أدلة الفقه
هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، واستصحاب النفي الأصلي. والاستقراء والمصالح المرسلة وقول الصحابي الذي لا مخالف له والاستحسان وعمل أهل المدينة. ومصدرها الله عز وجل، فالكتاب قوله والسنة بيانه، والإجماع دال على النص. ومدركها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن الله تعالى، والمبين للشرع، ولا سبيل لمعرفة ما جاء من عند الله تعالى بالوحي إلا بواسطته. والأدلة الشرعية ضربان أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض وهو الكتاب والسنة، وثانيهما: وما يرجع إلى الرأي المحض وهو القياس والاستدلال، وأما غيرها فيرجع إلى أحدهما إما باتفاق أو ما يرجع باختلاف،
الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض. وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة، وأما الثاني فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق، وإما باختلاف فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك كله، وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد.
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما هو مذكور في تفصيل ذلك.
والأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول؛ لأن الثاني ثبت عن طريقه، والضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب، وذلك من وجهين أحدهما: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب؛ لأن الدليل على صدق الرسول المعجزة، وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن بقوله: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي». فالقرآن أعظم المعجزات. وقد أمر الله في كتابه بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، سورة النساءآية: ﴿(59)﴾،﴾ وقال: ﴿وأطيعوا الله ورسوله﴾ وأمثالها في مواضع كثيرة؛ وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب، ومما ليس فيه مما هو من سنته، وقال تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ سورة الحشر آية: ﴿(7)﴾، وقال: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ سورة النور ﴿63﴾ إلى ما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب، وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ سورة النحل آية: ﴿(44)﴾، وقال:﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ ﴿سورة المائدة: (67)﴾، وذلك التبليغ من وجهين: تبليغ الرسالة وهو الكتاب، وبيان معانيه.[1]
الكتاب
الأصل الأول من الأصول الشرعية المتفق عليها عند جميع المسلمين هو الكتاب أي: القرآن الكريم وعرفه علماء أصول الفقه بأنه «كتاب الله المنزل بالوحي على رسول الله ، المنقول بالتواتر».
ويبحث علم أصول الفقه في الكتاب من حيث استعمال الألفاظ ودلالاتها على الأحكام الشّرعيّة، والتفسير وأسباب النزول، وأوجه الاستدلال بالكتاب، ومعرفة الحقيقة والمجاز والناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمجمل والمبين، والظاهر والمفهوم والمؤول وأوجه الدلالات فيه، وغير ذلك. ذكر الشاطبي أن الأدلة الشرعية هي الكتاب والسنة والإجماع والرأي، والكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما واقتصر على النظر فيهما؛ لدخول تفاصيل غيرهما ضمنهما، قال: فالأول أصلها وهو الكتاب، وذكر فيه مسائل، منها: اعتماد أن القرآن طريق الهداية، ومعرفة أسباب النزول وأهميته، وسرد قصص القرآن بما هو باطل، ومقارنة الترغيب للترهيب والترهيب للترغيب في القرآن، وتعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، والقرآن فيه بيان كل شيء، وأقسام العلوم المضافة إلى القرآن، والظاهر والباطن في تفسير القرآن، وكون الظاهر في تفسير القرآن هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه، والاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر، والمدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وتفسير القرآن على التوسط والاعتدال، ومعرفة الضابط المعول عليه في مأخذ الفهم في التفسير على الاعتدال والتوسط، والقرآن ذم إعمال الرأي.[2]
تعريف
الكتاب كلية الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة. والقرآن معجزة الله الباقية الذي أفحم الفصحاء وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، فلا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا، وهو مع ذلك لا يخرج عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى. قال الله تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ وقال: ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا﴾ والقرآن شفاء من الأسقام الظاهرة والباطنة، وهو هداية لمن أراد الاهتداء، والذكر لمن أراد أن يناجي ربه، وكل حرف بعشر حسنات، وهو الحصن لمن أرد التحصن، وفيه نبأ الأمم السابقة، وعلم الأولين والآخرين، والحكم بين الناس بمنهاجه القويم، وفيه كليات الشريعة ومقاصدها.
وأحكام القرآن المتعلقة بالتجويد وعلم القراءات لا يبحث فيها أصول الفقه، بل يبحث فيما له صلة بالأحكام الشرعية.
علوم القرآن
يعد القرآن أصلا شرعيا تبنى عليه الأحكام الشرعية والاستدلال به يستلزم في المستدل به أن تتوفر فيه شروط الاجتهاد، ومنها أن يكون لديه معرفة بالعلوم المتعلقة بالقرآن، وأهمها: علم اللغة وهي الألفاظ ودلالاتها ومتعلقاتها واستعمالاتها إلى غير ذلك من المباحث اللغوية التي تحظى بأولوية في علم أصول الفقه. ومعرفة السنة؛ لأنها بيان القرآن، ومعرفة أسباب التنزيل وهي لازمة لمن أراد علم القرآن والدليل على ذلك أمران أحدهما أن علم المعاني والبيان الذى يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه. الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع.
السنة
السنة هي الأصل الثاني من أصول أدلة الأحكام الشرعية، وتطلق في علم الحديث مرادفة للحديث وتعرف بأنها: «أقوال الرسول ، وأفعاله وتقريراته». مما أفاد حكما شرعياً، ونقله رواة الحديث، مثل قول راوي الحديث: قال رسول الله كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا فأقره ولم ينكره، ومباحث الحديث النبوي متعددة ضمن علوم الحديث فنصوص الحديث مرجعها كتب الحديث، وأحول السند والمتن مرجعه علم مصطلح الحديث، أما علم الأصول؛ فهو يبحث في الحديث من حيث أنه دليل شرعي، تؤخذ منه الأحكام الشرعية، ومن حيث أوجه دلالة النص، وما يوجد فيه من عموم أو خصوص أو نسخ أو غير ذلك، وأفعال الرسول، وما يكون منها للخصوصية مثل: وجوب قيام الليل. وقد تستعمل كلمة: «سنة» بمعنى الطريقة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، إلا أن المقصود بالسنة النبوية في أصول الفقه: الدليل الثاني بعد القرآن وهو الحديث النبوي.
تعريف السنة
السنة في اللغة: الطريقة، فسنة كل أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه، سواء كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها.[3] قال في شرح الكوكب المنير: «ومنه قوله : «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» إلى آخره» وتسمى بها أيضا: العادة والسيرة، قال في البدر المنير: السنة السيرة حميدة كانت أو ذميمة، وقال في القاموس: السنة السيرة، ومن الله تعالى حكمه وأمره ونهيه.[4]
وتطلق السنة في الشرع لمعان متعددة، فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي عليه السلام، وتطلق في اصطلاح أهل الشرع تارة على ما يقابلالقرآن،
الإجماع
( الإجماع)
الإجماع هو الأصل الثالث من أصول الفقه ويطلق في اللغة على أحد معنيين هما: التصميم على الأمر والعزم على فعله وإمضائه، ومنه قوله تعالى على لسان نوح:﴿فأجمعوا أمركم وشركائكم..﴾ الآية. وقوله تعالى في شأن أخوة يوسف: ﴿وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ ومنه قول الرسول: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له».[5] ومن معانيه التواطؤ والاتفاق فيقال: أجمع الناس على كذا أي اتفقوا عليه. وفي الاصطلاح عرفه بدر الدين الزركشي بقوله: «اتفاق مجتهدي أمة محمد بعد وفاته في حادثة، على أمر من الأمور في عصر من الأعصار».[6] فيختص بكونه من أهل الاجتهاد، أما العوام فلا عبرة بوفاقهم ولا بخلافهم ولا يعد دليلا شرعيا، وكونهم من أمة محمد، فخرج به اتفاق الأمم السابقة، وبعد وفاته، على أمر من الأمور الحادثة فخرج بالحادثة: انعقاد الإجماع على الحكم الثابت بالنص والعمل به، وكونه: على أمر من الأمور، يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات.
أحكام الإجماع
يكون الإجماع على حكم شرعي في حادثة لم يرد نص صريح من الكتاب والسنة بخصوصها، ويلزم في حصول الإجماع غياب النص باطراد، ومن الإجماع ما لا يتعلق بغياب النص بل يكون بمعنى: الإجماع على دلالة النص، مثل قول الله تعالى: ﴿وإذا حللتم فاصطادوا﴾ فظاهر الأمر الوجوب لكن انعقد الإجماع على أن دلاة النهي في هذا النص تقتضي الإباحة، فالاصطياد بعد التحلل من المباحات، لا من الواجبات، فهذا الإجماع على خلاف ظاهر النص، وقد يكون الإجماع على دلالة النص، بمقتضى الظاهر.
وفائدة الإجماع مع وجود النص: أن النص دليل نقلي، ولا يكون حجة إلا بنقل صحيح، فإذا كان النص قطعي الثبوت؛ لا يلزم منه أن يكون قطعي الدلالة على ظاهره كالأمر بالصيد بعد التحلل، وإذا دل النص على حكم؛ فدلالته إما أن تكون قطعية، وإما غير قطعية، فقطعي الدلالة هو الذي انعقد الإجماع على دلالته على حكم مخصوص متفق عليه، مثل: فرض الزكاة، فعلماء الفقه يعبرون بالقول: «والزكاة مفروضة بالكتاب والسنة والإجماع»، أو: «والأصل في وجوبها قبل الإجماع: نصوص الكتاب والسنة». وأما النص غير قطعي الدلالة؛ فهو الذي لا تكون دلالته على المقصود منه أمرا متفقا عليه مثل قول الله تعالى: ﴿فصل لربك وانحر﴾، أي: (صلاة العيد) فظاهر الأمر يقتضي الوجوب، لكن دلالته على الوجوب حكم غير مجمع عليه.
قال بدر الدين الزركشي: «لا بد للإجماع من مستند؛ لأن أهل الإجماع ليست لهم رتبة الاستقلال بإثبات الأحكام، وإنما يثبتونها نظرا إلى أدلتها ومأخذها، فوجب أن يكون عن مستند؛ لأنه لو انعقد من غير مستند لاقتضى إثبات الشرع بعد رسول الله وهو باطل وحكى إمام الحرمين في باب القراض من النهاية
القياس
القياس في علم أصول الفقه هو الدليل الرابع من أدلة الفقه الإسلامي بعد الكتاب والسنة والإجماع، وإنما يعد دليلا شرعيا عند عدم وجود دليل شرعي للحكم من نص من الكتاب والسنة والإجماع، فلا قياس مع النص.[12]
أدلة القياس
دلالة القرآن
ومن أشهرها قوله تعالى: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ وقد سئل أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وهو من أئمة اللسان عن "الاعتبار" فقال: أن يعقل الإنسان الشيء فيعقل مثله. فقيل: أخبرنا عمن رد حكم حادثة إلى نظيرها أيكون معتبرا؟ قال: نعم هو مشهور في كلام العرب. حكاه البلعمي في كتاب: «الغرر في الأصول». ونقل القاضي أبو بكر في "التقريب": اتفاق أهل اللغة على أن الاعتبار اسم يتناول تمثيل الشيء بغيره واعتباره به، وإجراء حكمه عليه، والتسوية بينهما في ذلك، وإنما سمي الاتعاظ والفكر اعتبارا؛ لأنه مقصود به التسوية بين الأمر ومثله، والحكم فيه بحكم نظيره، ولولا ذلك لم يحصل الاتعاظ والازدجار عن الذنب بنزول العذاب والانتقام بأهل الخلاف والشقاق، ثم حكي ما سبق عن ثعلب.
واحتج الشافعي رحمه الله تعالى في «الرسالة» بقوله تعالى: ﴿فجزاء مثل ما قتل من النعم﴾ وقال: فهذا تمثيل الشيء بعدله وقال: ﴿يحكم به ذوا عدل منكم﴾ وأوجب المثل ولم يقل أي مثل فوكل ذلك إلى اجتهادنا، وأمرنا بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال فقال: ﴿وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾ واحتج ابن سريج في الودائع بقوله تعالى: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ فأولو الأمر هم العلماء، والاستنباط هو القياس، فصارت هذه الآية كالنص في إثباته. وقوله تعالى: ﴿إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها﴾ الآية؛ لأن القياس تشبيه الشيء فإذا جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية ليريكم وجه ما تعلمون فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز. واحتج غيره بقوله تعالى: ﴿قال من يحيي العظام وهي رميم﴿78﴾ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة.﴾ فهذا صريح في إثبات الإعادة قياسا. وقال الزركشي: واحتج أصحابنا بقوله تعالى: ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ قال: والاستنباط مختص بإخراج المعاني من ألفاظ النصوص، مأخوذ من استنباط الماء إذا استخرج من معدنه.[13]
من السنة
اادليل على القياس السنة كحديث معاذ «أجتهد برأيي ولا آلو»، وقال النبي في خبر المرأة : «أرأيت لو كان على أبيك دين»، وقال لرجل سأله أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليه؟ قال: «أرأيت لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ قال نعم، قال فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر». «عن أبي هريرة قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النبي : هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق».[14] قال المزني: فأبان له بما يعرف أن الحمر من الإبل تنتج الأورق فكذلك المرأة البيضاء تلد الأسود، فقاس أحد نوعي الحيوان على الآخر، وهو قياس في الطبيعيات لأن الأصل ليس فيه نسب حتى نقول قياس في إثبات النسب. وصنف الناصح الحنبلي جزء في أقيسة النبي وثبت ذلك عن الصحابة كقول عمر بن الخطاب لأبي موسى: «واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عندك». وقد تكلم الصحابة في زمن النبي في العلل، ففي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى لما نهى عن تحريم الحمر يوم خيبر قال فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس وقال بعضهم نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة.
إجماع الصحابة
من الأدلة على ثبوت القياس: إجماع الصحابة فإنهم اتفقوا على العمل بالقياس، ونقل ذلك عنهم قولا وفعلا. قال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله، وهو قطعي. وقال الهندي: دليل الإجماع هو المعول عليه جماهير المحققين من الأصوليين، وقال ابن دقيق العيد: عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين قال: وهذا من أقوى الأدلة. وقال ابن برهان: أوجز بعض العلماء العبادة فقال: انعقد الإجماع على أن التعبد بالدليل المقطوع بدليله جائز، فكذلك ينبغي أن يجوز التعبد بالقياس المظنون دليله.
مصدر الأحكام ومدركها
مصدر هذه الأصول كلها هو الله تعالى، فهو الذي صدرت عنه، فالكتاب قوله والسنة بيان للقرآن، أي : بيان الكتاب لقوله تعالى:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(سورة النحل آية: 44). "والإجماع دال على النص" لأنه لا يكون إلا عن مستند من نص أو قياس نص. ومدرك هذه الأصول بمعنى: الطريق إلى إدراكها هو الرسول قال تعالى:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
(سورة الشورى آية: 51). فلم يبق لنا مدرك لهذه الأصول إلا الرسول عليه السلام. فالكتاب نسمع منه تبليغا، والسنة تصدر عنه تبيينا والإجماع والقياس مستندان في إثباتهما إلى الكتاب والسنة.
والاستدلال داخل في حد الدليل، وقد انعقد الإجماع على مشروعية استعماله في استخراج الأحكام، ومرجع هذه الأصول كلها إلى الكتاب؛ لأنها توابع له أو متفرعة عنه.
الأصول التي يبنى الفقه عليها
الأصول التي يبنى عليها الفقه هي الأدلة الإجمالية للفقه أو هي: أدلة الأحكام الشرعية، قال أبو حامد الغزالي في أدلة الأحكام وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي، فأما قول الصحابي وشريعة ما قبلنا فمختلف فيه.[15] والأصل الأول من أصول الأدلة: كتاب الله تعالى، ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس،[16] قال بدر الدين الزركشي: اختلف العلماء في عدد الأصول التي يبنى عليها الفقه، فالجمهور على أنها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. قالالرافعي في باب القضاء: وقد يقتصر على الكتاب والسنة، ويقال: الإجماع يصدر عن أحدهما، والقياس الرد إلى أحدهما فهما أصلان. قال في المطلب: وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا عن أمارة، ولا عن دلالة، وجوز القياس على المحل المجمع عليه. قال أبو حامد الغزالي في المستصفى: «واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أن أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول الرسول ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى. وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه».[15] وفي كلامه: أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حق من تعلق به؛ فلا يظهر إلا بقول الرسول إذ لا يصل إلينا ما جاء من عند الله إلا بواسطته، فباعتبار المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله. وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى، لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق.[15] واختصر بعضهم فقال: أصل ومعقول أصل، فالأصل للكتاب والسنة والإجماع، ومعقول الأصل هو القياس.
أدلة الفقه أو أدلة الأحكام
أدلة الفقه أو أصول الفقه (بالمعنى الإضافي) عند علماء أصول الفقه، هي: موضوع علم الأصول، قد يسميها البعض أدلة الأحكام أو الأدلة الشرعية، بمعنى: الأدلة الموصلة للفقه والدليل عند علماء الأصول، في اللغة هو: (المرشد)، وفي الاصطلاح هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري، أو: ما يتخذ حجةً على أن المبحوث عنه حكم شرعي.[22]
والأدلة الشرعية هي: يتوصل بها المجتهد إلى الأحكام الشرعية، وكونها شرعية بمعنى: أن تؤخذ من الشرع، والشرع هو: (ما شرعه الله على لسان نبيه من الأحكام) فالله تعالى هو المشرع للأحكام، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: مبلغ لما جاء من عند الله بالوحي، ومبين له، وكتاب الله، وسنة رسوله هما: الوحيان، والأصلان، لكل الأدلة الأخرى، التي تعتمد عليهما، ولا تكون دليلا شرعيا إلا إذا استندت عليهما.
الأدلة المتفق عليها
الأدلة الشرعية المتفق عليها عند جمهور الفقهاء أربعة هي:
هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، واستصحاب النفي الأصلي. والاستقراء والمصالح المرسلة وقول الصحابي الذي لا مخالف له والاستحسان وعمل أهل المدينة. ومصدرها الله عز وجل، فالكتاب قوله والسنة بيانه، والإجماع دال على النص. ومدركها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن الله تعالى، والمبين للشرع، ولا سبيل لمعرفة ما جاء من عند الله تعالى بالوحي إلا بواسطته. والأدلة الشرعية ضربان أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض وهو الكتاب والسنة، وثانيهما: وما يرجع إلى الرأي المحض وهو القياس والاستدلال، وأما غيرها فيرجع إلى أحدهما إما باتفاق أو ما يرجع باختلاف،
الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض. وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة، وأما الثاني فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق، وإما باختلاف فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك كله، وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد.
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما هو مذكور في تفصيل ذلك.
والأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول؛ لأن الثاني ثبت عن طريقه، والضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب، وذلك من وجهين أحدهما: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب؛ لأن الدليل على صدق الرسول المعجزة، وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن بقوله: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي». فالقرآن أعظم المعجزات. وقد أمر الله في كتابه بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، سورة النساءآية: ﴿(59)﴾،﴾ وقال: ﴿وأطيعوا الله ورسوله﴾ وأمثالها في مواضع كثيرة؛ وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب، ومما ليس فيه مما هو من سنته، وقال تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ سورة الحشر آية: ﴿(7)﴾، وقال: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ سورة النور ﴿63﴾ إلى ما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب، وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ سورة النحل آية: ﴿(44)﴾، وقال:﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ ﴿سورة المائدة: (67)﴾، وذلك التبليغ من وجهين: تبليغ الرسالة وهو الكتاب، وبيان معانيه.[1]
الكتاب
الأصل الأول من الأصول الشرعية المتفق عليها عند جميع المسلمين هو الكتاب أي: القرآن الكريم وعرفه علماء أصول الفقه بأنه «كتاب الله المنزل بالوحي على رسول الله ، المنقول بالتواتر».
ويبحث علم أصول الفقه في الكتاب من حيث استعمال الألفاظ ودلالاتها على الأحكام الشّرعيّة، والتفسير وأسباب النزول، وأوجه الاستدلال بالكتاب، ومعرفة الحقيقة والمجاز والناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمجمل والمبين، والظاهر والمفهوم والمؤول وأوجه الدلالات فيه، وغير ذلك. ذكر الشاطبي أن الأدلة الشرعية هي الكتاب والسنة والإجماع والرأي، والكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما واقتصر على النظر فيهما؛ لدخول تفاصيل غيرهما ضمنهما، قال: فالأول أصلها وهو الكتاب، وذكر فيه مسائل، منها: اعتماد أن القرآن طريق الهداية، ومعرفة أسباب النزول وأهميته، وسرد قصص القرآن بما هو باطل، ومقارنة الترغيب للترهيب والترهيب للترغيب في القرآن، وتعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، والقرآن فيه بيان كل شيء، وأقسام العلوم المضافة إلى القرآن، والظاهر والباطن في تفسير القرآن، وكون الظاهر في تفسير القرآن هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه، والاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر، والمدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وتفسير القرآن على التوسط والاعتدال، ومعرفة الضابط المعول عليه في مأخذ الفهم في التفسير على الاعتدال والتوسط، والقرآن ذم إعمال الرأي.[2]
تعريف
الكتاب كلية الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة. والقرآن معجزة الله الباقية الذي أفحم الفصحاء وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، فلا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا، وهو مع ذلك لا يخرج عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى. قال الله تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ وقال: ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا﴾ والقرآن شفاء من الأسقام الظاهرة والباطنة، وهو هداية لمن أراد الاهتداء، والذكر لمن أراد أن يناجي ربه، وكل حرف بعشر حسنات، وهو الحصن لمن أرد التحصن، وفيه نبأ الأمم السابقة، وعلم الأولين والآخرين، والحكم بين الناس بمنهاجه القويم، وفيه كليات الشريعة ومقاصدها.
وأحكام القرآن المتعلقة بالتجويد وعلم القراءات لا يبحث فيها أصول الفقه، بل يبحث فيما له صلة بالأحكام الشرعية.
علوم القرآن
يعد القرآن أصلا شرعيا تبنى عليه الأحكام الشرعية والاستدلال به يستلزم في المستدل به أن تتوفر فيه شروط الاجتهاد، ومنها أن يكون لديه معرفة بالعلوم المتعلقة بالقرآن، وأهمها: علم اللغة وهي الألفاظ ودلالاتها ومتعلقاتها واستعمالاتها إلى غير ذلك من المباحث اللغوية التي تحظى بأولوية في علم أصول الفقه. ومعرفة السنة؛ لأنها بيان القرآن، ومعرفة أسباب التنزيل وهي لازمة لمن أراد علم القرآن والدليل على ذلك أمران أحدهما أن علم المعاني والبيان الذى يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه. الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع.
السنة
السنة هي الأصل الثاني من أصول أدلة الأحكام الشرعية، وتطلق في علم الحديث مرادفة للحديث وتعرف بأنها: «أقوال الرسول ، وأفعاله وتقريراته». مما أفاد حكما شرعياً، ونقله رواة الحديث، مثل قول راوي الحديث: قال رسول الله كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا فأقره ولم ينكره، ومباحث الحديث النبوي متعددة ضمن علوم الحديث فنصوص الحديث مرجعها كتب الحديث، وأحول السند والمتن مرجعه علم مصطلح الحديث، أما علم الأصول؛ فهو يبحث في الحديث من حيث أنه دليل شرعي، تؤخذ منه الأحكام الشرعية، ومن حيث أوجه دلالة النص، وما يوجد فيه من عموم أو خصوص أو نسخ أو غير ذلك، وأفعال الرسول، وما يكون منها للخصوصية مثل: وجوب قيام الليل. وقد تستعمل كلمة: «سنة» بمعنى الطريقة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، إلا أن المقصود بالسنة النبوية في أصول الفقه: الدليل الثاني بعد القرآن وهو الحديث النبوي.
تعريف السنة
السنة في اللغة: الطريقة، فسنة كل أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه، سواء كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها.[3] قال في شرح الكوكب المنير: «ومنه قوله : «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» إلى آخره» وتسمى بها أيضا: العادة والسيرة، قال في البدر المنير: السنة السيرة حميدة كانت أو ذميمة، وقال في القاموس: السنة السيرة، ومن الله تعالى حكمه وأمره ونهيه.[4]
وتطلق السنة في الشرع لمعان متعددة، فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي عليه السلام، وتطلق في اصطلاح أهل الشرع تارة على ما يقابلالقرآن،
الإجماع
( الإجماع)
الإجماع هو الأصل الثالث من أصول الفقه ويطلق في اللغة على أحد معنيين هما: التصميم على الأمر والعزم على فعله وإمضائه، ومنه قوله تعالى على لسان نوح:﴿فأجمعوا أمركم وشركائكم..﴾ الآية. وقوله تعالى في شأن أخوة يوسف: ﴿وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ ومنه قول الرسول: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له».[5] ومن معانيه التواطؤ والاتفاق فيقال: أجمع الناس على كذا أي اتفقوا عليه. وفي الاصطلاح عرفه بدر الدين الزركشي بقوله: «اتفاق مجتهدي أمة محمد بعد وفاته في حادثة، على أمر من الأمور في عصر من الأعصار».[6] فيختص بكونه من أهل الاجتهاد، أما العوام فلا عبرة بوفاقهم ولا بخلافهم ولا يعد دليلا شرعيا، وكونهم من أمة محمد، فخرج به اتفاق الأمم السابقة، وبعد وفاته، على أمر من الأمور الحادثة فخرج بالحادثة: انعقاد الإجماع على الحكم الثابت بالنص والعمل به، وكونه: على أمر من الأمور، يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات.
أحكام الإجماع
يكون الإجماع على حكم شرعي في حادثة لم يرد نص صريح من الكتاب والسنة بخصوصها، ويلزم في حصول الإجماع غياب النص باطراد، ومن الإجماع ما لا يتعلق بغياب النص بل يكون بمعنى: الإجماع على دلالة النص، مثل قول الله تعالى: ﴿وإذا حللتم فاصطادوا﴾ فظاهر الأمر الوجوب لكن انعقد الإجماع على أن دلاة النهي في هذا النص تقتضي الإباحة، فالاصطياد بعد التحلل من المباحات، لا من الواجبات، فهذا الإجماع على خلاف ظاهر النص، وقد يكون الإجماع على دلالة النص، بمقتضى الظاهر.
وفائدة الإجماع مع وجود النص: أن النص دليل نقلي، ولا يكون حجة إلا بنقل صحيح، فإذا كان النص قطعي الثبوت؛ لا يلزم منه أن يكون قطعي الدلالة على ظاهره كالأمر بالصيد بعد التحلل، وإذا دل النص على حكم؛ فدلالته إما أن تكون قطعية، وإما غير قطعية، فقطعي الدلالة هو الذي انعقد الإجماع على دلالته على حكم مخصوص متفق عليه، مثل: فرض الزكاة، فعلماء الفقه يعبرون بالقول: «والزكاة مفروضة بالكتاب والسنة والإجماع»، أو: «والأصل في وجوبها قبل الإجماع: نصوص الكتاب والسنة». وأما النص غير قطعي الدلالة؛ فهو الذي لا تكون دلالته على المقصود منه أمرا متفقا عليه مثل قول الله تعالى: ﴿فصل لربك وانحر﴾، أي: (صلاة العيد) فظاهر الأمر يقتضي الوجوب، لكن دلالته على الوجوب حكم غير مجمع عليه.
قال بدر الدين الزركشي: «لا بد للإجماع من مستند؛ لأن أهل الإجماع ليست لهم رتبة الاستقلال بإثبات الأحكام، وإنما يثبتونها نظرا إلى أدلتها ومأخذها، فوجب أن يكون عن مستند؛ لأنه لو انعقد من غير مستند لاقتضى إثبات الشرع بعد رسول الله وهو باطل وحكى إمام الحرمين في باب القراض من النهاية
القياس
القياس في علم أصول الفقه هو الدليل الرابع من أدلة الفقه الإسلامي بعد الكتاب والسنة والإجماع، وإنما يعد دليلا شرعيا عند عدم وجود دليل شرعي للحكم من نص من الكتاب والسنة والإجماع، فلا قياس مع النص.[12]
أدلة القياس
دلالة القرآن
ومن أشهرها قوله تعالى: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ وقد سئل أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وهو من أئمة اللسان عن "الاعتبار" فقال: أن يعقل الإنسان الشيء فيعقل مثله. فقيل: أخبرنا عمن رد حكم حادثة إلى نظيرها أيكون معتبرا؟ قال: نعم هو مشهور في كلام العرب. حكاه البلعمي في كتاب: «الغرر في الأصول». ونقل القاضي أبو بكر في "التقريب": اتفاق أهل اللغة على أن الاعتبار اسم يتناول تمثيل الشيء بغيره واعتباره به، وإجراء حكمه عليه، والتسوية بينهما في ذلك، وإنما سمي الاتعاظ والفكر اعتبارا؛ لأنه مقصود به التسوية بين الأمر ومثله، والحكم فيه بحكم نظيره، ولولا ذلك لم يحصل الاتعاظ والازدجار عن الذنب بنزول العذاب والانتقام بأهل الخلاف والشقاق، ثم حكي ما سبق عن ثعلب.
واحتج الشافعي رحمه الله تعالى في «الرسالة» بقوله تعالى: ﴿فجزاء مثل ما قتل من النعم﴾ وقال: فهذا تمثيل الشيء بعدله وقال: ﴿يحكم به ذوا عدل منكم﴾ وأوجب المثل ولم يقل أي مثل فوكل ذلك إلى اجتهادنا، وأمرنا بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال فقال: ﴿وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾ واحتج ابن سريج في الودائع بقوله تعالى: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ فأولو الأمر هم العلماء، والاستنباط هو القياس، فصارت هذه الآية كالنص في إثباته. وقوله تعالى: ﴿إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها﴾ الآية؛ لأن القياس تشبيه الشيء فإذا جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية ليريكم وجه ما تعلمون فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز. واحتج غيره بقوله تعالى: ﴿قال من يحيي العظام وهي رميم﴿78﴾ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة.﴾ فهذا صريح في إثبات الإعادة قياسا. وقال الزركشي: واحتج أصحابنا بقوله تعالى: ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ قال: والاستنباط مختص بإخراج المعاني من ألفاظ النصوص، مأخوذ من استنباط الماء إذا استخرج من معدنه.[13]
من السنة
اادليل على القياس السنة كحديث معاذ «أجتهد برأيي ولا آلو»، وقال النبي في خبر المرأة : «أرأيت لو كان على أبيك دين»، وقال لرجل سأله أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليه؟ قال: «أرأيت لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ قال نعم، قال فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر». «عن أبي هريرة قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النبي : هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق».[14] قال المزني: فأبان له بما يعرف أن الحمر من الإبل تنتج الأورق فكذلك المرأة البيضاء تلد الأسود، فقاس أحد نوعي الحيوان على الآخر، وهو قياس في الطبيعيات لأن الأصل ليس فيه نسب حتى نقول قياس في إثبات النسب. وصنف الناصح الحنبلي جزء في أقيسة النبي وثبت ذلك عن الصحابة كقول عمر بن الخطاب لأبي موسى: «واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عندك». وقد تكلم الصحابة في زمن النبي في العلل، ففي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى لما نهى عن تحريم الحمر يوم خيبر قال فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس وقال بعضهم نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة.
إجماع الصحابة
من الأدلة على ثبوت القياس: إجماع الصحابة فإنهم اتفقوا على العمل بالقياس، ونقل ذلك عنهم قولا وفعلا. قال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله، وهو قطعي. وقال الهندي: دليل الإجماع هو المعول عليه جماهير المحققين من الأصوليين، وقال ابن دقيق العيد: عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين قال: وهذا من أقوى الأدلة. وقال ابن برهان: أوجز بعض العلماء العبادة فقال: انعقد الإجماع على أن التعبد بالدليل المقطوع بدليله جائز، فكذلك ينبغي أن يجوز التعبد بالقياس المظنون دليله.
مصدر الأحكام ومدركها
مصدر هذه الأصول كلها هو الله تعالى، فهو الذي صدرت عنه، فالكتاب قوله والسنة بيان للقرآن، أي : بيان الكتاب لقوله تعالى:
والاستدلال داخل في حد الدليل، وقد انعقد الإجماع على مشروعية استعماله في استخراج الأحكام، ومرجع هذه الأصول كلها إلى الكتاب؛ لأنها توابع له أو متفرعة عنه.
الأصول التي يبنى الفقه عليها
الأصول التي يبنى عليها الفقه هي الأدلة الإجمالية للفقه أو هي: أدلة الأحكام الشرعية، قال أبو حامد الغزالي في أدلة الأحكام وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي، فأما قول الصحابي وشريعة ما قبلنا فمختلف فيه.[15] والأصل الأول من أصول الأدلة: كتاب الله تعالى، ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس،[16] قال بدر الدين الزركشي: اختلف العلماء في عدد الأصول التي يبنى عليها الفقه، فالجمهور على أنها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. قالالرافعي في باب القضاء: وقد يقتصر على الكتاب والسنة، ويقال: الإجماع يصدر عن أحدهما، والقياس الرد إلى أحدهما فهما أصلان. قال في المطلب: وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا عن أمارة، ولا عن دلالة، وجوز القياس على المحل المجمع عليه. قال أبو حامد الغزالي في المستصفى: «واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أن أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول الرسول ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى. وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه».[15] وفي كلامه: أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حق من تعلق به؛ فلا يظهر إلا بقول الرسول إذ لا يصل إلينا ما جاء من عند الله إلا بواسطته، فباعتبار المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله. وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى، لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق.[15] واختصر بعضهم فقال: أصل ومعقول أصل، فالأصل للكتاب والسنة والإجماع، ومعقول الأصل هو القياس.
أدلة الفقه أو أدلة الأحكام
أدلة الفقه أو أصول الفقه (بالمعنى الإضافي) عند علماء أصول الفقه، هي: موضوع علم الأصول، قد يسميها البعض أدلة الأحكام أو الأدلة الشرعية، بمعنى: الأدلة الموصلة للفقه والدليل عند علماء الأصول، في اللغة هو: (المرشد)، وفي الاصطلاح هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري، أو: ما يتخذ حجةً على أن المبحوث عنه حكم شرعي.[22]
والأدلة الشرعية هي: يتوصل بها المجتهد إلى الأحكام الشرعية، وكونها شرعية بمعنى: أن تؤخذ من الشرع، والشرع هو: (ما شرعه الله على لسان نبيه من الأحكام) فالله تعالى هو المشرع للأحكام، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: مبلغ لما جاء من عند الله بالوحي، ومبين له، وكتاب الله، وسنة رسوله هما: الوحيان، والأصلان، لكل الأدلة الأخرى، التي تعتمد عليهما، ولا تكون دليلا شرعيا إلا إذا استندت عليهما.
الأدلة المتفق عليها
الأدلة الشرعية المتفق عليها عند جمهور الفقهاء أربعة هي: