- إنضم
- 24 ديسمبر 2011
- المشاركات
- 24,732
- نقاط التفاعل
- 28,217
- النقاط
- 976
- محل الإقامة
- فار إلى الله
- الجنس
- ذكر
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( فقه الموت ))
فقه الموت الجزء الاول
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8].
وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
الموت: تغير حال الإنسان، وانتقال من دار إلى دار.
والروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة أو منعمة، ومفارقتها للجسد معناه: خروج الجسد عن طاعتها، وسكونه عن الحركة بفقدها، فإن الأعضاء والجوارح آلات للروح تستعملها.
والروح بنفسها تَعْلم الأشياء من غير إعلام، ولذلك قد يتألم بنفسه بأنواع الغم والحزن والكمد، ويتنعم بأنواع الفرح والسرور، وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء.
فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد عند البعث.
وكل أعضاء الإنسان آلات والروح مستعملة لها، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها على الروح.
والإنسان في الحقيقة هو الروح المدرك للعلوم والآلام واللذات، وذلك لا يموت ولا ينعدم، ومعنى الموت انقطاع تصرفه عن البدن، وخروج البدن على أن يكون آلة له، فحقيقة الإنسان نفسه وروحه وهي باقية.
والموت أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنى له ذلك، والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8].
والنفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل، وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان، حين لا تقبل توبة، ولا ينفع إيمان، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} ... [ق: 19].
والمؤمن يكشف له بعد الموت من سعة جلال الله، ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن الضيق، كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، لا يبلغ طرفه أقصاه.
ونسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم وأعظم.
والناس في هذه الدنيا ثلاثة:
إما منهمك في الدنيا وإما تائب مبتدي، وإما عارف منته.
فالغافل المنهمك في الدنيا، لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه، ويشتغل بمذمته، وإن ذُكِّر به كرهه، ونفر منه، فهذا يزيده ذكر الموت من الله بعداً؛ لجهله وسوء عمله.
وأما التائب: فإنه يكثر من ذكّر الموت، لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خوفاً من الموت قبل التوبة، وإصلاح الزاد.
فهذا معذور في كراهة الموت؛ لأنه ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، كالذي يتأخر على لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه.
وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه.
وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائماً؛ لأنه موعد لقائه لحبيبه والحبيب لا ينسى قط موعد لقاء حبيبه، فهو مستعد كل وقت في كمال زينته بإيمانه وطاعته للقاء محبوبه.
وهذا غالباً إما أن يكره الموت ليكمل استعداداته وزينته للقاء ربه، وإما أن يستبطيء مجيء الموت، ويحب مجيئه، ويتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين.
والموت هادم اللذات، وخطره عظيم، وما بعده أفظع منه، وغفلت الناس عنه بسبب قلة ذكرهم له، وقلة فكرهم فيه.
ومن يذكره من الناس لا يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه.
فالطريق النافع أن يفرِّغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت، الذي هو بين يديه، وأقرب من شراك نعله إليه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه.
وعند ذلك يقل فرحه وسروره في الدنيا، وينكسر قلبه.
وأنجع طريق فيه أن يكثر من ذكر أقرانه، الذين ماتوا قبله، فيتذكر صورهم في مناصبهم، وقصورهم وأحوالهم، ثم يتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وكيف محا التراب الآن حُسْن صورهم؟.
وكيف تقطعت أوصالهم في قبورهم؟.
وكيف خرست ألسنتهم، وصمت أذانهم، وعميت أبصارهم؟
وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أطفالهم، وقسمت أموالهم؟.
وكيف خلت منهم دورهم ومساجدهم ومجالسهم؟
وماذا قالوا؟ وماذا قيل لهم؟ وماذا عملوا؟ وماذا وجدوا؟.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
فما أعظم الخطب، وما أشد الكرب هناك حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ لدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
وطول الأمل في الدنيا داء وبلاء وشقاء، وسببه أمران:
الجهل .. وحب الدنيا.
فأما الجهل: فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يعلم أن الموت في الشباب أكثر.
وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، والموت يطلب الإنسان كما يطلبه رزقه.
قال النبي «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (1).
وأما حب الدنيا: فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها، وعلائقها وضيعاتها، وأرباحها ومكاسبها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، ومكدر أنسها ونعيمها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه.
والإنسان مشغوف بحب الدنيا والأماني الباطلة، فلا يزال يلهو ويلعب، ويبني ويهدم، ويجمع ويفرق، ويسعى لتكميل الشهوات واللذات، ويسوِّف ويؤخر التوبة، ويظل عاكفاً على عمارة ما أمر بتخريبه والإعراض عنه، وعلى تخريب ما أمر بتعميره والاستكثار منه، وما يلزم لها من الإيمان والطاعات ولا يزال كذلك حتى تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسراته وتتحقق خسارته.
فما أعظم خسارة هؤلاء، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} ... [الأعراف: 51].
وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
وإذا عرفنا سبب كراهية الموت، وأنه الجهل، وحب الدنيا، فلا بدَّ للسلامة والنجاة مما بعد الموت، من معرفة العلاج، والشروع في التداوي قبل حلول الأجل.
أما الجهل: فيُدفع بالفكر والتأمل، وبسماع الحكمة من القلوب الزاكية الطاهرة، وبذلك يعلم العبد أن عمله الصالح في الدنيا لا بدَّ له من جزاء وثواب في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بعد الموت، فالموت باب النعيم للمتقين، وباب الشقاء للمجرمين.
وأما حب الدنيا فهو الداء العضال الذي أعيى الأولين والآخرين علاجه، فإخراجه من القلب شديد، ولا علاج له إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما فيه من عظيم العقاب لمن عصى الله، وجزيل الثواب لمن أطاعه.
ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا.
وإذا رأى العبد حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، ولو أعطي ملك الارض من المشرق إلى المغرب، فإن حب العظيم هو الذي يمحو من القلب حب الحقير.
فما أعظم الموت، وما أعظم الغفلة عنه، فكم من الخلق جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا
أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً.
****
فقه الموت الجزء الثانى
فما أعظم الموت، وما أشد سكراته .. وما أعظم هول ما بعده.
ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره.
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل.
فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
والمشروع عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكينة، ومن لسانه أن يكون ناطقاً بالشهادة، ومن قلبه أن يكون حَسَن الظن بالله تعالى.
ويستحب أن يذكر للمحتضر محاسن أعماله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.
ثم يُغسَّل الميت ويصلَّى عليه، ثم يُدفن، ويبقى في قبره منتظراً يوم البعث، ويظل في قبره منعماً أو معذباً حسب عمله، ثم يبعث وينتقل إلى دار القرار في الجنة أو النار.
كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: 14].
وليس معنى الموت انتهاء الحياة وانتهاء المشاكل، بل معناه انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة، إما في سعادة، أو في شقاء. فمعناه نهاية الحياة والأحوال الفانية، وبداية الحياة والأحوال الأبدية.
فالله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، ولكن الإنسان خُلق للبقاء، لكنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار.
والإنسان إذا مات وفارق الحياة لايستطيع أن يأخذ معه من الأموال شيئاً، ولو أخذ كل ذهب الدنيا معه لكان كالتراب بالنسبة لنعيم الجنة.
فكل ما في الدنيا لايساوي ثواب حسنة واحدة يوم القيامة، والإنسان إذا مات يذهب بالأعمال إلى الآخرة، وبعد الموت إما أن تنتهي المشكلة ويدخل الجنة، أو تبدأ المشكلة ويدخل النار.
فالناس لا بدَّ لهم من السجن:
فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» أخرجه مسلم (1).
ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامه، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم.
فالناس رجلان: إما خارج من السجن .. وإما ذاهب إلى السجن.
وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها.
وقد فرغ الله إلى كل عبد من خمس:
من عمله .. وأجله .. ورزقه .. وأثره .. ومضجعه.
ومهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها.
وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة.
وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان .. إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له علم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب.
وقد أخفى الله عزَّ وجلَّ علم الساعة، ومعرفة الآجال؛ رحمة بالعباد.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة.
وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟.
فلو أن عبداً من عبيدك عمل على أن يسخطك أعواماً، ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه، ولم يفز لديك بما يفوز به مَنْ همه رضاك في كل أوقاته.
وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} ... [النساء: 17].
وأوحش ما يكون الناس في ثلاثة مواطن:
يوم يولد الإنسان فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه فيصرخ.
ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم من قبل.
ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم.
والأجل أجلان:
أجل مطلق لا يعلمه إلا الله، فهذا لا يتبدل ولا يتغير.
وأجل مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فإن الله أمر الملك أن يكتب للعبد أجلاً، وقال إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر.
فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر كما قال سبحانه: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه (1).
والأجل قسمان:
أحدهما: أجل كل عبد الذي ينقص به عمره.
الثاني: أجل القيامة العامة.
فأجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده كالملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله كما قال «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (1).
أما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا الله عز وجل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 2].
فوقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما من المخلوقات.
والله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل العبد رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب.
والله عزَّ وجلَّ قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير الخلق حين خلقهم وأوجدهم، ثم يقدر في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وكذلك يقدر الله خلق كل إنسان في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة كذلك، ثم يكون مضغة كذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات:
بكتب رزقه .. وأجله .. وعمله .. وشقي أو سعيد.
وإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظمها.
ثم إذا ولد قُدِّر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر.
ونظير هذا: عرض أعمال العباد على الله، فيعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُعْرَضُ أعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» أخرجه مسلم (1).
ويعرض عمل النهار في آخره، وعمل الليل في آخره، ويرفع عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار.
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض الأسبوعي في الإثنين والخميس، والعرض فيه أخص من العرض السنوي في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله، وعرض على الله، وطويت الصحف، وهذا عرض آخر، ثم تعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)} ... [الكهف: 48].
وتعرض جهنم على الكفار كما قال سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100].
ومن الناس من أحب الموت .. ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته لله .. وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا .. أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب .. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى .. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة.
والإحياء والإماتة أمران مكروران في كل لحظة، معروضتان لحس الإنسان وعقله، وسر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ربه بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
فلما قال الكافر (أنا أحيي وأميت) عَدَل إبراهيم عن هذه السنة الكونية الخفية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويجادل في الله، ليريه أن الرب وحده هو مصرف هذا الكون كله، وهو رب الناس المشرع لهم فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وتلك حقيقة مكرورة مرئية يومية، معلومة لكل أحد.
فماذا حصل؟.
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء.
وكان التسليم أولى، والإيمان أجدر، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق أمسك بالذي كفر، ولم يهده الله إلى الحق؛ لأنه لم يلتمس الهداية، ولم يرغب في الحق، وظل ظالماً: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
وهذا مثل للضلال والعناد يتزود به الدعاة إلى الله في مواجهة المنكرين.
والإحياء والإماتة، وطلوع الشمس من المشرق آيتان عظيمتان معروضتان للبصائر والأبصار بلا تكلف، يسهل الاهتداء بهما في مسألة الإيمان على أي مخلوق، وإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟، ولتنظر نفس ماذا تريد؟.
أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض؟
أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى حياة أكبر من هذه الدنيا؟.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران: 145].
وشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.
****
فقه الموت - الجزء الثالث
الذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام والبهائم، ثم يموت خاسراً في موعده المضروب بأجله المكتوب.
أما الذين يدركون نعمة الإيمان فيحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه، وأعلى مكانه، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، وينهضون بتبعات الإيمان، ثم يموت هذا الإيمان رابحاً مطمئناً في موعده المضروب، وأجله المكتوب.
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت وهي لا تملكه، إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه اختيار الدنيا أو الآخرة، وتنال في الآخرة جزاء ما تختار.
والله عزَّ وجلَّ وحده هو الذي يحيي ويميت، فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى.
وللناس آجال لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين طلب الرزق، أو ميادين الغزو، وعنده الجزاء بعد ذلك، هذا اعتقاد المؤمن.
أما الكفار فلفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، لا يرون إلا الأسباب الظاهرة؛ بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.
فعلة القتل أو الموت أو الحياة كلها بيد الله سبحانه، والموتى والقتلى إنما يلبون النداء، وهو استيفاء الأجل، ونداء المضجع.
وقدر الله وسنته في الحياة والموت كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)} ... [آل عمران: 156].
وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل، فهذه ليست نهاية المطاف، بل هناك حياة أخرى، ونعيم أعلى خير مما فيه أهل الدنيا: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 157].
وكل الخلق بعد الموت راجعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة، موت أو قتل، في الموعد المسمى.
وهناك إما مغفرة من الله ورحمة ... أو غضب من الله وعذاب.
وبهذا اليقين تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر.
وإلى ما وراء القدر من حكمة .. وما وراء الابتلاء من جزاء: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11].
والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، وهم تحت سيطرته وقهره، فهم ضعاف في قبضة هذا السلطان، لا قوة لهم ولا ناصر، وكل نَفَس من أنفاسهم بقدر.
خلقهم الله لعبادته، وأرسل إليهم رسلاً يحفظونهم، ورسلاً آخرين يدعونهم إلى الله، ورسلاً آخرين يقبضون أرواحهم، وكل يؤدي رسالته حسب أمر ربه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61].
وسَيُرد الخلق كلهم بعد الموت إلى ربهم ومولاهم الذي أنشأهم وأطلقهم للحياة ما شاء، ثم مردهم إليه عندما يشاء، ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب.
فهو وحده يحكم .. وهو وحده يحاسب .. وهو لا يبطئ في الحكم .. ولا يمهل في الجزاء: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 62].
فلا بدَّ للناس أن يستيقنوا أن الله محاسبهم ومجازيهم على أساس شريعته هو لا شريعة غيره، وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون من أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وأنهم سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا إلهاً في الأرض، ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة، وأشركوا مع الله غيره من خلقه.
والأمر كله لله، وسنة الله ماضية لا تتخلف، وأَجَله الذي أَجَّله لا يستعجل لكل حي، ولكل فرد، ولكل أمة: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} ... [يونس: 49].
والآجال كالأرزاق كلها بيد الله، والأسباب والأمراض ستار وراءه قدرة الله.
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي، هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود .. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، هلاك الهزيمة والضياع .. وهو ما يقع للأمم إما لفترة تعود بعدها للحياة .. وإما دائماً فتضمحل، وتنمحي شخصيتها، وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.
وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل مصادفة ولا ظلماً.
فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا، والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها.
والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها، لا بمجرد الاعتقاد فقط، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة، والحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 24 - 25].
والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله وحده يملك الحياة والموت: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} [المؤمنون: 80].
فالبشر كلهم أعجز وأقل من بث الحياة في حشرة واحدة، وأعجز من سلبها عن حي من الأحياء، فالذي يملك ويهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها.
والبشر قد يكونون سبباً لإزهاق الروح، لكن تجريد الحي من حياته بيد الله وحده، والذي يملك اختلاف الليل والنهار هو الله وحده، وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة .. هذه في النفوس والأجساد .. وتلك في الكون والأفلاك.
وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن.
فسبحان الخالق المالك الذي يملك وحده تصريف هذا الكون الهائل، وهذه الأحياء المبثوثة من نبات وحيوان، وطير وإنسان.
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ ملك الموت بقبض جميع الأرواح كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11].
ولملك الموت أعوان من الملائكة كما قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} ... [الأنفال: 50 - 51].
إن أمر النشأة الأولى ونهايتها، أمر الحياة والموت، كل ذلك بيد الله وحده، وهو أمر مألوف وواقع في حياة الناس، فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم.
إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري، أو يجادل فيه: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة: 57 - 59].
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُوْدِع الرجل ما يُمْني رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة الإلهية في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، حتى يكون خلقاً آخر، حتى يكون بشراً سوياً له سمع وبصر، وقلب وروح، وعقل وإدراك، ورأس ولسان، وأيد وأقدام.
يأكل ويشرب .. ويضحك ويبكي .. ويقوم ويقعد .. وينام ويستيقظ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 12 - 16].
هذه هي البداية، أما النهاية فهي الموت الذي ينتهي إليه كل حي، إنه قدر الله، ومن ثم لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بدَّ أن تتكامل: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 60 - 62].
والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة، قدّر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20].
والله سبحانه القادر على كل شيء، وله القدرة المطلقة التي لا تتقيد بقيد، وهذه حقيقة يطبعها القرآن في قلب المؤمن، فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه، فإنما يركن إلى قادر يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} ... [الحج: 6 - 7].
فعلى الإنسان أن يستعد للموت ويكثر من ذكره، والاستعداد للموت يكون المحرمات.
وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن الموت فيه فراق العمل والحرث للآخرة، لا على أنه فراق للأهل والأحباب ولذات الدنيا، فهذه نظرة قاصرة تزيده حسرة وألماً.
أما النظرة الأولى: فتبعثه ليستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله.
والمسلم لا يتمنى الموت، إن كان محسناً لعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً لعله أن يتوب.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي» متفق عليه (1).
وحياة الإنسان خطوات إلى الآخرة، وأنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَس منها يقابله آلاف الآلاف من السنين في دار البقاء.
والعبد منساق بزمنه إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، وبقاؤه في الدنيا كساعة من النهار، فما أولى العاقل أن لا يصرف منها نَفَساً، إلا في أحب الأمور إلى الله، فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه؟ وكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟.
وسيُسأل كل إنسان عما قدم وأخر .. وعن كل طاعة عملها .. وعن كل معصية فعلها .. وعن كل فاحشة اقترفها.
وسيرجع الناس إلى ربهم يوم القيامة، وسيحاسبهم على كل ما عملوه .. وكل ما أسروه وأعلنوه .. وكل ما جمعوه وفرقوه .. وكل ما حفظوه وضيعوه كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( فقه الموت ))
فقه الموت الجزء الاول
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8].
وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
الموت: تغير حال الإنسان، وانتقال من دار إلى دار.
والروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة أو منعمة، ومفارقتها للجسد معناه: خروج الجسد عن طاعتها، وسكونه عن الحركة بفقدها، فإن الأعضاء والجوارح آلات للروح تستعملها.
والروح بنفسها تَعْلم الأشياء من غير إعلام، ولذلك قد يتألم بنفسه بأنواع الغم والحزن والكمد، ويتنعم بأنواع الفرح والسرور، وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء.
فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد عند البعث.
وكل أعضاء الإنسان آلات والروح مستعملة لها، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها على الروح.
والإنسان في الحقيقة هو الروح المدرك للعلوم والآلام واللذات، وذلك لا يموت ولا ينعدم، ومعنى الموت انقطاع تصرفه عن البدن، وخروج البدن على أن يكون آلة له، فحقيقة الإنسان نفسه وروحه وهي باقية.
والموت أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنى له ذلك، والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8].
والنفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل، وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان، حين لا تقبل توبة، ولا ينفع إيمان، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} ... [ق: 19].
والمؤمن يكشف له بعد الموت من سعة جلال الله، ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن الضيق، كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، لا يبلغ طرفه أقصاه.
ونسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم وأعظم.
والناس في هذه الدنيا ثلاثة:
إما منهمك في الدنيا وإما تائب مبتدي، وإما عارف منته.
فالغافل المنهمك في الدنيا، لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه، ويشتغل بمذمته، وإن ذُكِّر به كرهه، ونفر منه، فهذا يزيده ذكر الموت من الله بعداً؛ لجهله وسوء عمله.
وأما التائب: فإنه يكثر من ذكّر الموت، لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خوفاً من الموت قبل التوبة، وإصلاح الزاد.
فهذا معذور في كراهة الموت؛ لأنه ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، كالذي يتأخر على لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه.
وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه.
وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائماً؛ لأنه موعد لقائه لحبيبه والحبيب لا ينسى قط موعد لقاء حبيبه، فهو مستعد كل وقت في كمال زينته بإيمانه وطاعته للقاء محبوبه.
وهذا غالباً إما أن يكره الموت ليكمل استعداداته وزينته للقاء ربه، وإما أن يستبطيء مجيء الموت، ويحب مجيئه، ويتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين.
والموت هادم اللذات، وخطره عظيم، وما بعده أفظع منه، وغفلت الناس عنه بسبب قلة ذكرهم له، وقلة فكرهم فيه.
ومن يذكره من الناس لا يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه.
فالطريق النافع أن يفرِّغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت، الذي هو بين يديه، وأقرب من شراك نعله إليه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه.
وعند ذلك يقل فرحه وسروره في الدنيا، وينكسر قلبه.
وأنجع طريق فيه أن يكثر من ذكر أقرانه، الذين ماتوا قبله، فيتذكر صورهم في مناصبهم، وقصورهم وأحوالهم، ثم يتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وكيف محا التراب الآن حُسْن صورهم؟.
وكيف تقطعت أوصالهم في قبورهم؟.
وكيف خرست ألسنتهم، وصمت أذانهم، وعميت أبصارهم؟
وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أطفالهم، وقسمت أموالهم؟.
وكيف خلت منهم دورهم ومساجدهم ومجالسهم؟
وماذا قالوا؟ وماذا قيل لهم؟ وماذا عملوا؟ وماذا وجدوا؟.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
فما أعظم الخطب، وما أشد الكرب هناك حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ لدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
وطول الأمل في الدنيا داء وبلاء وشقاء، وسببه أمران:
الجهل .. وحب الدنيا.
فأما الجهل: فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يعلم أن الموت في الشباب أكثر.
وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، والموت يطلب الإنسان كما يطلبه رزقه.
قال النبي «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (1).
وأما حب الدنيا: فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها، وعلائقها وضيعاتها، وأرباحها ومكاسبها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، ومكدر أنسها ونعيمها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه.
والإنسان مشغوف بحب الدنيا والأماني الباطلة، فلا يزال يلهو ويلعب، ويبني ويهدم، ويجمع ويفرق، ويسعى لتكميل الشهوات واللذات، ويسوِّف ويؤخر التوبة، ويظل عاكفاً على عمارة ما أمر بتخريبه والإعراض عنه، وعلى تخريب ما أمر بتعميره والاستكثار منه، وما يلزم لها من الإيمان والطاعات ولا يزال كذلك حتى تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسراته وتتحقق خسارته.
فما أعظم خسارة هؤلاء، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} ... [الأعراف: 51].
وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
وإذا عرفنا سبب كراهية الموت، وأنه الجهل، وحب الدنيا، فلا بدَّ للسلامة والنجاة مما بعد الموت، من معرفة العلاج، والشروع في التداوي قبل حلول الأجل.
أما الجهل: فيُدفع بالفكر والتأمل، وبسماع الحكمة من القلوب الزاكية الطاهرة، وبذلك يعلم العبد أن عمله الصالح في الدنيا لا بدَّ له من جزاء وثواب في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بعد الموت، فالموت باب النعيم للمتقين، وباب الشقاء للمجرمين.
وأما حب الدنيا فهو الداء العضال الذي أعيى الأولين والآخرين علاجه، فإخراجه من القلب شديد، ولا علاج له إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما فيه من عظيم العقاب لمن عصى الله، وجزيل الثواب لمن أطاعه.
ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا.
وإذا رأى العبد حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، ولو أعطي ملك الارض من المشرق إلى المغرب، فإن حب العظيم هو الذي يمحو من القلب حب الحقير.
فما أعظم الموت، وما أعظم الغفلة عنه، فكم من الخلق جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا
أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً.
****
فقه الموت الجزء الثانى
فما أعظم الموت، وما أشد سكراته .. وما أعظم هول ما بعده.
ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره.
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل.
فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
والمشروع عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكينة، ومن لسانه أن يكون ناطقاً بالشهادة، ومن قلبه أن يكون حَسَن الظن بالله تعالى.
ويستحب أن يذكر للمحتضر محاسن أعماله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.
ثم يُغسَّل الميت ويصلَّى عليه، ثم يُدفن، ويبقى في قبره منتظراً يوم البعث، ويظل في قبره منعماً أو معذباً حسب عمله، ثم يبعث وينتقل إلى دار القرار في الجنة أو النار.
كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: 14].
وليس معنى الموت انتهاء الحياة وانتهاء المشاكل، بل معناه انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة، إما في سعادة، أو في شقاء. فمعناه نهاية الحياة والأحوال الفانية، وبداية الحياة والأحوال الأبدية.
فالله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، ولكن الإنسان خُلق للبقاء، لكنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار.
والإنسان إذا مات وفارق الحياة لايستطيع أن يأخذ معه من الأموال شيئاً، ولو أخذ كل ذهب الدنيا معه لكان كالتراب بالنسبة لنعيم الجنة.
فكل ما في الدنيا لايساوي ثواب حسنة واحدة يوم القيامة، والإنسان إذا مات يذهب بالأعمال إلى الآخرة، وبعد الموت إما أن تنتهي المشكلة ويدخل الجنة، أو تبدأ المشكلة ويدخل النار.
فالناس لا بدَّ لهم من السجن:
فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» أخرجه مسلم (1).
ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامه، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم.
فالناس رجلان: إما خارج من السجن .. وإما ذاهب إلى السجن.
وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها.
وقد فرغ الله إلى كل عبد من خمس:
من عمله .. وأجله .. ورزقه .. وأثره .. ومضجعه.
ومهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها.
وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة.
وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان .. إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له علم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب.
وقد أخفى الله عزَّ وجلَّ علم الساعة، ومعرفة الآجال؛ رحمة بالعباد.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة.
وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟.
فلو أن عبداً من عبيدك عمل على أن يسخطك أعواماً، ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه، ولم يفز لديك بما يفوز به مَنْ همه رضاك في كل أوقاته.
وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} ... [النساء: 17].
وأوحش ما يكون الناس في ثلاثة مواطن:
يوم يولد الإنسان فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه فيصرخ.
ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم من قبل.
ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم.
والأجل أجلان:
أجل مطلق لا يعلمه إلا الله، فهذا لا يتبدل ولا يتغير.
وأجل مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فإن الله أمر الملك أن يكتب للعبد أجلاً، وقال إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر.
فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر كما قال سبحانه: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه (1).
والأجل قسمان:
أحدهما: أجل كل عبد الذي ينقص به عمره.
الثاني: أجل القيامة العامة.
فأجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده كالملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله كما قال «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (1).
أما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا الله عز وجل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 2].
فوقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما من المخلوقات.
والله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل العبد رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب.
والله عزَّ وجلَّ قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير الخلق حين خلقهم وأوجدهم، ثم يقدر في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وكذلك يقدر الله خلق كل إنسان في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة كذلك، ثم يكون مضغة كذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات:
بكتب رزقه .. وأجله .. وعمله .. وشقي أو سعيد.
وإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظمها.
ثم إذا ولد قُدِّر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر.
ونظير هذا: عرض أعمال العباد على الله، فيعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُعْرَضُ أعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» أخرجه مسلم (1).
ويعرض عمل النهار في آخره، وعمل الليل في آخره، ويرفع عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار.
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض الأسبوعي في الإثنين والخميس، والعرض فيه أخص من العرض السنوي في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله، وعرض على الله، وطويت الصحف، وهذا عرض آخر، ثم تعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)} ... [الكهف: 48].
وتعرض جهنم على الكفار كما قال سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100].
ومن الناس من أحب الموت .. ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته لله .. وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا .. أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب .. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى .. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة.
والإحياء والإماتة أمران مكروران في كل لحظة، معروضتان لحس الإنسان وعقله، وسر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ربه بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
فلما قال الكافر (أنا أحيي وأميت) عَدَل إبراهيم عن هذه السنة الكونية الخفية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويجادل في الله، ليريه أن الرب وحده هو مصرف هذا الكون كله، وهو رب الناس المشرع لهم فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وتلك حقيقة مكرورة مرئية يومية، معلومة لكل أحد.
فماذا حصل؟.
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء.
وكان التسليم أولى، والإيمان أجدر، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق أمسك بالذي كفر، ولم يهده الله إلى الحق؛ لأنه لم يلتمس الهداية، ولم يرغب في الحق، وظل ظالماً: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
وهذا مثل للضلال والعناد يتزود به الدعاة إلى الله في مواجهة المنكرين.
والإحياء والإماتة، وطلوع الشمس من المشرق آيتان عظيمتان معروضتان للبصائر والأبصار بلا تكلف، يسهل الاهتداء بهما في مسألة الإيمان على أي مخلوق، وإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟، ولتنظر نفس ماذا تريد؟.
أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض؟
أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى حياة أكبر من هذه الدنيا؟.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران: 145].
وشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.
****
فقه الموت - الجزء الثالث
الذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام والبهائم، ثم يموت خاسراً في موعده المضروب بأجله المكتوب.
أما الذين يدركون نعمة الإيمان فيحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه، وأعلى مكانه، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، وينهضون بتبعات الإيمان، ثم يموت هذا الإيمان رابحاً مطمئناً في موعده المضروب، وأجله المكتوب.
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت وهي لا تملكه، إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه اختيار الدنيا أو الآخرة، وتنال في الآخرة جزاء ما تختار.
والله عزَّ وجلَّ وحده هو الذي يحيي ويميت، فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى.
وللناس آجال لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين طلب الرزق، أو ميادين الغزو، وعنده الجزاء بعد ذلك، هذا اعتقاد المؤمن.
أما الكفار فلفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، لا يرون إلا الأسباب الظاهرة؛ بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.
فعلة القتل أو الموت أو الحياة كلها بيد الله سبحانه، والموتى والقتلى إنما يلبون النداء، وهو استيفاء الأجل، ونداء المضجع.
وقدر الله وسنته في الحياة والموت كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)} ... [آل عمران: 156].
وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل، فهذه ليست نهاية المطاف، بل هناك حياة أخرى، ونعيم أعلى خير مما فيه أهل الدنيا: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 157].
وكل الخلق بعد الموت راجعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة، موت أو قتل، في الموعد المسمى.
وهناك إما مغفرة من الله ورحمة ... أو غضب من الله وعذاب.
وبهذا اليقين تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر.
وإلى ما وراء القدر من حكمة .. وما وراء الابتلاء من جزاء: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11].
والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، وهم تحت سيطرته وقهره، فهم ضعاف في قبضة هذا السلطان، لا قوة لهم ولا ناصر، وكل نَفَس من أنفاسهم بقدر.
خلقهم الله لعبادته، وأرسل إليهم رسلاً يحفظونهم، ورسلاً آخرين يدعونهم إلى الله، ورسلاً آخرين يقبضون أرواحهم، وكل يؤدي رسالته حسب أمر ربه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61].
وسَيُرد الخلق كلهم بعد الموت إلى ربهم ومولاهم الذي أنشأهم وأطلقهم للحياة ما شاء، ثم مردهم إليه عندما يشاء، ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب.
فهو وحده يحكم .. وهو وحده يحاسب .. وهو لا يبطئ في الحكم .. ولا يمهل في الجزاء: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 62].
فلا بدَّ للناس أن يستيقنوا أن الله محاسبهم ومجازيهم على أساس شريعته هو لا شريعة غيره، وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون من أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وأنهم سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا إلهاً في الأرض، ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة، وأشركوا مع الله غيره من خلقه.
والأمر كله لله، وسنة الله ماضية لا تتخلف، وأَجَله الذي أَجَّله لا يستعجل لكل حي، ولكل فرد، ولكل أمة: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} ... [يونس: 49].
والآجال كالأرزاق كلها بيد الله، والأسباب والأمراض ستار وراءه قدرة الله.
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي، هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود .. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، هلاك الهزيمة والضياع .. وهو ما يقع للأمم إما لفترة تعود بعدها للحياة .. وإما دائماً فتضمحل، وتنمحي شخصيتها، وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.
وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل مصادفة ولا ظلماً.
فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا، والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها.
والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها، لا بمجرد الاعتقاد فقط، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة، والحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 24 - 25].
والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله وحده يملك الحياة والموت: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} [المؤمنون: 80].
فالبشر كلهم أعجز وأقل من بث الحياة في حشرة واحدة، وأعجز من سلبها عن حي من الأحياء، فالذي يملك ويهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها.
والبشر قد يكونون سبباً لإزهاق الروح، لكن تجريد الحي من حياته بيد الله وحده، والذي يملك اختلاف الليل والنهار هو الله وحده، وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة .. هذه في النفوس والأجساد .. وتلك في الكون والأفلاك.
وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن.
فسبحان الخالق المالك الذي يملك وحده تصريف هذا الكون الهائل، وهذه الأحياء المبثوثة من نبات وحيوان، وطير وإنسان.
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ ملك الموت بقبض جميع الأرواح كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11].
ولملك الموت أعوان من الملائكة كما قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} ... [الأنفال: 50 - 51].
إن أمر النشأة الأولى ونهايتها، أمر الحياة والموت، كل ذلك بيد الله وحده، وهو أمر مألوف وواقع في حياة الناس، فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم.
إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري، أو يجادل فيه: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة: 57 - 59].
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُوْدِع الرجل ما يُمْني رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة الإلهية في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، حتى يكون خلقاً آخر، حتى يكون بشراً سوياً له سمع وبصر، وقلب وروح، وعقل وإدراك، ورأس ولسان، وأيد وأقدام.
يأكل ويشرب .. ويضحك ويبكي .. ويقوم ويقعد .. وينام ويستيقظ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 12 - 16].
هذه هي البداية، أما النهاية فهي الموت الذي ينتهي إليه كل حي، إنه قدر الله، ومن ثم لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بدَّ أن تتكامل: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 60 - 62].
والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة، قدّر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20].
والله سبحانه القادر على كل شيء، وله القدرة المطلقة التي لا تتقيد بقيد، وهذه حقيقة يطبعها القرآن في قلب المؤمن، فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه، فإنما يركن إلى قادر يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} ... [الحج: 6 - 7].
فعلى الإنسان أن يستعد للموت ويكثر من ذكره، والاستعداد للموت يكون المحرمات.
وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن الموت فيه فراق العمل والحرث للآخرة، لا على أنه فراق للأهل والأحباب ولذات الدنيا، فهذه نظرة قاصرة تزيده حسرة وألماً.
أما النظرة الأولى: فتبعثه ليستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله.
والمسلم لا يتمنى الموت، إن كان محسناً لعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً لعله أن يتوب.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي» متفق عليه (1).
وحياة الإنسان خطوات إلى الآخرة، وأنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَس منها يقابله آلاف الآلاف من السنين في دار البقاء.
والعبد منساق بزمنه إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، وبقاؤه في الدنيا كساعة من النهار، فما أولى العاقل أن لا يصرف منها نَفَساً، إلا في أحب الأمور إلى الله، فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه؟ وكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟.
وسيُسأل كل إنسان عما قدم وأخر .. وعن كل طاعة عملها .. وعن كل معصية فعلها .. وعن كل فاحشة اقترفها.
وسيرجع الناس إلى ربهم يوم القيامة، وسيحاسبهم على كل ما عملوه .. وكل ما أسروه وأعلنوه .. وكل ما جمعوه وفرقوه .. وكل ما حفظوه وضيعوه كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].