مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
أحمد بن بلة «أبو الجزائريين» كما أطلق أبناء شعبه عليه، فهو أول رؤساء الجزائر بعد استقلالها عن الاحتلال الفرنسى 1962، وصاحب الجهود العظيمة من أجل استقلال بلاده.
كان للزعيم أحمد بن بلة تاريخ من النضال العظيم، جعله رمزًا من رموز الثورة الجزئرية، فكان مشاركًا فى تأسيس جبهة التحرير الوطنى عام 1954، وقيام الثورة التحريرية، كما كان من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان، ليس فى الجزائر فحسب بل فى الدول العربية جميعًا.
لم يستمر الزعيم أحمد بن بلة فى الحكم طويلا، حيث امتدت فترة رئاسته عامين من 1963 حتى 1965، واستمر رئيسا للجزائر حتى انقلاب وزير الدفاع هوارى بومدين عليه، متهما إياه بالانحراف عن أهداف الثورة.
ولد أحمد بن بلة فى 25 سبتمبر، ببلدة مغنية التابعة لولاية تلمسان، فى عائلة فقيرة تمتهن الفلاحة، تلقى تعليمه فى البلدة الواقعة غرب الجزائر، وبعد ذلك انتقل إلى مدينة تلمسان، ودرس فى المدرسة الابتدائية الفرنسية، التى نال منها شهادة الابتدائية ثم الإعدادية.
ونظرًا لمواقفه الوطنية ونضاله المبكر، وهو فى سن الـ16 من عمره، وانتقاده لأساتذة التاريخ والعلوم الاجتماعية الذين كانوا يشوهون التاريخ الوطنى، منعته السلطات الفرنسية من متابعة دراسته، وأجبرته على التجنيد فى صفوف الجيش الفرنسى، خلال الحرب العالمية الثانية، وكان حينها ناشطا ضمن حزب الشعب الجزائرى، وتدرج فى المناصب العسكرية ونال وسام صليب الحرب.
لم تكن مشاركته فى الحرب العالمية الثانية مجبرًا، هى المرة الأخيرة، حيث لم تتركه السلطات الفرنسية، وتم استدعاؤه مرة أخرى للمشاركة فى حرب الفرنسيين والحلفاء ضد إيطاليا وألمانيا ضمن مجموعة من المغاربة، وضمن الكتيبة الخامسة للقناصين، حيث حمل رتبة رقيب أول ثم مساعد، كما اشترك فى معركة مونتى كاسينو، وقد قلده الجنرال ديجول الميدالية العسكرية بعد تحرير روما عام 1944م، وكان الوحيد الذى يحصل على أعلى وسام فى فرنسا.
ويقول بن بلة عن هذه التجربة إن اللامساواة بين الضباط الجزائريين والضباط الفرنسيين كانت فاضحة، هناك قاعتان للأكل منفصلتان للصنفين من الضباط، ومطبخان مختلفان لضباط الصف، وصحوننا لم يكن لها الحق فى أن تتآخى مع صحون الفرنسيين المساوين لنا فى الرتبة، وكؤوسنا لم يكن لها الحق بأن تقرع مع كؤوسهم حتى ولو كان بكؤوسهم خمر وبكؤوسنا ماء، ولن أقف طويلاً عند الضيق والمهانة التى يسببها هذا التمييز العنصرى.
ويستكمل بن بلة قائلا: نظم الضباط الجزائريون مقاومة للتمييز العنصرى كنت أنا ملهمها وقائدها، لم نكن قادرين على شىء ذى بال، لكن، بالنسبة لنا كان شيئأ كثيرًا أن نؤكد كرامتنا وأن نبدأ النضال، ولو فى نطاق وضعيتنا، على أية حال لم يخطئ رؤسائى فى تحديد دورى فى هذه المقاومة، بين عدة جنود من المغاربة وكنت أنا الوحيد الجزائرى بينهم، وحل علينا شهر الصيام واستغرب المغاربة أنى صائم، فكانوا يتصورن أن الجزائريين لا يصومون نظرًا لكونهم يتحدثون الفرنسية، فإنى مؤمن وأرعى فرائض دينى، لا أشرب الخمر ولا آكل الخنزير.
فى عام 1945م، توالت مجازر فرنسا ضد الجزائريين، فى سطيف وخراطة وعدد من المدن الجزائرية، مما دفعه إلى الالتحاق بصفوف الحركة الوطنية واشترك فى حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وفى حزب الشعب الجزائرى، ثم انتخب مستشارا لبلدية مغنية حيث عمل جاهدا لخدمة الشعب ومحاربة الاستعمار.
ويقول بن بلة عن تلك الفترة فى مذكراته: «كنت أعمل من الصباح إلى الليل. أذهب لأرى الناس فى مساكنهم، واهتم بمشاكلهم، ويعلم الله كم كانت كثيرة، ولكن كنت أعمل، وكان لدى الانطباع بأنى مفيد، لقد كانت هذه الفترة حافزة لى بشكل فائق، كنت فى صحة بدنية ممتازة، وكانت معنوياتى فى أوجها.
انتقل بن بلة إلى العاصمة، ليبدأ الإعداد لثورة مسلحة، وكان قائدًا عسكريًا لما يقرب من 5000 جندى جزائرى، بل وأصبح أيضًا أحد القادة التسعة للجنة الثورية للوحدة والعمل والتى فجرت ثورة التحرير فى عام 1954م، وبعد عدة سنوات من النضال اكتشف الفرنسيون المنظمة السرية وتمت محاكمة بن بلة ورفاقه بالسجن 7 سنوات.
استطاع بن بلة أن يهرب إلى مصر فى عام 1953م، بعد خروج الملك فاروق من مصر، ويقول بن بلة: كانت بداية الثورة شديدة الصعوبة «ثورة 23 يوليو»، وكذلك بدايتنا، كنا أنا وزملائى آنذاك مجهولين تمامًا فى مصر، وكنا نعيش فى ظروف صعبة، وخلال الأربعة أشهر كان الفول هو الوجبة الوحيدة التى نتناولها يوميًا، ومع الثوريين المصريين كانت لنا فى البداية بعض المصاعب، منشؤها تبايننا اللغوى، ومازلت أذكر أنه عندما كنت للمرة الأولى أعرض الوضعية فى الجزائر على الجامعة العربية، كان لزامًا على أن أتحدث الفرنسية، والفرنسية لغة رائعة بالتأكيد، ولكن استخدامها فى مثل هذا المكان له مفعول الكارثة، بينما كنت أتحدث أمام إخوتى العرب، كنت أرى وجوههم تتشنج تحت تأثير الاندهاش، لقد كنت أتفهم مشاعرهم، فالعربية هى وسيلة وراية إخوتنا فى وقت معًا.
واجتمع بن بلة بالزعيم جمال عبدالناصر وتباحث معه لتوريد السلاح للجزائريين، وأوضح أن مصر قد أمدته منذ البداية، بمساعدة عظيمة، وبفضل هذا التسليح استطاعت الثورة الجزائرية أن تتقدم إلى العمل، يوم 2 أكتوبر 1955 فى جهة وهران، الجهة الوحيدة التى بقيت حتى هذا التاريخ توصف بأنها «هادئة تمامًا» فى تقارير العدو، وبعد قليل ثارت جبال الونشريس بدورها، ومضى الزمن الذى كان فيه الخصم يأمل قهر الثورة بعزل الأوراس، وغدت الآن جبهة التحرير الوطنى تخوض المعارك فى كل أنحاء الجزائر الثائرة.
أصبح أحمد بن بلة يشكل خطرًا على الاستعمار الفرنسى، مما دفعه للسعى لاغتياله مرتين، الأولى بالقاهرة والأخرى فى طرابلس بليبيا، وبذلك أصبح بن بلة قائدا لثورة الفاتح الجزائرية عام 1954 بقيادة حزب جبهة التحرير الوطنى.
فى عام 1958 أعلن تأسيس حكومة جزائرية مؤقتة فى المنفى، ترأس المجلس الوزارى فرحات عباس وكان بن بلة ومحمد بوضياف نائبين لرئيس الحكومة، وفى عام 1959 بدأت المفاوضات بين جبهة التحرير والجنرال ديجول، وبعد العديد من المفاوضات بين الطرفين تم التوصل لاتفاقيات إيقيان، وتم البدء بوقف إطلاق النار فى 1962، وتم الإفراج عن القادة المسجونين وبن بلة، ثم الاستقلال عام 1962.
كواليس النضال وراء إعلان استقلال الجزائر
وشارك فى مؤتمر طرابلس الذى تمخض عنه خلاف بينه وبين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وبرز هذا الصراع فى مؤتمر طرابلس المنعقد فى مايو 1962، حيث تمكن من جمع كلمة القوات المسلحة وترأس المكتب السياسى لجبهة التحرير لينتخب فى 15 سبتمبر، رئيسا للجمهورية.