تكون الصلوات تمرينات رياضية لتقوية العضلات والمفاصل، ولا يستفيد منها القلب، ومصيبةٌ ألا يكون لنا من صيامنا إلا الحلويات، ومتابعة المسلسلات، ومصيبةٌ ألا يكون لنا من حجِّنا إلا تَمْرُ المدينة، وماء زمزم، ومسبحة مصنوعة في الصِّين.
وربما يُشكل على بعض الناس هذا الفهم؛ فيقول: إن الإيمان بالله، وحسن الصلة به، والإخلاص له في العبادة - أفضلُ الأعمال، فهي الأثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة، فكيف يكون حسن الخلق أثقلَ؟! وهذا الإشكال لا يلبث أن ينحَلَّ إذا عرفنا أن الإيمان وعبادة الله الأثقل هي التي تكون بما توجِبه الأسسُ الأخلاقية، وتفرضه مكارم الأخلاق.
فتدينٌ يكتفي بالعبادة ويترك السلوك، يترك خللًا في الحياة، فلا يكفي أن نصلِّيَ ونصوم، بل لا بد من ترجمة لأثر الصلاة بحفظ الفرج، ورعاية الأمانة والعهد؛ لنكون الوارثين؛ لذا يُبيِّن الله أهل الفلاح بالإيمان فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 10]
فجمع المؤمن بين خشوع في محراب الصلاة، وإعراض عن الباطل والشتيمة، وتقديم يد العون من أجل تزكية النفس، وحفظ العِرض والنَّسب إلا فيما يحل، ورعاية الأمانة والعهد، والمحافظة على الصلاة في مواقيتها وعدم فعل ما يتعارض مع مقتضاها؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
نحن نعتزُّ بديننا شكلًا ومضمونًا، ولكن من العيب أن نتمسَّك بالشَّكلِ ونتركَ المضمون؛ فالدِّينُ الذي حوَّل رعاةَ الغنمِ إلى قادةٍ للأممِ لم يُغيِّر أشكالهم فقط؛ وإنَّما غيَّر مضامينهم؛ فأبو جهل كان يلبسُ عمامة مثل العمامة التي كان يلبسها أبو بكر؛ لأنها من عادات العرب، وما امتاز به أبو بكر رضي الله عنه هو المضمون وليس الشكل.
وكذلك لحية أُميَّة بن خلف كانتْ طويلة كلحية عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ لأن العرب معتادون على ذلك بلا تديُّن، والفرق بينهما في المضمون أولًا، وهذا لا يعني إلغاء الشكل؛ بل معناه بناء المضمون الذي يصقل الشكل، فالمظهر الإيمانيُّ الناتج عن جوهر التحقُّق بالعبودية الحقَّة هو المطلوب، أما المظهر الخالي من الجوهر، فربما يحمل إساءةً للدين باسم الدين، كالصائم الذي ليس له من صيامه سوى الجوع والعطش.
فالدين غير التدين، والدين الحق يريد منا أن نكون متدينين بالمفهوم الشامل للعبادة، والذي يعني إحسان الشعائر والأخلاق والمعاملات... فهي كل ما يحبه الله ويرضاه من اﻷقوال واﻷفعال الظاهرة والباطنة.
المصدر: بين الدين والتدين (تصحيح مفهوم)