جذوع الشجر تحصي آثار البشر
آثار البشر تبدو في حلقات نمو جذوع الشجر (رويترز)
أحمد الديب
يمارس الإنسان اجتثاث الأشجار بانتظام منذ آلاف السنين، وهكذا عرف مبكرا جدا كيف يبدو جذع الشجرة من الداخل، ورأى هذه الدوائر المتداخلة في باطنه في نظام بديع، ثم أدرك بعدها أن هذه الدوائر تشير إلى أعمار الأشجار، فسمَّاها "حلقات النمو". لكننا عرفنا مؤخرا أن أسرارا أكبر كانت تدور في خفاء طوال الوقت، خلال تلك الدوائر.
ليس فقط أعمار الشجر
فقد نشر فريق بحثي دولي -من المعهد القومي لبحوث الأمازون بالبرازيل ومعهد ماكس بلانك بألمانيا- دراسة في دورية "بلوس ون" استخدموا فيه تقنيات علم تحديد أعمار الأشجار (Dendrochronology) مع أساليب الاستقصاء التاريخي للخروج بصورة ترسم لنا بعض آثار المجتمعات البشرية على الحياة النباتية العتيقة لأشجار الغابات، من خلال استنطاق حلقات نمو أشجار الجوز البرازيلي.
وجمع الباحثون عينات من 67 شجرة جوز، لم يقطعوها بالطبع وإنما استخدموا تقنيات غير إتلافية للحصول على أصغر عينات ممكنة تضم حلقات جذع الشجرة كلها من اللحاء إلى القلب. أشجار الجوز البرازيلي مُعمِّرة وقد تتجاوز أعمار بعضها أربعمئة سنة، ولهذا تُعتبر هذه الدراسة الأولى من نوعها التي تكشف عن آثار التدجين البشري للغابات قبل اجتياح الاستعمار الأوروبي لغابات الأمازون.
المزرعة الأمازونية
ولطالما استدعَت كلمة "الأمازون" إلى الذهن -على الأقل قبل ظهور موقع التسوق الأشهر- صورة الطبيعة البِكر التي لم يطمثها العبث البشري، لكن الدراسات البيئية والنباتية والأحفورية والأثرية تواترَت مؤخرًا لتُكذِّب هذا التوهم، وتؤكد وجود دلائل عديدة وصلبة على أن الإنسان قد مارس بتوسع تدجين واستزراع الأشجار -ما يُعرف اليوم بالتحريج أو إدارة الغابات- منذ عصور ما قبل كولومبوس.
لكن نشاط "إدارة الغابات" (وتأمل سخرية المصطلح) اختلف جذريا بالطبع بعد اجتياح الاستعمار الأوروبي للقارة، بمجتمعاته الصناعية "الحديثة" التي سعت لتحويل غابات الأمازون المهيبة الساحرة إلى مزارع تُهيمِن عليها أشجارٌ ذات أهمية اقتصادية أكبر من غيرها، فغيرت طبيعتها حتى اليوم بما يفوق التصور. مِن ثم كان ضروريا فهم ما جرى هناك، وشهدت عليه الأشجار التي لا يزال بعضها واقفًا إلى الآن، وذلك لإدراك حقائق علاقة الغابة بالبشر، ولتدارُك ما تبقَّى منها.
يقول د. فيكتور كايتانو أندرادي الباحث بمعهد ماكس بلانك والمؤلف الرئيس بالدراسة "ما توصَّلنا إليه يخبرنا بأن حلقات نمو شجر الجوز البرازيلي بمثابة مرايا تعكس تطوُّر التدجين البشري للغابات. وهي خطوة جادة نحو فهم التاريخ المتشابك والمعقد لغابات الأمازون مع البشر، والتنبؤ بمستقبل تلك العلاقة المشتركة".
حديث الدوائر
صار التقدم الذي تشهده علوم دراسة الشجر قادرا على إخبارنا بالمزيد عن تفاصيل حياة الأشجار، ومواسم ازدهارها وانتكاسها، وما تشهده بيئاتها من طفرات نوعية. كل هذا وأكثر تنطق به حلقات النمو التي يحاول العلماء كل يوم اكتساب المزيد من مفردات لغاتها.
وقد أخبرتنا حلقات نمو أشجار الجوز البرازيلي عن فترة تراجع ملحوظ في نموها، تزامَنَت - حسبما استنتج الاستقصاء التاريخي- مع الانحسار المتزايد الذي عانى منه شَعب "المورا" مع بداية القرن 18 بعد توالي موجات "الفتوحات" الأوروبية على أميركا الجنوبية. لكن هذا التراجُع ما لبث أن ارتدَّ فورةً في النمو ووفرةً في الإنتاج مع استتباب "الحضارة" الجديدة الصناعية في القرن 19.
يقول د. أندرادي في تصريح خاص للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني "ما تقوله البيانات حتى الآن أن الامتداد العمراني البشري في حوض الأمازون ارتبطَ دائمًا بزيادة واضحة في نمو أشجار الجوز البرازيلي، وأن هناك تغيُّرات جذرية شهدتها الحياة النباتية في المنطقة فترة ما بعد الاستعمار، حينما تضاعَفَت -بصورة مفاجئة ومُلِحَّة- الأهمية الاقتصادية للمَطَّاط والجوز مع ضغط طلب السوق العالمي".
ويضيف "لكن دراستنا ليست إلا بداية لسلسلة مأمولة من دراسات تخصصية أخرى ننتظر منها أن تسمح لنا بسماع المزيد من شهادات الأشجار على ما دار في تاريخ هذه المنطقة الغامضة من العالم".
المصدر : الجزيرة
أحمد الديب
يمارس الإنسان اجتثاث الأشجار بانتظام منذ آلاف السنين، وهكذا عرف مبكرا جدا كيف يبدو جذع الشجرة من الداخل، ورأى هذه الدوائر المتداخلة في باطنه في نظام بديع، ثم أدرك بعدها أن هذه الدوائر تشير إلى أعمار الأشجار، فسمَّاها "حلقات النمو". لكننا عرفنا مؤخرا أن أسرارا أكبر كانت تدور في خفاء طوال الوقت، خلال تلك الدوائر.
ليس فقط أعمار الشجر
فقد نشر فريق بحثي دولي -من المعهد القومي لبحوث الأمازون بالبرازيل ومعهد ماكس بلانك بألمانيا- دراسة في دورية "بلوس ون" استخدموا فيه تقنيات علم تحديد أعمار الأشجار (Dendrochronology) مع أساليب الاستقصاء التاريخي للخروج بصورة ترسم لنا بعض آثار المجتمعات البشرية على الحياة النباتية العتيقة لأشجار الغابات، من خلال استنطاق حلقات نمو أشجار الجوز البرازيلي.
وجمع الباحثون عينات من 67 شجرة جوز، لم يقطعوها بالطبع وإنما استخدموا تقنيات غير إتلافية للحصول على أصغر عينات ممكنة تضم حلقات جذع الشجرة كلها من اللحاء إلى القلب. أشجار الجوز البرازيلي مُعمِّرة وقد تتجاوز أعمار بعضها أربعمئة سنة، ولهذا تُعتبر هذه الدراسة الأولى من نوعها التي تكشف عن آثار التدجين البشري للغابات قبل اجتياح الاستعمار الأوروبي لغابات الأمازون.
المزرعة الأمازونية
ولطالما استدعَت كلمة "الأمازون" إلى الذهن -على الأقل قبل ظهور موقع التسوق الأشهر- صورة الطبيعة البِكر التي لم يطمثها العبث البشري، لكن الدراسات البيئية والنباتية والأحفورية والأثرية تواترَت مؤخرًا لتُكذِّب هذا التوهم، وتؤكد وجود دلائل عديدة وصلبة على أن الإنسان قد مارس بتوسع تدجين واستزراع الأشجار -ما يُعرف اليوم بالتحريج أو إدارة الغابات- منذ عصور ما قبل كولومبوس.
لكن نشاط "إدارة الغابات" (وتأمل سخرية المصطلح) اختلف جذريا بالطبع بعد اجتياح الاستعمار الأوروبي للقارة، بمجتمعاته الصناعية "الحديثة" التي سعت لتحويل غابات الأمازون المهيبة الساحرة إلى مزارع تُهيمِن عليها أشجارٌ ذات أهمية اقتصادية أكبر من غيرها، فغيرت طبيعتها حتى اليوم بما يفوق التصور. مِن ثم كان ضروريا فهم ما جرى هناك، وشهدت عليه الأشجار التي لا يزال بعضها واقفًا إلى الآن، وذلك لإدراك حقائق علاقة الغابة بالبشر، ولتدارُك ما تبقَّى منها.
يقول د. فيكتور كايتانو أندرادي الباحث بمعهد ماكس بلانك والمؤلف الرئيس بالدراسة "ما توصَّلنا إليه يخبرنا بأن حلقات نمو شجر الجوز البرازيلي بمثابة مرايا تعكس تطوُّر التدجين البشري للغابات. وهي خطوة جادة نحو فهم التاريخ المتشابك والمعقد لغابات الأمازون مع البشر، والتنبؤ بمستقبل تلك العلاقة المشتركة".
حلقات النمو بالأشجار تنطق بالكثير من المعلومات ويحاول العلماء كل يوم اكتساب المزيد من مفردات لغاتها (رويترز) |
صار التقدم الذي تشهده علوم دراسة الشجر قادرا على إخبارنا بالمزيد عن تفاصيل حياة الأشجار، ومواسم ازدهارها وانتكاسها، وما تشهده بيئاتها من طفرات نوعية. كل هذا وأكثر تنطق به حلقات النمو التي يحاول العلماء كل يوم اكتساب المزيد من مفردات لغاتها.
وقد أخبرتنا حلقات نمو أشجار الجوز البرازيلي عن فترة تراجع ملحوظ في نموها، تزامَنَت - حسبما استنتج الاستقصاء التاريخي- مع الانحسار المتزايد الذي عانى منه شَعب "المورا" مع بداية القرن 18 بعد توالي موجات "الفتوحات" الأوروبية على أميركا الجنوبية. لكن هذا التراجُع ما لبث أن ارتدَّ فورةً في النمو ووفرةً في الإنتاج مع استتباب "الحضارة" الجديدة الصناعية في القرن 19.
يقول د. أندرادي في تصريح خاص للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني "ما تقوله البيانات حتى الآن أن الامتداد العمراني البشري في حوض الأمازون ارتبطَ دائمًا بزيادة واضحة في نمو أشجار الجوز البرازيلي، وأن هناك تغيُّرات جذرية شهدتها الحياة النباتية في المنطقة فترة ما بعد الاستعمار، حينما تضاعَفَت -بصورة مفاجئة ومُلِحَّة- الأهمية الاقتصادية للمَطَّاط والجوز مع ضغط طلب السوق العالمي".
ويضيف "لكن دراستنا ليست إلا بداية لسلسلة مأمولة من دراسات تخصصية أخرى ننتظر منها أن تسمح لنا بسماع المزيد من شهادات الأشجار على ما دار في تاريخ هذه المنطقة الغامضة من العالم".
المصدر : الجزيرة