المراسل2000
:: عضو منتسِب ::
من قتل رجلاً من الكفار بعد أن قال لاإله إلا الله
محمد محمود النجدي
عن المقداد بن الأسود أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فقاتلني ، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة فقال : أسلمتُ لله ، أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقتله )) ، قال : فقلت : يارسول الله إنه قد قطع يدي ، ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) .
أما الأوزاعي وابن جريج ففي حديثهما : (( قال : أسلمت )) وأما معمر ففي حديثه : (( فلما أهويت لأقتله قال : لاإله إلا الله )) .
الشرح :
ذكر المنذري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
أولها :
( عن المقداد بن الأسود ) المقداد بن الأسود هو المقداد بن عمرو ، والأسود كان قد تبنَّاه في الجاهلية ، أما أبوه الحقيقي : فاسمه عمرو . وهو صحابي مشهور ، شهد بدراً فارساً ، ولم يثبت أنه ممن شهدها فارساً غيره ، توفي سنة ثلاث وثلاثين .
قوله (( يارسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار … )) فيه السؤال عن شيءٍ لم يحدث بعد ، لكن لما كان هذا الأمر متوقعاً ، ويمكن حدوثه للمجاهدين ، لم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام على المقداد هذا السؤال ، وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يُنكر المسائل التي لم تَحْدُث ، المسائل المستبعدة أو القبيحة (1) .
قوله : (( فقاتلني فضرب إحدى … أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها ؟ ) هذا غاية التصوير لضرر هذا المشرك ، الذي ضرب إحدى يدي المقاتل المسلم ، ثم فرَّ بعد أن انقطعت حيلته ، فلما رأى أنه مأخوذ قال : (( لاإله إلا الله )) .
قوله : (( … فإنْ قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أنْ يقولَ كلمته التي قال )) قال الشافعي وابن القصار (1) ـ وقيل إن هذا من أحسن الأجوبة ـ أن معنى ( فإنه بمنزلتك ) يعني : معصوم الدم بهذه الكلمة ، وهي كلمة : (( لاإله إلا الله )) وقد مرَّ معنا في الباب السابق ، الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم (( أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله )) .
قوله : (( وإنك بمنزلته قبل أنْ يقولَ كلمته التي قال )) يعني : أنت تكون غير معصوم الدم ، بل يحق عليك القصاص ، وقال القاضي : إن معنى هذه الكلمة (( وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) يعني : في عدم تحريم الإثم والمعاصي ، لأن المشرك لا يحرم الآثام ، ولا المعاصي والذنوب ، بل يستبيحها ، لاسيما القتل ، فإن استباحة القتل من أخلاق الكفار ، فيكون المعنى : (( فإن قتلته فإنه بمنزلتك )) يعني : في تحريم الآثام والمعاصي (( وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) . يعني : أنك لا تحرم الأثام والمعاصي .
الحديث السابع :
وهو الثاني في الباب :
7 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحُرُقات من جهينة ، فأدركتُ رجلاً فقال : لاإله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( قال : لاإله إلا الله ، وقتلته ))؟! قال : قلت : يارسول الله ، إنما قالها خوفاً من السلاح ! قال : (( أفلا شققت عن قلبه ، حتى تعلم أقاله أم لا )) ؟! فما زال يكررها علي ، حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذ ، قال فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البُطين يعني : أسامة ، قال : قال رجل : ألم يقل الله تعالى : (( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكونَ الدينُ كله لله )) ؟ فقال سعد : قد قاتلنا حتى لاتكون فتنة ، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة !
الشرح :
أسامة بن زيد هو ابن حارثة الكلبي ، الصحابي الشهير الأمير ، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبّه ، وأمه : أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم ، استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على جيش لغزو الروم فلم ينفذ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه أبو بكر إلى الشام ، مات بالمدينة سنة 54 هـ .
وفي حديث أسامة بن زيد أيضاً تأكيد لحديث المقداد بن الأسود ، وهي واقعة وقعت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، وذلك أنّ الصحابة بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام في سرية
قوله : (( فصبحنا الحرقات من جهينة )) صبحناهم يعني : أَغَرْنا عليهم عند الصبح ، وهذا وقت غفلة ومباغتة ، ومن أسباب النصر أن يُباغَت العدو .
قوله (( فأدركت رجلاً … فوقع في نفسي من ذلك … )) يعني : بعد أن قال كلمة لا إله إلا الله ، طَعَنه أسامة رضي الله عنه، والرجل من المشركين ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثهم لغزوهم ، فَحَاكَ في نفس أسامة بن زيد هذا الذنب ، فذكره للرسول عليه الصلاة والسلام . وفي رواية صفوان بن محرز : أنّ البشير هو الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بالذي حصل ، والجمع بينهما : أنَّ البشير قد سبق أسامة بالخبر ، ثم إنَّ أسامة حدث النبي عليه الصلاة والسلام فسمع منه مباشرة .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا شَقَقتَ عن قلبه ، حتى تعلم أقالها أم لا )) ؟! يعني : أقالها مختاراً لها ، مريداً قاصداً لها ، أم أنه قالها خوفاً من السلاح ؟! وهذا يؤخذ منه قاعدة أصولية عظيمة ، ألا وهى : (( أن الناس يؤخذون بالظواهر ، وأما السرائر فنكلها إلى الله عز وجل )) وهذا الذي سار عليه الخلفاء الراشدون ، فعمر رضي الله عنه يخطب في الناس ويقول : (( إن أناساً كانوا يُؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، و اليوم لاندري فمن أظهر لنا خيراً قرَّبناه وأعطيناه وأكرمناه ، ومن أظهر لنا غير ذلك أخذناه به ، وإن قال إن سريرته حسنة (1) اوكما جاء عنه ، فعمر رضي الله عنه كان يعامل الناس بالظواهر ، وأما السرائر فلا يعلمها إلا الله ، إذْ لا يطلع على مافي القلوب إلا علام الغيوب . ولهذا أنكر عليه الصلاة والسلام قتله بعد أنْ قال : لاإله إلا الله .
قوله : (( فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ … ) وذلك لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، فتمنى أسامة أنه لم يكن قد أسلم قَبلُ ، كي يكون من المسلمين الجُدد الذين لم يُكتب عليهم ذنب .
وفي الحديث : أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقتص من أسامة ، والذي دفع القصاص عنه هو (( التأويل )) . وقال في الحديث الأول للمقداد ( وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) يعني : غير معصوم الدم .
أما (( الكفارة )) فلا دليل على سقوطها عن أسامة ، ولا ((الدية)) ، فإنْ قيل: لِمَ لَمْ يذكرها النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ؟ قلنا : أما الكفارة فلأنها تجب على التراخي ، وماكان على التراخي ففي قول كثير من الأصوليين : يجوز تأخير بيانه ، لأنه (( يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة )) . وأما الدية : فلعل أسامة كان مُعسراً في ذلك الوقت ، فلذلك لم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرجها في الحال ، نقول هذا ، لأنَّ الرجل له حكم الإسلام ، فإنه قال : لاإله إلا الله ، ثم قتله أسامة ، فتجب فيه دية المسلم لا دية الكافر أو المعاهد .
قوله : (( … فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين … )) هذا قاله سعد بن أبي وقاص بعد أن حصلت هذه الحادثة لأسامة ، فإنَّ أسامة كان بعد ذلك شديد التحرز عن الدماء ، فكان سعد يقول : أنا لا أقتل مسلماً ، حتى أرى أسامة يستبيح دمه ، لأن أسامة حصلت له هذه الواقعة ، فكان شديد التحرز بعد ذلك عن قتل معصوم الدم .
قوله (ذو البطين ) هو وصف لأسامة ، لعله كان ذو بطن أو كرش فوصفه بذلك
قوله (( قال : قال رجل : ألم يقل الله تعالى … )) وهذا في أيام الحرب بين معاوية وعلي ، والفتن التي حصلت في ذلك العصر (( فقال سعد : قد قاتلنا حتى لاتكون الفتنة … )) الفتنة في هذه الآية فسرها بعض المفسرين : بالشرك ، فيكون معنى الآية : وقاتلوهم حتى لا يكون في الأرض شرك ، لأن الشرك أعظم جريمة على وجه الأرض ، فأمر الله عز وجل أن يقاتل الناس حتى لا يكون شرك على وجه الأرض . وقال آخرون : الفتنة هي قدرة الكفار على فتنة المسلمين عن دينهم ، فمعنى الآية : فقاتلوهم حتى لا يكون للكفار قُوة ، ولادولة ولاصَوْلة ، يصدون بها الناس عن الإسلام .
وهذا أيضاً معنى حسن ، موافق للمعنى الأول تقريبا .
قوله (( ويكون الدين كله لله )) يعني : أن يكون الإسلام هو الحاكم في الأرض ، وله الكلمة والأمر والنهي .
قوله ( قد قاتلنا ) يعني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله ( وأنت وصحابك ) يريد : الذين يدخلون في الفتن ، ويشاركون في القتال ، فقال : أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، وهذا يدل على أنه : لم يمدح القتال الذي حصل في الفتنة ، وهذا من الأدلة على أن سعداً كان معتزلاً لما حصل بين الصحابة ، وهناك كثير من أكابر الصحابة اعتزلوا القتال ، كابن عمر وأبي بكرة نفيع بن الحارث وأبي سعيد الخدري وأبي ذر وغيرهم ممن اعتزل الفتنة ولم يدخل في القتال ، وترك كلا الطرفين ولم يشارك .
الحديث الثامن :
وهو الثالث في الباب والأخير :
8 - عن صفوان بن مُحرز : (( أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير فقال : اجمع لي نفراً من إخوانك حتى أحدثهم ، فبعث رسولاً إليهم ، فلما اجتمعوا جاء جنُدب وعليه بُرنُس أصفر فقال : تحدثوا بما كنتم تحدثون به ، حتى دار الحديث فلما دار الحديث إليه حسر البرنُس عن رأسه فقال : إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم إلا عن نبيكم صلى الله عليه وسلم . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين ، وإنهم التقوا ، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله ، وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته ، قال : وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد ، فلما رفع عليه السيف ، قال : لاإله إلا الله ، فقتله ، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره الرجل كيف صنع ، فدعاه فسأله فقال : (( لم قتلته ؟ ))
فقال : يارسول الله أوجع في المسلمين فقتل فلاناً وفلاناً ، وسمى له نفراً ، وإني حملتُ عليه ، فلما رأى السيف قال : لاإله إلا الله ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( أقتلته ؟ )) قال : نعم ، قال : (( فكيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! )) قال : يارسول الله استغفر لي ، قال : (( فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! )) قال : فجعل لا يزيده على أن يقول : ((فكيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ )) .
الشرح :
جندب بن عبد الله البجلي يكنى أبا عبد الله ، له صحبة وربما نُسب إلى جده سفيان ، وقال خليفة : مات في فتنة ابن الزبير ، مات بعد الستين ، روى له الستة .
ومن الفوائد في هذا الحديث غير ماتقدم : أنه يستحب للرجل العظيم الكبير الشريف الرئيس في قومه ، أنْ ينصح قومه إذا رأى فيهم خطأ ، أو رأى فيهم إرادة للشَّر ، لأن جُندباً بعثَ إلى رجل يقال له : عسعس بن سلامة ، زمن فتنة بن الزبير (( أي : زمن القتال الذي حصل بين ابن الزبير وبين الأمويين )) . ليجمع له الناس لنصيحتهم .
قوله (( حتى أُحدثهم .. )) أراد أنْ يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .
قوله (( البُرنس )) هو الثوب الذي يلتصق به غطاء الرأس ، كالدراعة أو الجبة أو غير ذلك .
قوله (( فكيف تصنع بلا إله إلا الله .. )) يعني : ما عذرك في استباحة دم هذا الرجل ، وقد قال : لاإله إلا الله ؟ وكيف تدفع هذه الكلمة إذا جاءت في ميزانه ، وفي صحيفته يوم القيامة ، وقد أسلم ؟
فجندب بن عبد الله البجلى حدث بهذا الحديث زمن فتنة ابن الزبير ، ليخوف الناس من استباحة دم المسلم ، لأنَّ القتال حاصل بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان ، وكلا الطرفين من أهل : لاإله إلا الله ، فأراد أنْ يعظهم ويخوّفهم بهذا الحديث ، الذي حفظه عن أسامة ، أو حضره على عهد النبي عليه الصلاة والسلام .
باب : من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاكً فيه دخل الجنة
الحديث التاسع :
9 ـ عن عثمانَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : (( من مات وهو يعلم أنه لاإله إلا الله ، دخل الجنة ))
الشرح :
ذكر المنذري تحت هذا الباب ستة أحاديث :
الأول :
هذا الحديث وفيه أولاً: فضل الشهادة ، وأنها كلمة الإسلام العظيمة ، وكلمة التوحيد التي يدخل بها العباد إلى دين الإسلام .وأن هذه الكلمة هي أول واجب على العبيد ، لا النظر ولا القصد إلى النظر ، كما قال المتكلمة ، بل أول واجب يجب على العبيد ، هو : قول لاإله إلا الله . وهذة الكلمة من فضلها أنها تكفر عن صاحبها السيئات ، فيغفر الله سبحانه وتعالى لأهل التوحيد ، مالا يغفره لغيرهم .
وليست هذه الكلمة حجة للمرجئة الذين قالوا : إن الإيمان هو التصديق والإقرار باللسان فقط !! ، خلافاً لأهل السنة القائلين : إن الإيمان تصديق بالجنان ، وقول باللسان ، وعمل بالأركان ، فهذا الحديث ليس حجة لهم ، لأن المرجئة قالوا : إن هذا الحديث يدل على أن الإقرار بالشهادتين يكفي لدخول العبد الجنة ، وأن المعاصي لاتضرُّ مع الإيمان ! وهذا قول فاسد ، لأن مقتضى هذا القول : إلغاء النصوص الكثيرة التي تبين ضرر الذنوب والسيئات ، كقوله تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سؤا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) النساء :123 ، وقوله ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) آل عمران :182 ، وقوله ( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) المائدة : 49 ، وغيرها كثير جدا .
ثانيا : الإعراض عن الأدلة الصريحة التي تبين أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، كقول الله عز وجل (( إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . الذين يُقيمون الصلاةَ ومما رزقناهم ينفقون .أولئك هم المؤمنون حقا )) [ سورة الأنفال : 2 ـ 4 ] . فجعل لأهل الإيمان أعمالاً ، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، وقوله تعالى (( وماكان الله ليضيع إيمانكم )) والمقصود بالإيمان ههنا : الصلاة ، كما هو المشهور عند المفسرين ، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( الإيمانُ بضع وستون شعبة ، أعلاها : قول لاإله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان )).
ولا يجوز بعد هذا أن يقال إن الأعمال ليست من الإيمان ، لأن هذا يفضي إلى رد النصوص من القرآن والسنة . والواجب على المسلم أن يجمع بين النصوص ، وأن يتلقاها جميعاً بالقبول ، فلا يأخذ منها شيئاً ويترك شيئاً ، فإن هذة عادة أهل الأهواء ، وهي صفة لازمة لهم ، فما من فرقةٍ من فرق أهل الأهواء ، إلا وتجدها قد أخذت شيئاً وتركت أشياء ، إلا أهل السنة كما قال عبدا لرحمن بن مهدي : (( مامن طائفة أو فرقة إلا وتذكر الذي لها ، ولاتذكر الذي عليها ، إلا أهل السنة فإنهم يذكرون الذي لهم والذي عليهم )) . وهذا من إنصافهم رحمهم الله أنهم يذكرون جميع ما ورد في المسألة من النصوص ، ثم يوفقون ويجمعون بينها .
وهكذا هذا الحديث لو أخذناه وتركنا ما جاء في الكتاب والسنة ، لأهملنا كثيراً من دلالات النصوص ، فلابد أن يجمع بينه وبين بقية النصوص ليكون الفهمُ صحيحاً تاماً .
فهذا الحديث : قال أهل السنة له عدة محامل ، منها :
أن قوله : (( من مات وهو يعلم أنه لاإله إلا الله دخل الجنة )) قالوا : إما أن يكون هذا قبل أن تنزل الفرائض ، والرسول عليه الصلاة والسلام كان في مكة ، فيقول للناس (( قولوا لاإله إلا الله تفلحوا )) فهذه دعوته عليه الصلاة والسلام في مكة ، فلم يحرم عليهم الزنا ، ولم يحرم عليهم الخمر ، ولم يحرم عليهم الربا ، بل ما نزل تحريم هذه المحرمات ولا تمت الفرائض ، إلا في المدينة ، بعد أن استقر الإيمان في قلوب الناس ، وانقادوا لله سبحانه ، أما قبل ذلك فلم تكن هذه الفرائض .
وهناك وجه آخر : وهو أنَّ قوله (( مَنْ ماتَ وهو يعلم أنه لاإله إلا الله دخل الجنة )) أن هذا فيمن لم يقدر على غير النطق بالشهادتين ، أي : لم يقدر على غير كلمة التوحيد ، إما أنه قالها ومات ، أو أنه لم يبلغه من الإسلام إلا هذه الكلمة فآمن بها ، كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يَدْرُسُ الإسلام ( أي ينمحي ) كما يَدْرس وشي الثوب ، حتى لا يعلم صلاة ولا صدقة ولا صيام ، ويبقى طوائف من الناس يقولون : أدركنا آباءنا يقولون : لاإله إلا الله ، فنحن نقول هذه الكلمة )) فقال له جليسة : فما تنفعهم هذه الكلمة ؟ قال : بلى تنفعهم ، بلى تنفعهم (1) )) .
فيكون هذا الحديث ، كحديث الرجل المقنع الحديد الذي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : يارسول الله ، أُسلم أو أقاتل ؟ : أَسْلِم ثم قاتل رواه مسلم فهذا الرجل جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : هل أدخل المعركة ثم أُسلم ، أم أسلم ثم أقاتل ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : بل أسلم ثم قاتل .
أي : لأنك إنْ قُتلت على غير الإسلام ، متَّ كافراً ، ولا ينفعك نصرك للإسلام بغير إسلام (1) ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، كما ثبت في الصحيحين ، وهذا من آيات الله :إنه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر الذي لا إيمان له .
فأسلم الرجل ثم قاتل فقُتل ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( عَمِلَ قليلاً ، وأُجر كثيراً )) أي أنه لا صلى ولاصام ولا أدى غير الجهاد في سبيل الله .
وله محمل ثالث : وهو أن هذا الحديث فيمن كان من أهل المعاصي وهو موحَّد ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سيغفر له ، كما في حديث البطاقة (( أن رجلاً يأتي يوم القيامة بسجلاتٍ من الذنوب مد البصر ، ويجاء له ببطاقة كُتب عليها : لاإله إلا الله ، فيقول يارب ، وما تنفع هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لاتظلم اليوم شيئاً ، فتوضع السجلات في كِفَّة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل مع اسم الله شيء )) رواه أحمد وغيره .
وهكذا هنا في هذا الحديث من مات وهو يعلم … محمول أن الله سبحانه وتعالى قد تجاوز لهذا الإنسان عن ذنوبه وخطاياه وغفر له ، وأدخله بهذه الكلمة الجنة .
والقول الرابع : أن الله عز وجل أخرجه من النار بعد أن دخلها ، بتوحيده ، وبشفاعة الشافعين ، من المؤمنين أو النبيين أو الملائكة ، فإنهم يشفعون يوم القيامة ، فهو قد دخل الجنة لكن بعد مجازاته ، فيكون معنى الحديث : من مات وهو يعلم أنه لاإله إلا الله دخل الجنة ، وإنْ جوزي قبل ذلك ـ يعني قبل دخوله الجنة ـ بتعذيبه بالنار وبتطهيره بها ، فإنه لابد أن يدخل الجنة .
وهذا من مذهب أهل السنة ، وهو أنَّ أهل التوحيد لا يخلدون في نار جهنم ، خلافاً لأهل الاعتزال والخروج ، فالخوارج قالوا : إنه إذا عَمل كبيرة خرج من الإيمان ، لأن الإيمان عندهم شيء واحد ، إنْ ذهبَ بعضُه ذهبَ كله ، وأما المعتزلة فقالوا : من عَمِل كبيرة خرج من الإيمان ، ولم يدخل في الكفر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين !! لكن الخوارج والمعتزلة جميعاً يقولون بخلود صاحب الكبيرة في النار ، وهذا يخالف ما جاء في الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة كما مرَّ معنا تفصيله.
الحديث العاشر :
10 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أوعن أبي سعيد رضي الله عنه ( شكَّ الأعمش ) قال : لما كان يوم غزوة تبوك ، أصاب الناس مجاعة فقالوا : يارسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( افعلوا )) قال : فجاء عمرُ فقال : يارسول الله إن فعلت قلّ الظهرُ ، ولكن ادعهم بفضل أزو ادهم ، ثم ادعُ الله لهم بالبركة ، لعل الله أن يجعل في ذلك . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( نعم )) فدعا بنطع فبسطه ، ثم دعا بفضل أزو ادهم ، قال فجعل الرجل يجئ بكف ذُرة ، قال ويجيء الآخر بكف تمر ، قال : ويجيء الآخرُ بكسرة ، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير ، قال : فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ، ثم قال : خذوا في أوعيتكم . قال فأخذوا في أوعيتهم . حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤه ، قال : فأكلوا حتى شبعوا وفَضلتْ فضلة ، فقال رسولُ الله صلى اله عليه وسلم : (( أشهد أن لاإله إلا الله ، وأني رسولُ الله ، لا يلقى الله بهما عبد غَير شاك فيُحجبَ عن الجنة )) .
الشرح :
هذا هو الحديث الثاني في هذا الباب :
أبو هريرة الصحابي الجليل الحافظ ، تقدمت ترجمته .
قوله (( … لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا .. )) النواضح : هي الإبل التي يسقى عليها الماء ، البعير يقال له : ناضح ، والناقة يقال لها ناضحة ، فلما أصابت الصحابة مجاعة ، أرادوا أن ينحروا رواحلهم ، ودوابهم التي عليها يركبون ، فقالوا (( … لو أذنت لنا .. )) ولاحظوا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يقدمون على عمل إلا بعد استئذان النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد يقول قائلهم : هذه ناقتي وهذا بعيري ، وأنا أفعل به ما أشاء ! لكن ما كان الصحابة رضي الله عنهم كذلك ، وهم خيرة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ، بل كانوا لا يقدمون ولا يؤخرون شيئاً من الأعمال ، إلاّ بعد استئذانه عليه الصلاة والسلام ، لا سيما وهم في حالة خروج وغزو ، فهم كما أخبر الله تعالى عنهم لما كانوا في الخندق مرابطين ، لا يرجع الواحد منهم إلى بيته ليزور أهله ، إلا بإذن النبي عليه الصلاة والسلام والخندق قريب من المدينة جداً ، فقال الله تعالى عنهم (( إنَّ الذين يَستأذنونك أولئك الذين يُؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعضِ شأنهم فأْذَنْ لمن شئتَ منهم واستغفر لهم )) [ سورة النور : 64 ] . هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم مع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( افعلوا )) لأنه كان رحيماً بأمته رؤوفاً ، فلما رأى حاجتهم وقَرمهم إلى اللحم أذن لهم في ذلك .
قوله (( فجاء عمر فقال : يارسول الله ، إن فعلت قل الظهر )) أي : إنْ أذنت لهم بذبح النواضح ، قلت الرواحل ، وفي هذا ضرر بالجيش . ويؤخذ من هذا : جواز أن يتعقب المفضول الفاضل ، وأن يستدرك عليه ، ولكنْ بأدب ، فلابأس أنْ يكون من هو أصغر منك مذكراً لك بأمر مهمٍ ، قد تغفل عنه ويغيب عنك ، وقد تكون قائداً سياسياً محنكاً ، وإماماً في العلوم والدين والشرع ، ولكن لا يمنع منْ أن تستفيد ممن هو أصغر منك سناً ، ولا يزال المشايخ يستفيدون من تلاميذهم ، وهذا من تواضعهم .
وقد قال الشاعر :
لا تحقرن الرأي وهو موافق حُكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدُّرُّ وهو أعزُّ شيء يقتنى ما حط قيمته هوانُ الغائص
قوله (( ولكن ادعهم بفضل أزو ادهم )) يعني : بما فضل من أزو ادهم ، أي من طعامهم الذي يتزودونه في السفر .
قوله (( ثم ادع الله لهم بالبركة ، لعل الله أنْ يجعل في ذلك )) يعني أن يجعل في ذلك الطعام البركة والزيادة والكفاية للجميع .
وقوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فدعا بنطع )) نطع لها أكثر من لغة ، يقال : نِطع ونَطع وغير ذلك ، والنطع : هو بساط من الجلد ، أي فدعا ببساط من الجلد .
قوله (( فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم ، قال : فجعل الرجل يجيء بكف ذرة )) أي : أمرهم أن يحضروا ما بقي عندهم من الطعام ، والذرة هي حبوب الذرة المعروفة .
قوله (( قال : ويجيء الآخر بكف تمرٍ ، قال : ويجئ الآخر بكسرة )) قال : كسرة خبز ، لأنه قد قَلَّ الزاد ، وظهر الجوع في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله (( حتى اجتمع على النطع من ذلك شئ يسير )) دليل على أنهم كانوا قد استنفدوا ما عندهم من طعام .
قوله (( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ، ثم قال : خذوا في أوعيتكم ، قال : فأخذوا في أوعيتهم ، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلاّ ملؤوه قال : فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة)) أي : بعد أكلهم وأخذهم في أزوادهم وأوعيتهم أكلوا حتى شبعوا ، وفضل من ذلك فضلة .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لاإله إلا الله ، وأني رسول الله )) وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً للناس بهذا الموقف الإيماني ، الذي ظهرت فيه آية من آيات الله ، وعلامة من علامات النبوة ، ودلالة من دلائل الرسالة ، فقال عند ذلك : (( أشهد أن لاإله إلا الله وأني رسول الله )) لأن هذا دليل تأييد من الله سبحانه وتعالى ، فإنه قد أيّد نبيه بالآيات التي يسميه العلماءا بالمعجزات ، والمعلوم أن الله سبحانه وتعالى إنما يؤيد الصادقين الذين يخبرون عنه بالحق ، ولا يفترون عليه الكذب ، هذه سنة الله في خلقه ، أما الكذاب المفتري فإن الله عز وجل يخذله ولا يؤيده .
فمن أعظم الدلائل على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه في مدة ثلاث وعشرين سنة يقول : (( إني رسول الله )) ويؤيده الله وينصره على عدوه ، ويكبت من يخالفه ، ويؤيده بالعزّ و النصر والتمكين والرزق ، فهذا من أكبر الأدلة على أنه صادق صلى الله عليه وسلم ، وأنه لم يقل على الله عز وجل إلا ما أمره الله سبحانه وتعالى به ، قال سبحانه (( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين )) [ الحاقة : 44 ـ 47 ].
ثم انظروا إلى مَن يكذب على الله ، كيف يخذله الله ؟ وكيف يعيش طريداً ؟ وكيف يهزمه ويزلزله ويضيق عليه الدنيا ؟ ولكم في التاريخ عبر كثيرة ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وغيرهما كثير من مدعي النبوة والقائلين على بغير علم ، وحتى الكذابين في عصرنا لا يمهلون إلا يسيراً ، ثم ينتقم الله منهم ، و يأتيهم عذاب الله عز وجل وبطشه وبأسه ، وذلك لأن الكذب على الله من أقبح الجرائم ، بل جعله الله في قمة المحرمات ، فقال سبحانه (( قل إنما حَرّم ربي الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن والإثمَ والبغي بغير الحق وأنْ تُشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون )) [ الأعراف 33 ] .
فالقصة إذاً دليل عظيم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( لا يلقى الله بهما عبد غير شاك)) نعلم من ذلك أن من قال لاإله إلا الله ، من غير يقين ، بل بشك وتردد ، فإنَّ هذه الكلمة لا تنفعه ، فلابد أن يقولها وهو موقن بها ، وعالم بمعناها ، وإلا فإنْ قالها جاهلاً بمعناها لم تنفعه ، فلو أن إنساناً إنجليزياً مثلاً أو فرنسياً قال هذه الكلمة ، ولا يعرف معناها فإنها لا تكفي لدخوله في الدين ، حتى يعرف معناها ويصدق ويوقن ، ويقر بمقتضاها ، وإلا فإنه لا يتحقق له شئ .
وقوله : (( فيحجب عن الجنة )) بشرى عظيمة لأهل التوحيد ، بدخولهم الجنة ولابد .
محمد محمود النجدي
عن المقداد بن الأسود أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فقاتلني ، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة فقال : أسلمتُ لله ، أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقتله )) ، قال : فقلت : يارسول الله إنه قد قطع يدي ، ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) .
أما الأوزاعي وابن جريج ففي حديثهما : (( قال : أسلمت )) وأما معمر ففي حديثه : (( فلما أهويت لأقتله قال : لاإله إلا الله )) .
الشرح :
ذكر المنذري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
أولها :
( عن المقداد بن الأسود ) المقداد بن الأسود هو المقداد بن عمرو ، والأسود كان قد تبنَّاه في الجاهلية ، أما أبوه الحقيقي : فاسمه عمرو . وهو صحابي مشهور ، شهد بدراً فارساً ، ولم يثبت أنه ممن شهدها فارساً غيره ، توفي سنة ثلاث وثلاثين .
قوله (( يارسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار … )) فيه السؤال عن شيءٍ لم يحدث بعد ، لكن لما كان هذا الأمر متوقعاً ، ويمكن حدوثه للمجاهدين ، لم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام على المقداد هذا السؤال ، وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يُنكر المسائل التي لم تَحْدُث ، المسائل المستبعدة أو القبيحة (1) .
قوله : (( فقاتلني فضرب إحدى … أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها ؟ ) هذا غاية التصوير لضرر هذا المشرك ، الذي ضرب إحدى يدي المقاتل المسلم ، ثم فرَّ بعد أن انقطعت حيلته ، فلما رأى أنه مأخوذ قال : (( لاإله إلا الله )) .
قوله : (( … فإنْ قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أنْ يقولَ كلمته التي قال )) قال الشافعي وابن القصار (1) ـ وقيل إن هذا من أحسن الأجوبة ـ أن معنى ( فإنه بمنزلتك ) يعني : معصوم الدم بهذه الكلمة ، وهي كلمة : (( لاإله إلا الله )) وقد مرَّ معنا في الباب السابق ، الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم (( أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله )) .
قوله : (( وإنك بمنزلته قبل أنْ يقولَ كلمته التي قال )) يعني : أنت تكون غير معصوم الدم ، بل يحق عليك القصاص ، وقال القاضي : إن معنى هذه الكلمة (( وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) يعني : في عدم تحريم الإثم والمعاصي ، لأن المشرك لا يحرم الآثام ، ولا المعاصي والذنوب ، بل يستبيحها ، لاسيما القتل ، فإن استباحة القتل من أخلاق الكفار ، فيكون المعنى : (( فإن قتلته فإنه بمنزلتك )) يعني : في تحريم الآثام والمعاصي (( وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) . يعني : أنك لا تحرم الأثام والمعاصي .
الحديث السابع :
وهو الثاني في الباب :
7 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحُرُقات من جهينة ، فأدركتُ رجلاً فقال : لاإله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( قال : لاإله إلا الله ، وقتلته ))؟! قال : قلت : يارسول الله ، إنما قالها خوفاً من السلاح ! قال : (( أفلا شققت عن قلبه ، حتى تعلم أقاله أم لا )) ؟! فما زال يكررها علي ، حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذ ، قال فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البُطين يعني : أسامة ، قال : قال رجل : ألم يقل الله تعالى : (( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكونَ الدينُ كله لله )) ؟ فقال سعد : قد قاتلنا حتى لاتكون فتنة ، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة !
الشرح :
أسامة بن زيد هو ابن حارثة الكلبي ، الصحابي الشهير الأمير ، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبّه ، وأمه : أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم ، استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على جيش لغزو الروم فلم ينفذ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه أبو بكر إلى الشام ، مات بالمدينة سنة 54 هـ .
وفي حديث أسامة بن زيد أيضاً تأكيد لحديث المقداد بن الأسود ، وهي واقعة وقعت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، وذلك أنّ الصحابة بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام في سرية
قوله : (( فصبحنا الحرقات من جهينة )) صبحناهم يعني : أَغَرْنا عليهم عند الصبح ، وهذا وقت غفلة ومباغتة ، ومن أسباب النصر أن يُباغَت العدو .
قوله (( فأدركت رجلاً … فوقع في نفسي من ذلك … )) يعني : بعد أن قال كلمة لا إله إلا الله ، طَعَنه أسامة رضي الله عنه، والرجل من المشركين ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثهم لغزوهم ، فَحَاكَ في نفس أسامة بن زيد هذا الذنب ، فذكره للرسول عليه الصلاة والسلام . وفي رواية صفوان بن محرز : أنّ البشير هو الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بالذي حصل ، والجمع بينهما : أنَّ البشير قد سبق أسامة بالخبر ، ثم إنَّ أسامة حدث النبي عليه الصلاة والسلام فسمع منه مباشرة .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا شَقَقتَ عن قلبه ، حتى تعلم أقالها أم لا )) ؟! يعني : أقالها مختاراً لها ، مريداً قاصداً لها ، أم أنه قالها خوفاً من السلاح ؟! وهذا يؤخذ منه قاعدة أصولية عظيمة ، ألا وهى : (( أن الناس يؤخذون بالظواهر ، وأما السرائر فنكلها إلى الله عز وجل )) وهذا الذي سار عليه الخلفاء الراشدون ، فعمر رضي الله عنه يخطب في الناس ويقول : (( إن أناساً كانوا يُؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، و اليوم لاندري فمن أظهر لنا خيراً قرَّبناه وأعطيناه وأكرمناه ، ومن أظهر لنا غير ذلك أخذناه به ، وإن قال إن سريرته حسنة (1) اوكما جاء عنه ، فعمر رضي الله عنه كان يعامل الناس بالظواهر ، وأما السرائر فلا يعلمها إلا الله ، إذْ لا يطلع على مافي القلوب إلا علام الغيوب . ولهذا أنكر عليه الصلاة والسلام قتله بعد أنْ قال : لاإله إلا الله .
قوله : (( فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ … ) وذلك لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، فتمنى أسامة أنه لم يكن قد أسلم قَبلُ ، كي يكون من المسلمين الجُدد الذين لم يُكتب عليهم ذنب .
وفي الحديث : أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقتص من أسامة ، والذي دفع القصاص عنه هو (( التأويل )) . وقال في الحديث الأول للمقداد ( وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) يعني : غير معصوم الدم .
أما (( الكفارة )) فلا دليل على سقوطها عن أسامة ، ولا ((الدية)) ، فإنْ قيل: لِمَ لَمْ يذكرها النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ؟ قلنا : أما الكفارة فلأنها تجب على التراخي ، وماكان على التراخي ففي قول كثير من الأصوليين : يجوز تأخير بيانه ، لأنه (( يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة )) . وأما الدية : فلعل أسامة كان مُعسراً في ذلك الوقت ، فلذلك لم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرجها في الحال ، نقول هذا ، لأنَّ الرجل له حكم الإسلام ، فإنه قال : لاإله إلا الله ، ثم قتله أسامة ، فتجب فيه دية المسلم لا دية الكافر أو المعاهد .
قوله : (( … فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين … )) هذا قاله سعد بن أبي وقاص بعد أن حصلت هذه الحادثة لأسامة ، فإنَّ أسامة كان بعد ذلك شديد التحرز عن الدماء ، فكان سعد يقول : أنا لا أقتل مسلماً ، حتى أرى أسامة يستبيح دمه ، لأن أسامة حصلت له هذه الواقعة ، فكان شديد التحرز بعد ذلك عن قتل معصوم الدم .
قوله (ذو البطين ) هو وصف لأسامة ، لعله كان ذو بطن أو كرش فوصفه بذلك
قوله (( قال : قال رجل : ألم يقل الله تعالى … )) وهذا في أيام الحرب بين معاوية وعلي ، والفتن التي حصلت في ذلك العصر (( فقال سعد : قد قاتلنا حتى لاتكون الفتنة … )) الفتنة في هذه الآية فسرها بعض المفسرين : بالشرك ، فيكون معنى الآية : وقاتلوهم حتى لا يكون في الأرض شرك ، لأن الشرك أعظم جريمة على وجه الأرض ، فأمر الله عز وجل أن يقاتل الناس حتى لا يكون شرك على وجه الأرض . وقال آخرون : الفتنة هي قدرة الكفار على فتنة المسلمين عن دينهم ، فمعنى الآية : فقاتلوهم حتى لا يكون للكفار قُوة ، ولادولة ولاصَوْلة ، يصدون بها الناس عن الإسلام .
وهذا أيضاً معنى حسن ، موافق للمعنى الأول تقريبا .
قوله (( ويكون الدين كله لله )) يعني : أن يكون الإسلام هو الحاكم في الأرض ، وله الكلمة والأمر والنهي .
قوله ( قد قاتلنا ) يعني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله ( وأنت وصحابك ) يريد : الذين يدخلون في الفتن ، ويشاركون في القتال ، فقال : أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، وهذا يدل على أنه : لم يمدح القتال الذي حصل في الفتنة ، وهذا من الأدلة على أن سعداً كان معتزلاً لما حصل بين الصحابة ، وهناك كثير من أكابر الصحابة اعتزلوا القتال ، كابن عمر وأبي بكرة نفيع بن الحارث وأبي سعيد الخدري وأبي ذر وغيرهم ممن اعتزل الفتنة ولم يدخل في القتال ، وترك كلا الطرفين ولم يشارك .
الحديث الثامن :
وهو الثالث في الباب والأخير :
8 - عن صفوان بن مُحرز : (( أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير فقال : اجمع لي نفراً من إخوانك حتى أحدثهم ، فبعث رسولاً إليهم ، فلما اجتمعوا جاء جنُدب وعليه بُرنُس أصفر فقال : تحدثوا بما كنتم تحدثون به ، حتى دار الحديث فلما دار الحديث إليه حسر البرنُس عن رأسه فقال : إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم إلا عن نبيكم صلى الله عليه وسلم . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين ، وإنهم التقوا ، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله ، وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته ، قال : وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد ، فلما رفع عليه السيف ، قال : لاإله إلا الله ، فقتله ، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره الرجل كيف صنع ، فدعاه فسأله فقال : (( لم قتلته ؟ ))
فقال : يارسول الله أوجع في المسلمين فقتل فلاناً وفلاناً ، وسمى له نفراً ، وإني حملتُ عليه ، فلما رأى السيف قال : لاإله إلا الله ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( أقتلته ؟ )) قال : نعم ، قال : (( فكيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! )) قال : يارسول الله استغفر لي ، قال : (( فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! )) قال : فجعل لا يزيده على أن يقول : ((فكيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ )) .
الشرح :
جندب بن عبد الله البجلي يكنى أبا عبد الله ، له صحبة وربما نُسب إلى جده سفيان ، وقال خليفة : مات في فتنة ابن الزبير ، مات بعد الستين ، روى له الستة .
ومن الفوائد في هذا الحديث غير ماتقدم : أنه يستحب للرجل العظيم الكبير الشريف الرئيس في قومه ، أنْ ينصح قومه إذا رأى فيهم خطأ ، أو رأى فيهم إرادة للشَّر ، لأن جُندباً بعثَ إلى رجل يقال له : عسعس بن سلامة ، زمن فتنة بن الزبير (( أي : زمن القتال الذي حصل بين ابن الزبير وبين الأمويين )) . ليجمع له الناس لنصيحتهم .
قوله (( حتى أُحدثهم .. )) أراد أنْ يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .
قوله (( البُرنس )) هو الثوب الذي يلتصق به غطاء الرأس ، كالدراعة أو الجبة أو غير ذلك .
قوله (( فكيف تصنع بلا إله إلا الله .. )) يعني : ما عذرك في استباحة دم هذا الرجل ، وقد قال : لاإله إلا الله ؟ وكيف تدفع هذه الكلمة إذا جاءت في ميزانه ، وفي صحيفته يوم القيامة ، وقد أسلم ؟
فجندب بن عبد الله البجلى حدث بهذا الحديث زمن فتنة ابن الزبير ، ليخوف الناس من استباحة دم المسلم ، لأنَّ القتال حاصل بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان ، وكلا الطرفين من أهل : لاإله إلا الله ، فأراد أنْ يعظهم ويخوّفهم بهذا الحديث ، الذي حفظه عن أسامة ، أو حضره على عهد النبي عليه الصلاة والسلام .
باب : من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاكً فيه دخل الجنة
الحديث التاسع :
9 ـ عن عثمانَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : (( من مات وهو يعلم أنه لاإله إلا الله ، دخل الجنة ))
الشرح :
ذكر المنذري تحت هذا الباب ستة أحاديث :
الأول :
هذا الحديث وفيه أولاً: فضل الشهادة ، وأنها كلمة الإسلام العظيمة ، وكلمة التوحيد التي يدخل بها العباد إلى دين الإسلام .وأن هذه الكلمة هي أول واجب على العبيد ، لا النظر ولا القصد إلى النظر ، كما قال المتكلمة ، بل أول واجب يجب على العبيد ، هو : قول لاإله إلا الله . وهذة الكلمة من فضلها أنها تكفر عن صاحبها السيئات ، فيغفر الله سبحانه وتعالى لأهل التوحيد ، مالا يغفره لغيرهم .
وليست هذه الكلمة حجة للمرجئة الذين قالوا : إن الإيمان هو التصديق والإقرار باللسان فقط !! ، خلافاً لأهل السنة القائلين : إن الإيمان تصديق بالجنان ، وقول باللسان ، وعمل بالأركان ، فهذا الحديث ليس حجة لهم ، لأن المرجئة قالوا : إن هذا الحديث يدل على أن الإقرار بالشهادتين يكفي لدخول العبد الجنة ، وأن المعاصي لاتضرُّ مع الإيمان ! وهذا قول فاسد ، لأن مقتضى هذا القول : إلغاء النصوص الكثيرة التي تبين ضرر الذنوب والسيئات ، كقوله تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سؤا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) النساء :123 ، وقوله ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) آل عمران :182 ، وقوله ( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) المائدة : 49 ، وغيرها كثير جدا .
ثانيا : الإعراض عن الأدلة الصريحة التي تبين أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، كقول الله عز وجل (( إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . الذين يُقيمون الصلاةَ ومما رزقناهم ينفقون .أولئك هم المؤمنون حقا )) [ سورة الأنفال : 2 ـ 4 ] . فجعل لأهل الإيمان أعمالاً ، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، وقوله تعالى (( وماكان الله ليضيع إيمانكم )) والمقصود بالإيمان ههنا : الصلاة ، كما هو المشهور عند المفسرين ، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( الإيمانُ بضع وستون شعبة ، أعلاها : قول لاإله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان )).
ولا يجوز بعد هذا أن يقال إن الأعمال ليست من الإيمان ، لأن هذا يفضي إلى رد النصوص من القرآن والسنة . والواجب على المسلم أن يجمع بين النصوص ، وأن يتلقاها جميعاً بالقبول ، فلا يأخذ منها شيئاً ويترك شيئاً ، فإن هذة عادة أهل الأهواء ، وهي صفة لازمة لهم ، فما من فرقةٍ من فرق أهل الأهواء ، إلا وتجدها قد أخذت شيئاً وتركت أشياء ، إلا أهل السنة كما قال عبدا لرحمن بن مهدي : (( مامن طائفة أو فرقة إلا وتذكر الذي لها ، ولاتذكر الذي عليها ، إلا أهل السنة فإنهم يذكرون الذي لهم والذي عليهم )) . وهذا من إنصافهم رحمهم الله أنهم يذكرون جميع ما ورد في المسألة من النصوص ، ثم يوفقون ويجمعون بينها .
وهكذا هذا الحديث لو أخذناه وتركنا ما جاء في الكتاب والسنة ، لأهملنا كثيراً من دلالات النصوص ، فلابد أن يجمع بينه وبين بقية النصوص ليكون الفهمُ صحيحاً تاماً .
فهذا الحديث : قال أهل السنة له عدة محامل ، منها :
أن قوله : (( من مات وهو يعلم أنه لاإله إلا الله دخل الجنة )) قالوا : إما أن يكون هذا قبل أن تنزل الفرائض ، والرسول عليه الصلاة والسلام كان في مكة ، فيقول للناس (( قولوا لاإله إلا الله تفلحوا )) فهذه دعوته عليه الصلاة والسلام في مكة ، فلم يحرم عليهم الزنا ، ولم يحرم عليهم الخمر ، ولم يحرم عليهم الربا ، بل ما نزل تحريم هذه المحرمات ولا تمت الفرائض ، إلا في المدينة ، بعد أن استقر الإيمان في قلوب الناس ، وانقادوا لله سبحانه ، أما قبل ذلك فلم تكن هذه الفرائض .
وهناك وجه آخر : وهو أنَّ قوله (( مَنْ ماتَ وهو يعلم أنه لاإله إلا الله دخل الجنة )) أن هذا فيمن لم يقدر على غير النطق بالشهادتين ، أي : لم يقدر على غير كلمة التوحيد ، إما أنه قالها ومات ، أو أنه لم يبلغه من الإسلام إلا هذه الكلمة فآمن بها ، كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يَدْرُسُ الإسلام ( أي ينمحي ) كما يَدْرس وشي الثوب ، حتى لا يعلم صلاة ولا صدقة ولا صيام ، ويبقى طوائف من الناس يقولون : أدركنا آباءنا يقولون : لاإله إلا الله ، فنحن نقول هذه الكلمة )) فقال له جليسة : فما تنفعهم هذه الكلمة ؟ قال : بلى تنفعهم ، بلى تنفعهم (1) )) .
فيكون هذا الحديث ، كحديث الرجل المقنع الحديد الذي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : يارسول الله ، أُسلم أو أقاتل ؟ : أَسْلِم ثم قاتل رواه مسلم فهذا الرجل جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : هل أدخل المعركة ثم أُسلم ، أم أسلم ثم أقاتل ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : بل أسلم ثم قاتل .
أي : لأنك إنْ قُتلت على غير الإسلام ، متَّ كافراً ، ولا ينفعك نصرك للإسلام بغير إسلام (1) ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، كما ثبت في الصحيحين ، وهذا من آيات الله :إنه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر الذي لا إيمان له .
فأسلم الرجل ثم قاتل فقُتل ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( عَمِلَ قليلاً ، وأُجر كثيراً )) أي أنه لا صلى ولاصام ولا أدى غير الجهاد في سبيل الله .
وله محمل ثالث : وهو أن هذا الحديث فيمن كان من أهل المعاصي وهو موحَّد ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سيغفر له ، كما في حديث البطاقة (( أن رجلاً يأتي يوم القيامة بسجلاتٍ من الذنوب مد البصر ، ويجاء له ببطاقة كُتب عليها : لاإله إلا الله ، فيقول يارب ، وما تنفع هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لاتظلم اليوم شيئاً ، فتوضع السجلات في كِفَّة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل مع اسم الله شيء )) رواه أحمد وغيره .
وهكذا هنا في هذا الحديث من مات وهو يعلم … محمول أن الله سبحانه وتعالى قد تجاوز لهذا الإنسان عن ذنوبه وخطاياه وغفر له ، وأدخله بهذه الكلمة الجنة .
والقول الرابع : أن الله عز وجل أخرجه من النار بعد أن دخلها ، بتوحيده ، وبشفاعة الشافعين ، من المؤمنين أو النبيين أو الملائكة ، فإنهم يشفعون يوم القيامة ، فهو قد دخل الجنة لكن بعد مجازاته ، فيكون معنى الحديث : من مات وهو يعلم أنه لاإله إلا الله دخل الجنة ، وإنْ جوزي قبل ذلك ـ يعني قبل دخوله الجنة ـ بتعذيبه بالنار وبتطهيره بها ، فإنه لابد أن يدخل الجنة .
وهذا من مذهب أهل السنة ، وهو أنَّ أهل التوحيد لا يخلدون في نار جهنم ، خلافاً لأهل الاعتزال والخروج ، فالخوارج قالوا : إنه إذا عَمل كبيرة خرج من الإيمان ، لأن الإيمان عندهم شيء واحد ، إنْ ذهبَ بعضُه ذهبَ كله ، وأما المعتزلة فقالوا : من عَمِل كبيرة خرج من الإيمان ، ولم يدخل في الكفر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين !! لكن الخوارج والمعتزلة جميعاً يقولون بخلود صاحب الكبيرة في النار ، وهذا يخالف ما جاء في الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة كما مرَّ معنا تفصيله.
الحديث العاشر :
10 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أوعن أبي سعيد رضي الله عنه ( شكَّ الأعمش ) قال : لما كان يوم غزوة تبوك ، أصاب الناس مجاعة فقالوا : يارسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( افعلوا )) قال : فجاء عمرُ فقال : يارسول الله إن فعلت قلّ الظهرُ ، ولكن ادعهم بفضل أزو ادهم ، ثم ادعُ الله لهم بالبركة ، لعل الله أن يجعل في ذلك . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( نعم )) فدعا بنطع فبسطه ، ثم دعا بفضل أزو ادهم ، قال فجعل الرجل يجئ بكف ذُرة ، قال ويجيء الآخر بكف تمر ، قال : ويجيء الآخرُ بكسرة ، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير ، قال : فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ، ثم قال : خذوا في أوعيتكم . قال فأخذوا في أوعيتهم . حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤه ، قال : فأكلوا حتى شبعوا وفَضلتْ فضلة ، فقال رسولُ الله صلى اله عليه وسلم : (( أشهد أن لاإله إلا الله ، وأني رسولُ الله ، لا يلقى الله بهما عبد غَير شاك فيُحجبَ عن الجنة )) .
الشرح :
هذا هو الحديث الثاني في هذا الباب :
أبو هريرة الصحابي الجليل الحافظ ، تقدمت ترجمته .
قوله (( … لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا .. )) النواضح : هي الإبل التي يسقى عليها الماء ، البعير يقال له : ناضح ، والناقة يقال لها ناضحة ، فلما أصابت الصحابة مجاعة ، أرادوا أن ينحروا رواحلهم ، ودوابهم التي عليها يركبون ، فقالوا (( … لو أذنت لنا .. )) ولاحظوا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يقدمون على عمل إلا بعد استئذان النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد يقول قائلهم : هذه ناقتي وهذا بعيري ، وأنا أفعل به ما أشاء ! لكن ما كان الصحابة رضي الله عنهم كذلك ، وهم خيرة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ، بل كانوا لا يقدمون ولا يؤخرون شيئاً من الأعمال ، إلاّ بعد استئذانه عليه الصلاة والسلام ، لا سيما وهم في حالة خروج وغزو ، فهم كما أخبر الله تعالى عنهم لما كانوا في الخندق مرابطين ، لا يرجع الواحد منهم إلى بيته ليزور أهله ، إلا بإذن النبي عليه الصلاة والسلام والخندق قريب من المدينة جداً ، فقال الله تعالى عنهم (( إنَّ الذين يَستأذنونك أولئك الذين يُؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعضِ شأنهم فأْذَنْ لمن شئتَ منهم واستغفر لهم )) [ سورة النور : 64 ] . هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم مع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( افعلوا )) لأنه كان رحيماً بأمته رؤوفاً ، فلما رأى حاجتهم وقَرمهم إلى اللحم أذن لهم في ذلك .
قوله (( فجاء عمر فقال : يارسول الله ، إن فعلت قل الظهر )) أي : إنْ أذنت لهم بذبح النواضح ، قلت الرواحل ، وفي هذا ضرر بالجيش . ويؤخذ من هذا : جواز أن يتعقب المفضول الفاضل ، وأن يستدرك عليه ، ولكنْ بأدب ، فلابأس أنْ يكون من هو أصغر منك مذكراً لك بأمر مهمٍ ، قد تغفل عنه ويغيب عنك ، وقد تكون قائداً سياسياً محنكاً ، وإماماً في العلوم والدين والشرع ، ولكن لا يمنع منْ أن تستفيد ممن هو أصغر منك سناً ، ولا يزال المشايخ يستفيدون من تلاميذهم ، وهذا من تواضعهم .
وقد قال الشاعر :
لا تحقرن الرأي وهو موافق حُكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدُّرُّ وهو أعزُّ شيء يقتنى ما حط قيمته هوانُ الغائص
قوله (( ولكن ادعهم بفضل أزو ادهم )) يعني : بما فضل من أزو ادهم ، أي من طعامهم الذي يتزودونه في السفر .
قوله (( ثم ادع الله لهم بالبركة ، لعل الله أنْ يجعل في ذلك )) يعني أن يجعل في ذلك الطعام البركة والزيادة والكفاية للجميع .
وقوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فدعا بنطع )) نطع لها أكثر من لغة ، يقال : نِطع ونَطع وغير ذلك ، والنطع : هو بساط من الجلد ، أي فدعا ببساط من الجلد .
قوله (( فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم ، قال : فجعل الرجل يجيء بكف ذرة )) أي : أمرهم أن يحضروا ما بقي عندهم من الطعام ، والذرة هي حبوب الذرة المعروفة .
قوله (( قال : ويجيء الآخر بكف تمرٍ ، قال : ويجئ الآخر بكسرة )) قال : كسرة خبز ، لأنه قد قَلَّ الزاد ، وظهر الجوع في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله (( حتى اجتمع على النطع من ذلك شئ يسير )) دليل على أنهم كانوا قد استنفدوا ما عندهم من طعام .
قوله (( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ، ثم قال : خذوا في أوعيتكم ، قال : فأخذوا في أوعيتهم ، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلاّ ملؤوه قال : فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة)) أي : بعد أكلهم وأخذهم في أزوادهم وأوعيتهم أكلوا حتى شبعوا ، وفضل من ذلك فضلة .
قوله (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لاإله إلا الله ، وأني رسول الله )) وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً للناس بهذا الموقف الإيماني ، الذي ظهرت فيه آية من آيات الله ، وعلامة من علامات النبوة ، ودلالة من دلائل الرسالة ، فقال عند ذلك : (( أشهد أن لاإله إلا الله وأني رسول الله )) لأن هذا دليل تأييد من الله سبحانه وتعالى ، فإنه قد أيّد نبيه بالآيات التي يسميه العلماءا بالمعجزات ، والمعلوم أن الله سبحانه وتعالى إنما يؤيد الصادقين الذين يخبرون عنه بالحق ، ولا يفترون عليه الكذب ، هذه سنة الله في خلقه ، أما الكذاب المفتري فإن الله عز وجل يخذله ولا يؤيده .
فمن أعظم الدلائل على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه في مدة ثلاث وعشرين سنة يقول : (( إني رسول الله )) ويؤيده الله وينصره على عدوه ، ويكبت من يخالفه ، ويؤيده بالعزّ و النصر والتمكين والرزق ، فهذا من أكبر الأدلة على أنه صادق صلى الله عليه وسلم ، وأنه لم يقل على الله عز وجل إلا ما أمره الله سبحانه وتعالى به ، قال سبحانه (( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين )) [ الحاقة : 44 ـ 47 ].
ثم انظروا إلى مَن يكذب على الله ، كيف يخذله الله ؟ وكيف يعيش طريداً ؟ وكيف يهزمه ويزلزله ويضيق عليه الدنيا ؟ ولكم في التاريخ عبر كثيرة ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وغيرهما كثير من مدعي النبوة والقائلين على بغير علم ، وحتى الكذابين في عصرنا لا يمهلون إلا يسيراً ، ثم ينتقم الله منهم ، و يأتيهم عذاب الله عز وجل وبطشه وبأسه ، وذلك لأن الكذب على الله من أقبح الجرائم ، بل جعله الله في قمة المحرمات ، فقال سبحانه (( قل إنما حَرّم ربي الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن والإثمَ والبغي بغير الحق وأنْ تُشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون )) [ الأعراف 33 ] .
فالقصة إذاً دليل عظيم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( لا يلقى الله بهما عبد غير شاك)) نعلم من ذلك أن من قال لاإله إلا الله ، من غير يقين ، بل بشك وتردد ، فإنَّ هذه الكلمة لا تنفعه ، فلابد أن يقولها وهو موقن بها ، وعالم بمعناها ، وإلا فإنْ قالها جاهلاً بمعناها لم تنفعه ، فلو أن إنساناً إنجليزياً مثلاً أو فرنسياً قال هذه الكلمة ، ولا يعرف معناها فإنها لا تكفي لدخوله في الدين ، حتى يعرف معناها ويصدق ويوقن ، ويقر بمقتضاها ، وإلا فإنه لا يتحقق له شئ .
وقوله : (( فيحجب عن الجنة )) بشرى عظيمة لأهل التوحيد ، بدخولهم الجنة ولابد .