الحق في نصوص الوعد والوعيد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط

الطيب الجزائري84

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
14 جوان 2011
المشاركات
4,119
نقاط التفاعل
4,692
النقاط
191
العمر
39
الجنس
ذكر
الحق في نصوص الوعد والوعيد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط



الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين.

وبعد، فقد اشتمل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على آيات وأحاديث كثيرة فيها الوعد لمن أطاع الله بالجنة ونعيمها ورضى الرب سبحانه، يطلق عليها نصوص الوعد، وعلى آيات وأحاديث كثيرة فيها الوعيد لمن عصى الله بالنار وعذابها وسخط الله، يطلق عليها نصوص الوعيد، ويأتي فيهما نصوص الوعد دون أن يُقرن معها نصوص الوعيد، ونصوص الوعيد دون أن يقرن معها نصوص الوعد، ويأتي الجمع بينهما، ومما جاء فيه الجمع بين مغفرة الله وعذابه قول الله عز وجل: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وقوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّبَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقوله: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ}، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}، وقوله: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}، ومما جاء فيه الجمع بين الوعد والوعيد قول الله عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، وقوله:{فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}، وقوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)}، وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، وقوله:{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}، وقال صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) رواه البخاري (6487) ومسلم (7130) واللفظ له، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري (7280) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) رواه مسلم (6979).

وقد انقسم الناس في نصوص الوعد والوعيد إلى طرفين ووسط، طرف فرَّطوا فغلَّبوا نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد وهم المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ووصفوا مرتكب الكبيرة بأنه مؤمن كامل الإيمان، وطرف أفرطوا فغلَّبوا نصوص الوعيد وأهملوا نصوص الوعد، فأخرجوا مرتكب الكبيرة من الإيمان وقالوا بتخليده بالنار وهم الخوارج والمعتزلة وزاد الخوارج الحكم عليه بالكفر، وأهل السنة والجماعة توسطوا بين طرفي الإفراط والتفريط، فلم يجعلوا مرتكب الكبيرة مؤمناً كامل الإيمان كما قالت المرجئة، ولم يخرجوه من الإيمان ويقولوا بتخليده في النار كما قالت الخوارج والمعتزلة، وقالوا: هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلم يصفوه بكمال الإيمان ولم يخرجوه من الإيمان، فبقولهم: ((هو مؤمن)) فارقوا الخوارج والمعتزلة، وبقولهم: ((ناقص الإيمان)) فارقوا المرجئة، فقول أهل السنة وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين، كما قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في كتاب العزلة (ص 111):


ولا تغْلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله في المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية (ص 45):

فلا تُفرِّط ولا تُفرِطْ وكن وسطاً ومثل ما أمر الرحمن فاستقمِ

وانظر شرحها (253) للابن الدكتور عبد الرزاق وفقه الله.

وقد اطلعت على مقال نشر في إحدى الصحف بعنوان: ((فن تصعيب دخول الجنة)) أنحى فيه كاتبه باللوم بأسلوب حماسي على من يصعِّب الطريق الموصل إلى الجنة، في الوقت الذي يهوِّن هو فيه الوصول إليها، وقال عن بعض من لامه: ((فإذا وجد العصاة بشَّرهم بالنار وأقسم عليهم أن لا يدخلوا الجنة))! وقال عنهم في حديث ((لا يدخل الجنة نمام)): ((قالوا: معنى الحديث أن النمام خالد في النار محرم عليه دخول الجنة))! والواجب في هذا المقام العدل الذي عليه أهل السنة والجماعة وهو أن كل من مات على الإسلام مرتكباً الكبائر فأمره إلى الله: إن شاء عفى عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذَّبه في النار ثم أدخله الجنة، فمآل العصاة إلى الجنة ولا بد، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار، وليس من شأن المسلم أن يبشر العصاة بالنار ويُقسم عليهم بعدم دخول الجنة ولا أن يقول بتخليدهم في النار؛ فإن هذا ليس قول أهل السنة وإنما هو قول الخوارج والمعتزلة وعسى أن يكون هذا من حماس الكاتب فقط، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر عن الصعوبة والمشقة التي في الطريق إلى الجنة لتعمل أمته الأعمال الصالحة الموصلة إليها، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: ((حُفَّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) والمعنى أن الطريق الموصل إلى الجنة فيه نصب وتعب في الإتيان بالطاعات والصبر عليها ولو شقت على النفوس؛ لأن العاقبة حميدة، والطريق الموصل إلى النار محفوف بالشهوات التي توصل إليها، فيصبر المسلم عن المعاصي واتباع الشهوات ولو مالت إليها النفوس؛ لأن العاقبة في عدم الصبر وخيمة، وقد مر قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))، ومقتضاه الصبر على الطاعات ولو شقت على النفوس والصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس، وفي صحيح البخاري (6474) قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) يعني اللسان والفرج، وضمان ما بين اللحيين والرجلين فيه مشقة لا بد فيها من الصبر عن المعاصي التي تأتي من طريقهما، ولما سأل معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبره بعمل يقربه من الجنة ويباعده من النار، أجابه بقوله: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة تؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)) الحديث، وهو حديث صحيح رواه الترمذي (2616) وغيره، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم العمل المسئول عنه بكونه عظيماً فيه تعب ومشقة، وهذا العمل الذي دله عليه هو أركان الإسلام الخمسة، وأهمها بعد التوحيد الصلاة التي تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم خاف على أمته الاتكال على نصوص الوعد والتهاون في العمل، ولما بيَّن صلى الله عليه وسلم لمعاذ حق الله على العباد وهو التوحيد وحق العباد على الله وهو ألا يعذبهم، قال له معاذ: ((أفلا أبشّر الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تبشرهم فيتكلوا)) رواه البخاري (5967) ومسلم (143).

وقد جعل الله أعمال العباد سبباً في دخول الجنة بفضله ورحمته وسبباً في دخول النار بعدله وحكمته، قال الله عز وجل: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومع ذلك كان يقوم من اليل حتى تفطرت قدماه، فقد روى البخاري (4837) ومسلم (7126) عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟))، وكان من سلف هذه الأمة من يجتهدون في عبادة ربهم مدة حياتهم، ومن أعجب ما وقفت عليه في ذلك ما في ترجمة صفوان بن سُليم في تهذيب التهذيب (4/425): ((وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان ولو قيل له: (غداً القيامة) ما كان عنده مزيد))، وأيضاً ما في ترجمة منصور بن زاذان فيه (10/306): ((وقال إبراهيم بن عبد الله الهروي عن هشيم: لو قيل لمنصور ابن زاذان: (إن ملك الموت على الباب) ما كان عنده زيادة في العمل)).

والمسلم يسير إلى الله عز وجل متصفاً بالخوف والرجاء؛ كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}، وقال:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، وفي فتح الباري (8/553): ((كان العلاء بن زياد يذكر النار، فقال رجل: لم تقنِّط الناس؟! قال: وأنا أقدر أقنط الناس والله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}، ويقول: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّار}؟! ولكنكم تحبون أن تبشَّروا بالجنة على مساوئ أعمالكم، وإنما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم مبشراً بالجنة لمن أطاعه ومنذراً بالنار لمن عصاه))، وقال الحسن البصري رحمه الله: ((المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن)) نقله عنه ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، وقال أبو عثمان الحيري رحمه الله: ((من علامة السعادة أن تطيع وتخاف ألا تقبل، ومن علامة الشقاء أن تعصي الله وترجو أن تنجو)) الحلية لأبي نعيم (10/246) والفتح (11/301)، وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح العقيدة الطحاوية (ص 456): ((يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً؛ فإن الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، والرجاء المحمود رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةََ اللَّهِوَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب، قال أبو علي الروذبادي رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت ... فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنا، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خِفْته هربتَ منه، إلا الله تعالى فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه))، إلى أن قال: ((وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه، وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد)).

وإن مما يؤسف له أن يُبتلى عدد قليل من طلبة العلم بالنيل من الشيخ العلامة المحدث الألباني رحمه الله ووصفه بالإرجاء، في الوقت الذي سلم منهم دعاة التغريب قتلة الأخلاق الذين يسعون جاهدين للإفساد في بلاد الحرمين بعد إصلاحها، وسلم منهم أهل الزندقة وأهل الزيغ والضلال، وكأنه ليس أمامهم في الميدان إلا هذا الرجل ذو الجهود العظيمة في خدمة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان عقيدة السلف، وما أحسن الأثر الذي نقله ابن كثير في البداية والنهاية (13/121) عن سفيان بن حسين قال: ((ذكرتُ رجلا بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي، وقال: أغزوت الروم؟! قلت: لا، قال: فالسند والهند والترك؟! قلت: لا، قال: أفتَسْلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال: فلم أعد بعدها))، وهم بنيلهم من الشيخ الألباني رحمه الله يُهدون له بعض حسناتهم، ومن الخير لهم أن يُبقوا على تلك الحسنات وأن يستفيدوا من علمه ويوجِّهوا سهامهم إلى غيره ممن يستحق أن توجه إليه، وقد وقفت في كلامه على ما يوضح سلامته من الإرجاء؛ وذلك في مقدمة تحقيقه لكتاب ((رياض الصالحين)) للنووي (ص 14 ـ 16) وفي شرحه وتعليقه على ((العقيدة الطحاوية)) (ص 42)، وجاء في شرحه المسجل للأدب المفرد في الشريط السادس قوله: ((وهذا ليدل على أن الإيمان بدون عمل لا يفيد، وأن العمل الصالح هو من الإيمان، كما نحن في صدد الحديث الآن، لذلك يعني فائدة السنة هو تقويم المفاهيم المعوجة، فالله حينما يذكر الإيمان يذكره مقروناً بالعمل الصالح؛ لأننا لا نستطيع أن نتصور إيماناً بدون عمل صالح إلا لإنسان نتخيله تخيلاً: آمن من هنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومات من هنا، هذا نستطيع أن نتصوره، لكن إنسان يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو يعيش دهراً ما شاء الله ولا يعمل صالحاً فعدم عمله الصالح هو كدليل أنه يقولها بلسانه ولما يدخل الإيمان إلى قلبه، فذِكر الأعمال الصالحة بعد الإيمان هو ليدل على أن الإيمان النافع هو الذي يكون مقروناً بالعمل الصالح))، وما جاء عنه في الموضوع من كلام فيه إجمال واحتمال ينبغي أن يحمل على أحسن المحامل فيحمل على كلامه المفسَّر، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على البكري (ص 324): ((ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على مجمله، وصريحه يقدَّم على كنايته)).

وأنا إذ أخالف الشيخ الألباني في بعض المسائل التي أرى أنه أخطأ فيها وهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده أشرت إليها في رسالة ((رفقاً أهل السنة بأهل السنة)) فأنا لا أستغني وأرى أنه لا يستغني غيري عن كتبه والإفادة منها، ولا أعلم له نظيراً في هذا العصر في العناية بالحديث وسعة الاطلاع فيه، وكلٌ يؤخذ من قوله ويردُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ذلك الإمام مالك رحمه الله.

وهذه بعض النقول عن جماعة من أهل العلم في تقرير وتوضيح اغتفار خطأ العالم في صوابه الكثير:

قال الإمام الذهبي (748هـ): ((ثم إن الكبير من أئمَّة العلم إذا كثر صوابُه، وعُلم تحرِّيه للحقِّ، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعه واتِّباعه، يُغفر له زلَلُه، ولا نضلِّله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم!ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك))، سير أعلام النبلاء (5/271)، وقال أيضاً: ((ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة))، السير (14/39 ـ 40)، وقال أيضاً: ((ولو أنَّ كلَّ من أخطأ في اجتهاده ـ مع صحَّة إيمانه وتوخِّيه لاتباع الحقِّ ـ أهدرناه وبدَّعناه، لقلَّ مَن يسلم من الأئمَّة معنا، رحم الله الجميعَ بمنِّه وكرمه))، السير (14/376)، وقال ابن القيم (751هـ): ((معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأنَّ فضلَهم وعلمَهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كلِّ ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول، فقالوا بمبلغ علمهم والحقُّ في خلافها، لا يوجب اطِّراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثم ولا نعصم )) إلى أن قال: ((ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أنَّ الرَّجلَ الجليل الذي له في الإسلام قدَم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلَّة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين))، إعلام الموقعين (3/295)، وقال ابن رجب الحنبلي (795هـ): ((ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير من صوابه))، القواعد (ص:3).

وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وسائر المسلمين لتحصيل العلم النافع والعمل به والثبات على الصراط المستقيم، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



عبد المحسن بن حمد العباد البدر

المصدر موقع الشيخ العلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه الله
 
بورك في قلمك الذهبي جعلها الله في ميزان حسناتك يارب العالمين اجمعين
 
جزاك الله خيرا اخى الطيب
 
بورك في قلمك الذهبي جعلها الله في ميزان حسناتك يارب العالمين اجمعين
وفيك بارك الله أخي إلياس جزاك الله خيرا
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top