- إنضم
- 19 ماي 2011
- المشاركات
- 7,671
- نقاط التفاعل
- 11,987
- النقاط
- 356
- محل الإقامة
- أرض الله الواسعة
- الجنس
- أنثى
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
صلة الرحم عبادة من أجل العبادات، ومن أعظم أسباب تنزل الرحمات، والفوز بالجنات، ورفعة الدرجات، وحصول البركة في الأعمار والأوقات، والزيادة في الأرزاق والخيرات، والذكر الحسن في الحياة وبعد الممات، مع ما يحصل لصاحبها من النصر والعزة، والمودة والمحبة، وامتلاء القلوب منه إجلالاً وهيبة.
يقول رب العزة ـ سبحانه ـ في وصف المؤمنين أولي الألباب: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد 20-21].
قال الطبري: " {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} [الرعد 21]، يقول تعالى ذكره: والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها فلا يقطعونها، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الرعد 21]، يقول: ويخافون الله في قطعها أن يقطعوها فيعاقبهم على قطعها وعلى خلافهم أمرَه فيها، وقوله: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد 21]، يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنب، فهم لرهبتهم ذلك جادون في طاعته، محافظون على حدوده ".
ثم بين ـ سبحانه وتعالى ـ جزاء المتصفين بذلك وحسن عاقبتهم، فقال: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ... } [الرعد 22-23].
فدل ذلك على أن صلة الرحم من أخص أوصاف المؤمنين، ومن أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار.
ويدل لذلك أيضًا: ما ثبت في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابيًا عرض لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال يا رسول الله أو يا محمد: أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نظر في أصحابه ثم قال: لقد وفق أو لقد هدي، قال كيف قلت؟ قال: فأعاد. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم " وفي رواية: " فلما أدبر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن تمسك به دخل الجنة".
ومما يدلك على عظم شأن صلة الرحم، وأنها من أجل القربات الموصلة إلى الجنة، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يدعو الناس إلى صلتها، ويبشر واصلها بالجنة، من أول يوم وطئت فيه أقدامه الشريفة مدينة طيبة، مهاجرًا إليها من مكة , فعن عبدالله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ قال: " لما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة انجفل الناس قِبَلَه، وقيل: قد قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: " يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام "
هذا جزاء واصل الرحم في الآخرة، أما في الدنيا، فإن صلته لرحمه سبب لصلة الله له، وبسط رزقه، وزيادة عمره، وبركة وقته، وصلاح دينه، وحسن ذكره، وحصول البركة في عقبه وذريته، وامتلاء القلوب بتقديره ومحبته، وحسن خاتمته، وتيسير أموره، وتفريج كرباته.
وهذا إجمال إليك بيانه فيما يلي:
أولاً: صلة الله له.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذلك لك. ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: اقرؤوا إن شئتم:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد 22-23].
قال ابن حجر: "قوله: "قامت الرحم فقالت"، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال، ويحتمل أن يكون بلسان القال. قولان مشهوران، والثاني أرجح.
وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي؟ أو يخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا؟ قولان أيضاً مشهوران، والأول أرجح، لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء.
قلت: وقد تقدم حمل عياض له على المجاز وأنه من باب ضرب المثل. وقوله أيضا: يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكاً يتكلم على لسان الرحم"
والعائذ: المستعيذ، وهو المعتصم بالشئ، الملتجئ إليه، المستجير به.
وقوله: "أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك " معناه: أن الجزاء من جنس العمل، فمن وصل رحمه وصله الله بإكرامه له، وإحسانه إليه، وتفضله عليه، وتقريبه منه، وتوسيع رزقه، وتيسير أموره، وتفريج كرباته. ومن قطعها قطعه الله، بحرمانه من ذلك.
قال النووي: "قال العلماء: وحقيقة الصلة: العطف والرحمة. فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه. أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى، وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته"
وقال ابن حجر: " قال القرطبي: وسواء قلنا: إنه ـ يعني القول المنسوب إلى الرحم ـ على سبيل المجاز، أو الحقيقة، أو أنه على جهة التقدير والتمثيل، كأن يكون المعنى: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا} الآية، وفي آخرها {وتلك الأمثال نضربها للناس} فمقصود هذا الكلام: الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول " .
ثانياً: بسط رزقه وإنساء أثره .
يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه.
ويقول ـ أيضًا ـ: " صلة الأرحام وحسن الجوار، وحسن الخلق تُعمر بها الديار وتزداد بها الأعمار "
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر "
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ينسأ له في أثره " معناه: يؤخر له في أجله، وسمي الأجل أثرًا لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أَثَر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.
وقد يشكل على هذا: أن الآجال مقدرة لا تزيد ولا تنقص، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف 34]، فكيف يزاد له في عمره؟
والجواب عن هذا من خمسة وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق للطاعة، والعصمة عن المعصية، والصيانة عن التفريط والإضاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الدنيا والآخرة، كأن يوفق لعلم نافع، أو جهاد مبارك، أو صدقة جارية، أو ذرية صالحة، أو غيرها من الفضائل والهبات التي يبقى له ذخرها، ويرتفع بها قدره عند الله تعالى وعند خلقه.
ونظير هذا ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر، هذه الليلة المباركة التي يحصل في ساعاتها القليلة من الأجور الجزيلة والخيرات الكثيرة، ما لا يحصل في ألف شهر سواها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر}ٍ [القدر 2-3].
والحاصل: أن الله تعالى يبارك في عمر واصل الرحم، ويعينه ويوفقه، ويهديه ويسدده، فيحصِّل من الخير والأجر، والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، ما لا يحصله صاحب القطيعة والعقوق، ولو كان عمره أضعاف عمر الواصل لرحمه.
فمن الناس من يعيش مائة سنة أو تزيد، ويكون حظه منها لا يزيد عن بضع سنوات. فليس طول العمر بكثرة الشهور والأعوام , ولكن بالبركة فيه، كما أن سعة الرزق ليست بكثرته، ولكن بحلول البركة فيه.
الوجه الثاني: أن الزيادة على حقيقتها، وأن ذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما التقدير الأول الذي دلت عليه الآية فهو بالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلاً: إن عمر فلان مائة إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق.
الوجه الثالث: أن الله يجعل له لسان صدق وثناء وحمد، فيرتفع ذكره ويشتهر فضله في حياته وبعد مماته، ولا يضمحل أثره بمجرد موته كما هو الحال في قاطع الرحم. والذكر للإنسان عمر ثاني، ولا يزال الإنسان معمرًا ما دام ذكره الحسن باقيًا.
وقد صدق القائل:
إن الحياة دقائق وثواني*** فالذكر للإنسان عمر ثاني
دقات قلب المرء قائلة لـه*** فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
وكم من أناس لا يزالون أحياء يذكرون بالخير، وآثارهم شاهدة على مكانتهم وفضلهم، وهم تحت أطباق الثرى من مئات السنين. بينما آخرون لا يزالون يعيشون على ظهر الأرض وهم في عداد الموتى، بسبب سقوط القدر وخمول الذكر. ولله در القائل:
رجل تقضى على يده للناس حاجاتُ*** وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ
وأفضل الناس من بين الورى*** قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
ولما أنشد أبو تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
توفيت الآمال بعد محمدٍ *** وأصبح في شغل عن السفر السَّفْرُ
قال له أبو دلف العجلي: إنه لم يمت من رُثي بهذا الشعر.
ومن هذا الباب دعاء إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء 84].
قال ابن القيم: " ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره، ويعلي قدره، ولهذا خص أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار}ِ [ص 45-46]، أي: خصصناهم بخصيصة، وهو الذكر الجميل الذي يذكرون به في هذه الدار، وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} ، وقال سبحانه وتعالى عنه وعن بنيه: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم 50]، وقال لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح 4]، فأتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم، وكل من خالفهم فإنه بعيد من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم ".
الوجه الرابع: أن يرزق بذرية صالحة يرفعون ذكره، ويدعون له من بعده.
الوجه الخامس: أن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في بدنه وعقله وماله وأهله.
ثالثاً: تفضيله ورفع منزلته.
عن درة بنت أبي لهب ـ رضي الله عنها ـ قالت: " قلت: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: أتقاهم لله عز وجل، وأوصلهم لرحمه، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر ".
رابعاً: إكرام الله له، ومدافعته عنه.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة بدء الوحي قالت: " فرجع بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال يا خديجة: ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ".
فقد استدلت ـ رضي الله عنها ـ على عدم إخزاء الله له وتخليه عنه، بما كان يقوم به من البر والإحسان والصلة، وعلى رأسها صلة الرحم، ولذلك بدأت بها وقدمتها في الذكر.
اعجبني فنقلته لكم
دمتم في رعاية الرحمان
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
صلة الرحم عبادة من أجل العبادات، ومن أعظم أسباب تنزل الرحمات، والفوز بالجنات، ورفعة الدرجات، وحصول البركة في الأعمار والأوقات، والزيادة في الأرزاق والخيرات، والذكر الحسن في الحياة وبعد الممات، مع ما يحصل لصاحبها من النصر والعزة، والمودة والمحبة، وامتلاء القلوب منه إجلالاً وهيبة.
يقول رب العزة ـ سبحانه ـ في وصف المؤمنين أولي الألباب: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد 20-21].
قال الطبري: " {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} [الرعد 21]، يقول تعالى ذكره: والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها فلا يقطعونها، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الرعد 21]، يقول: ويخافون الله في قطعها أن يقطعوها فيعاقبهم على قطعها وعلى خلافهم أمرَه فيها، وقوله: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد 21]، يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنب، فهم لرهبتهم ذلك جادون في طاعته، محافظون على حدوده ".
ثم بين ـ سبحانه وتعالى ـ جزاء المتصفين بذلك وحسن عاقبتهم، فقال: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ... } [الرعد 22-23].
فدل ذلك على أن صلة الرحم من أخص أوصاف المؤمنين، ومن أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار.
ويدل لذلك أيضًا: ما ثبت في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابيًا عرض لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال يا رسول الله أو يا محمد: أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نظر في أصحابه ثم قال: لقد وفق أو لقد هدي، قال كيف قلت؟ قال: فأعاد. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم " وفي رواية: " فلما أدبر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن تمسك به دخل الجنة".
ومما يدلك على عظم شأن صلة الرحم، وأنها من أجل القربات الموصلة إلى الجنة، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يدعو الناس إلى صلتها، ويبشر واصلها بالجنة، من أول يوم وطئت فيه أقدامه الشريفة مدينة طيبة، مهاجرًا إليها من مكة , فعن عبدالله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ قال: " لما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة انجفل الناس قِبَلَه، وقيل: قد قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: " يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام "
هذا جزاء واصل الرحم في الآخرة، أما في الدنيا، فإن صلته لرحمه سبب لصلة الله له، وبسط رزقه، وزيادة عمره، وبركة وقته، وصلاح دينه، وحسن ذكره، وحصول البركة في عقبه وذريته، وامتلاء القلوب بتقديره ومحبته، وحسن خاتمته، وتيسير أموره، وتفريج كرباته.
وهذا إجمال إليك بيانه فيما يلي:
أولاً: صلة الله له.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذلك لك. ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: اقرؤوا إن شئتم:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد 22-23].
قال ابن حجر: "قوله: "قامت الرحم فقالت"، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال، ويحتمل أن يكون بلسان القال. قولان مشهوران، والثاني أرجح.
وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي؟ أو يخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا؟ قولان أيضاً مشهوران، والأول أرجح، لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء.
قلت: وقد تقدم حمل عياض له على المجاز وأنه من باب ضرب المثل. وقوله أيضا: يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكاً يتكلم على لسان الرحم"
والعائذ: المستعيذ، وهو المعتصم بالشئ، الملتجئ إليه، المستجير به.
وقوله: "أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك " معناه: أن الجزاء من جنس العمل، فمن وصل رحمه وصله الله بإكرامه له، وإحسانه إليه، وتفضله عليه، وتقريبه منه، وتوسيع رزقه، وتيسير أموره، وتفريج كرباته. ومن قطعها قطعه الله، بحرمانه من ذلك.
قال النووي: "قال العلماء: وحقيقة الصلة: العطف والرحمة. فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه. أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى، وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته"
وقال ابن حجر: " قال القرطبي: وسواء قلنا: إنه ـ يعني القول المنسوب إلى الرحم ـ على سبيل المجاز، أو الحقيقة، أو أنه على جهة التقدير والتمثيل، كأن يكون المعنى: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا} الآية، وفي آخرها {وتلك الأمثال نضربها للناس} فمقصود هذا الكلام: الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول " .
ثانياً: بسط رزقه وإنساء أثره .
يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه.
ويقول ـ أيضًا ـ: " صلة الأرحام وحسن الجوار، وحسن الخلق تُعمر بها الديار وتزداد بها الأعمار "
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر "
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ينسأ له في أثره " معناه: يؤخر له في أجله، وسمي الأجل أثرًا لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أَثَر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.
وقد يشكل على هذا: أن الآجال مقدرة لا تزيد ولا تنقص، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف 34]، فكيف يزاد له في عمره؟
والجواب عن هذا من خمسة وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق للطاعة، والعصمة عن المعصية، والصيانة عن التفريط والإضاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الدنيا والآخرة، كأن يوفق لعلم نافع، أو جهاد مبارك، أو صدقة جارية، أو ذرية صالحة، أو غيرها من الفضائل والهبات التي يبقى له ذخرها، ويرتفع بها قدره عند الله تعالى وعند خلقه.
ونظير هذا ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر، هذه الليلة المباركة التي يحصل في ساعاتها القليلة من الأجور الجزيلة والخيرات الكثيرة، ما لا يحصل في ألف شهر سواها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر}ٍ [القدر 2-3].
والحاصل: أن الله تعالى يبارك في عمر واصل الرحم، ويعينه ويوفقه، ويهديه ويسدده، فيحصِّل من الخير والأجر، والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، ما لا يحصله صاحب القطيعة والعقوق، ولو كان عمره أضعاف عمر الواصل لرحمه.
فمن الناس من يعيش مائة سنة أو تزيد، ويكون حظه منها لا يزيد عن بضع سنوات. فليس طول العمر بكثرة الشهور والأعوام , ولكن بالبركة فيه، كما أن سعة الرزق ليست بكثرته، ولكن بحلول البركة فيه.
الوجه الثاني: أن الزيادة على حقيقتها، وأن ذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما التقدير الأول الذي دلت عليه الآية فهو بالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلاً: إن عمر فلان مائة إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق.
الوجه الثالث: أن الله يجعل له لسان صدق وثناء وحمد، فيرتفع ذكره ويشتهر فضله في حياته وبعد مماته، ولا يضمحل أثره بمجرد موته كما هو الحال في قاطع الرحم. والذكر للإنسان عمر ثاني، ولا يزال الإنسان معمرًا ما دام ذكره الحسن باقيًا.
وقد صدق القائل:
إن الحياة دقائق وثواني*** فالذكر للإنسان عمر ثاني
دقات قلب المرء قائلة لـه*** فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
وكم من أناس لا يزالون أحياء يذكرون بالخير، وآثارهم شاهدة على مكانتهم وفضلهم، وهم تحت أطباق الثرى من مئات السنين. بينما آخرون لا يزالون يعيشون على ظهر الأرض وهم في عداد الموتى، بسبب سقوط القدر وخمول الذكر. ولله در القائل:
رجل تقضى على يده للناس حاجاتُ*** وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ
وأفضل الناس من بين الورى*** قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
ولما أنشد أبو تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
توفيت الآمال بعد محمدٍ *** وأصبح في شغل عن السفر السَّفْرُ
قال له أبو دلف العجلي: إنه لم يمت من رُثي بهذا الشعر.
ومن هذا الباب دعاء إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء 84].
قال ابن القيم: " ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره، ويعلي قدره، ولهذا خص أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار}ِ [ص 45-46]، أي: خصصناهم بخصيصة، وهو الذكر الجميل الذي يذكرون به في هذه الدار، وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} ، وقال سبحانه وتعالى عنه وعن بنيه: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم 50]، وقال لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح 4]، فأتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم، وكل من خالفهم فإنه بعيد من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم ".
الوجه الرابع: أن يرزق بذرية صالحة يرفعون ذكره، ويدعون له من بعده.
الوجه الخامس: أن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في بدنه وعقله وماله وأهله.
ثالثاً: تفضيله ورفع منزلته.
عن درة بنت أبي لهب ـ رضي الله عنها ـ قالت: " قلت: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: أتقاهم لله عز وجل، وأوصلهم لرحمه، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر ".
رابعاً: إكرام الله له، ومدافعته عنه.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة بدء الوحي قالت: " فرجع بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال يا خديجة: ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ".
فقد استدلت ـ رضي الله عنها ـ على عدم إخزاء الله له وتخليه عنه، بما كان يقوم به من البر والإحسان والصلة، وعلى رأسها صلة الرحم، ولذلك بدأت بها وقدمتها في الذكر.
اعجبني فنقلته لكم
دمتم في رعاية الرحمان