بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
مِن السُّنَّة
الاستياك عند دخول البيت
الحمد لله ربِّ العالمين؛ ثمَّ الصَّلاة والسَّلام على عبده ورسوله محمَّد الصَّادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن سلك سبيلهم واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين؛ أمَّا بعد:
فإنَّ الاستياك أو التَّسوُّك سُنَّة مِن السُّنن المأثورة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد وردت فيها جملة مِن الأحاديث والآثار النَّبويَّة الصَّحيحة الَّتي تُبيِّن ما لها مِن الأحكام والفضائل؛ قال الحافظ ابن الملقِّن -رحمه الله تعالى-: «... وقد اجتمع بحمد الله وعونه مِن الأحاديث مِن حين شرع المصنِّف في ذكر السِّواك إلى هذا المكان، زيادة على مائة حديث كلُّها في السِّواك ومتعلَّقاته؛ وهذا عظيم جسيم، فواعجبا! سنَّة واحدة تأتي فيها هذه الأحاديث، ويهملها كثير من النَّاس، بل كثير من الفقهاء المشتغلين؛ وهي خيبة عظيمة، نسأل الله المعافاة منها»([1]).
وقد أكثر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن التَّرغيب في السِّواك والحثِّ عليه، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: $أكثرتُ عليكُم في السِّواك#([2])، كما أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- بيَّن لأمَّته أهمِّيَّة السِّواك وفضله، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: $السِّواكُ مَطهَرة للفم، مَرضَاة للرَّبِّ#([3])؛ والأحاديث في بيان فضل السِّواك وأهمِّيَّته غير ما تقدَّم ذكره معلومة منتشرة، فأكتفي بما مضى، وأشرع في المقصود.
لقد بيَّن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- الأوقات الَّتي يُستحبُّ فيها الاستياك، وكذلك الأوقات الَّتي يُكره فيها استعمال السِّواك؛ ومِن الأوقات المستحبَّة في ذلك: التَّسوُّك عند دخول البيت.
فعن الْمِقدام بن شُريح، عن أبيهِ، قالَ: سألتُ عائشة -رضي الله عنها-، قُلتُ: بأيِّ شيء كان يبدأ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا دخل بيته؟ قالت: «بالسِّواك»([4])؛ ففي هذا الحديث دلالة على استحباب السِّواك عند دخول البيت، والمواظبة على ذلك؛ لمداومة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على فعله؛ قال الحافظ النَّوويُّ -رحمه الله تعالى-: «ويُسنُّ السِّواكُ أيضا عند دخوله بيته»([5])، وذكر الحافظ العراقيُّ -رحمه الله تعالى- أحوالًا يتأكَّدُ فيها السِّواكُ، فقال: «ومنها: دخول المنزل»([6])، وقال العلَّامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- عند ذكره المواضع الَّتي يتأكَّد فيها السِّواك: «الثَّالث: إذا دخل الإنسان بيته: فأوَّل ما يدخل الإنسان بيته يبدأ بالسِّواك؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- أيضا وهو في الصَّحيح، قالت: $كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا دخل بيته، أوَّلُ ما يبدأ به السِّواك، ثمَّ يُسلِّمُ عليَّ#([7])، فينبغي إذا دخل الإنسان بيته قبل أن يُسلِّم على أهله أن يتسوَّك؛ لأنَّ الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يفعل ذلك»([8]).
وقد ذكر العلماءُ تعليلات لذلك، منها ما هو حسنٌ، ومنها ما ردَّه بعض أهل العلم لمخالفته المنقول والمعقول؛ وقال العلَّامة محمَّد بن عليِّ بن آدم الإتيوبيُّ([9]) -رحمه الله تعالى-: «فالأحسنُ في التَّعليل ما قاله بعضهم مِن أنَّ ذلك مِن باب حُسن مُعاشرة الأهل بإزالة ما يحصل مِن تغيُّر الفم عند محادثة النَّاس، أو طول السُّكوت، أو غير ذلك؛ والله تعالى أعلم بالصَّواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التُّكلان»([10]).
وفي هذا الحديث ما «يدلُّ على استحباب تعاهُد السِّواك، لما يُكره مِن تغيُّر رائحة الفم بالأبخرة والأطعمة وغيرها»([11])، قالهُ الحافظ أبو العبَّاس القرطبيُّ -رحمه الله تعالى-، وقال الحافظ النَّوويُّ -رحمه الله تعالى-: «فيه بيان فضيلة السِّواك في جميع الأوقات، وشدَّة الاهتمام به، وتَكراره، واللهُ أعلم»([12])، ومِن فوائد هذا الحديث الَّتي ذكرها الحافظ ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-:
«يُؤخذُ منه استحبابُ البداءة بالسِّواك عند دخول البيت على ما دلَّ عليه مِن فعل الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ...
ومنها: قال بعض الشَّارحين في الكلام على هذا الحديث: فيه بيان فضيلة السِّواك في جميع الأوقات، وشدَّة الاهتمام به، وتَكراره، واللهُ أعلم.
فإن أراد أنَّ استحباب السِّواك لا يختصُّ بأوقات مخصوصةٍ، ولا أحوال معيَّنةٍ؛ كالوضوء مثلًا، والصَّلاة، والقيام مِن النَّوم، فصحيحٌ.
وإن أراد به شمول الاستحباب لجميع الأوقات، فلا يدلُّ، واللهُ أعلم.
ومنها: قال القاضي أبو الفضل عياض -رحمه الله تعالى- في الكلام على هذا الحديث([13]): معناهُ تَكراره لذلكَ ومثابرتهُ عليه، وأنَّه كان لا يقتصر في ليله ونهاره على المرَّة الواحدة، بل على المرار المتكرِّرة؛ كما جاء في الحديث الآخر.
قلتُ -ابنُ دقيق العيد-: هذا مأخوذٌ مِن أنَّ الدُّخول إلى البيت ممَّا يتكرَّر، فإذا كان السِّواك معلَّقا به، كان ممَّا يتكرَّر، والتَّكرُّر دليلٌ على العناية والتَّأكُّد.
ومنها: قد يستدلُّ به مَن لا يكره السِّواك للصَّائم بعد الزَّوال.
ووجههُ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان صومه متكرِّرا كثيرا، فكان يصوم حتَّى يُقال: لا يفطر، ودخول البيت حالة متكرِّرة لا يقتصر على وقت دون وقت، وإنَّما بحسب الدَّواعي والحاجات الظَّاهرة، فالظَّاهر والغالب على الظَّنِّ وقوعها في حالة الصَّوم في بعض الحالات، وفيما بعد نصف النَّهار، فيتناولُ الحديثُ تلك الحالَ الَّتي وقع فيها الدُّخول بعد الزَّوال مع الصَّوم، لاسيَّما مع القول بأنَّ (كانَ) تدلُّ على التَّكرار والكثرة.
ومنها: هذا السُّؤال مِن الرَّاوي لابدَّ له من فائدة، وأظهرها طلب العلم؛ ليحصُل التَّأسِّي به -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
ومنها: لَمَّا كانت البداية بالشَّيء دليلَ الاهتمام به، فلعلَّه قصد بالسُّؤال عمَّا يبدأ به ترتيبه والعناية به.
ومنها: فيه مِن أدب طلب العلم أن يُقصدَ في كلِّ علمٍ مَن هو أعرفُ به وأرجحُ في المعرفة مِن غيره؛ كما رجع الصَّحابة إلى بعض نساء النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في التقاء الختانين، وفي الإصباح جنبا في الصَّوم؛ لأنَّهنَّ أعرفُ بذلك وأرجحُ مِن غيرهنَّ في علمه.
وكذلك في هذا السُّؤال، فإنَّ الدُّخول في البيت مظنَّة الاجتماع بالأهل، والافتراق مِن غيرهنَّ، فلمَّا تعلَّق قصده بمعرفة ما كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يبدأ به، قصد مَن هو أحقُّ بمعرفة ذلك»([14]).
وذكرَ العلَّامةُ محمَّد بن عليِّ بن آدم الإتيوبيُّ -رحمه الله تعالى- فوائد لهذا الحديث:
«منها: بيان حُسن معاشرة الأهل؛ لأنَّه يزيد في الودِّ، ودوام الصُّحبة.
ومنها: بيان ما كان عليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن كمال النَّظافة في جميع أحواله.
ومنها: بيان ما كان عليه السَّلف مِن تتبُّع أحوال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، والسُّؤال عنها؛ للاقتداء به فيها»([15]).
هذا؛ وقد ذكر العلَّامة عبد المحسن العبَّاد -حفظه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث، عن بعض أهل العلم «أنَّ هذه مِن السُّنن المهجورة، يعني كونَ الإنسان إذا دخل بيته يستاك»([16]).
ولم أكن على علمٍ بها، حتَّى قرأتها مع أحد إخواني في رسالةٍ لطيفةٍ لأحد طلبة العلم المعاصرين، فجزاه الله خيرًا؛ ومِن ثمَّ رأيتُ أن أكتبَ حولها، وقد يسَّر الله ذلك بمنِّه وكرمه.
والله -سبحانه وتعالى- أسألُه التَّوفيقَ والسَّداد لي ولسائر المسلمين والمسلمات، وأن يعيننا على تعلُّم السُّنن والعمل بها والدَّعوة إلى التَّمسُّك بها، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم؛ والحمد لله ربِّ العالمين.
كتبهُ
الفقيرُ إلى عفو ربِّه الغنيِّ
منصور بن محمَّد خيرات المحمَّديُّ
أصلحه الله وعفا عنه
وكان الفراغُ منه، ليلة الثُّلاثاء: 17 ربيع الأوَّل 1442.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - البدر المنير في تخريج أحاديث الشَّرح الكبير (03 / 223 - 224).
[2] - أخرجه: البخاريُّ في صحيحه (ك: الجمعة، ب: السِّواك يوم الجمعة)، (02 / 04 /ح: 888)، مِن حديث أنس -رضي الله عنه-.
[3] - أخرجه: أحمد في المسند (11 / 6015 /ح: 25565)؛ والنَّسائيُّ في المجتبىٰ (ك: الطَّهارة، ب: التَّرغيب في السِّواك)، (01 / 03 /ح: 05) واللَّفظ له؛ وغيرهما، مِن حديث عائشة -رضي الله عنها-، وصحَّحه جماعة من أئمَّة الحديث، منهم: الألبانيُّ، كما في صحيح التَّرغيب والتَّرهيب (01 / 203 /رقم: 209).
[4] - أخرجه: مسلم في صحيحه (ك: الطَّهارة، ب: السِّواك)، (01 / 152 /ح: 253) واللَّفظ له؛ وأحمد في المسند (11 / 6159 /ح: 26231)؛ وابن ماجه في سننه (ك: الطَّهارة وسننها، ب: السِّواك)، (47 – 48/ح: 305)؛ وأبو داود في سننه (ك: الطَّهارة، ب: في الرَّجل يستاك بسواك غيره)، (01 / 10 /ح: 51)؛ والنَّسائيُّ في المجتبىٰ (ك: الطَّهارة، ب: السِّواك في كلِّ حين)، (01 / 03 /ح: 08).
[5] - روضة الطَّالبين (01 / 57).
[6] - طرح التَّثريب (01 / 388).
[7] - كذا أورده وعزاه إلى الصَّحيح! ولم أقف عليه فيه بهذا اللَّفظ، ولا في غيره من كتب السُّنَّة؛ فالله أعلم!
[8] - الدُّروس الفقهيَّة مِن المحاضرات الجامعيَّة (01 / 50).
[9] - محدِّثٌ نبيلٌ، وعلَّامةٌ فقيهٌ، ولغويٌّ بارعٌ، وعابدٌ زاهدٌ؛ عَلَمٌ مِن أعلام السُّنَّة والحديث في العصر الحاضِر، وصاحبُ المصنَّفات الكثيرة البديعة النَّافعة، أعلاها وأفضلها وأحسنها شرحه لكتب السُّنَّة، منها: «البحر المحيط الثَّجَّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج» في خمسةٍ وأربعين مجلَّدًا، مِن دون المقدِّمة الَّتي شرحها في مجلَّدين وسمَّاها: «قرَّة عين المحتاج في شرح مقدِّمة صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج»، ومنها: «ذخيرة العقبى في شرح المجتبى» وهو شرحٌ على السُّنن الصُّغرى للإمام أبي عبد الرَّحمن النَّسائي، طُبع في اثنين وأربعين مجلَّدًا، وغيرُ ذلك من الشُّروح والمؤلَّفات الَّتي ما بين النَّثر والنَّظم، وقد كان يرجُو الله تعالى أن يوفِّقه لإتمام شرحه على جامع الإمام التِّرمذيِّ الَّذي صدرت منه بعض الأجزاء، وسمَّاه: «إتحاف الطَّالب الأحوذيِّ بشرح جامع الإمام التِّرمذيِّ» لكنَّه مات ولم يُكملهُ، وبقيَ له منه الرُّبع كما أخبر بذلك بعض طلبتهِ.
وقد فُجع أهلُ السُّنَّة وطلبةُ العلم بخبرِ وفاته صبيحة يوم الخميس الحادي والعشرين مِن شهر صفر، سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وألفٍ مِن الهجرة النَّبويَّة؛ وصُلِّيَ عليه بالمسجد الحرام بعدَ صلاة العشاء، ودُفِنَ بمقبرة شهداء الحرم بمكَّة المكرَّمة؛ رحمهُ اللهُ تعالى وغفر له وأسكنه الجنَّة الفردوس، وأحسنَ اللهُ عزاء المسلمين فيه عمومًا، وأهل السُّنَّة وطلبة العلم خصوصًا، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
[10] - البحر المحيط الثَّجَّاج (06 / 399).
[11] - المفهم لما أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم (01 / 509).
[12] - منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القشيريِّ (03 / 432).
[13] - إكمال المعلم بفوائد مسلم (02 / 60).
[14] - يُنظرُ: شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (03 / 46 - 51)؛ تصرَّفتُ في ترتيب الفوائد بحسب ما يتعلَّق بالموضوع، وحذفتُ ترقيمها؛ وتركتُ فوائد أخرى ليس هذا موضعُ سردها، فليُتنبَّه لهذا!
[15]- يُنظرُ: البحر المحيط الثَّجَّاج (06 / 400).
[16] - يُنظرُ: شرح سنن أبي داود (الشَّريط 09/ بعد الدَّقيقة 26 و30 ثانية).
المصدر منتديات الابانة السلفية
مِن السُّنَّة
الاستياك عند دخول البيت
الحمد لله ربِّ العالمين؛ ثمَّ الصَّلاة والسَّلام على عبده ورسوله محمَّد الصَّادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن سلك سبيلهم واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين؛ أمَّا بعد:
فإنَّ الاستياك أو التَّسوُّك سُنَّة مِن السُّنن المأثورة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد وردت فيها جملة مِن الأحاديث والآثار النَّبويَّة الصَّحيحة الَّتي تُبيِّن ما لها مِن الأحكام والفضائل؛ قال الحافظ ابن الملقِّن -رحمه الله تعالى-: «... وقد اجتمع بحمد الله وعونه مِن الأحاديث مِن حين شرع المصنِّف في ذكر السِّواك إلى هذا المكان، زيادة على مائة حديث كلُّها في السِّواك ومتعلَّقاته؛ وهذا عظيم جسيم، فواعجبا! سنَّة واحدة تأتي فيها هذه الأحاديث، ويهملها كثير من النَّاس، بل كثير من الفقهاء المشتغلين؛ وهي خيبة عظيمة، نسأل الله المعافاة منها»([1]).
وقد أكثر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن التَّرغيب في السِّواك والحثِّ عليه، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: $أكثرتُ عليكُم في السِّواك#([2])، كما أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- بيَّن لأمَّته أهمِّيَّة السِّواك وفضله، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: $السِّواكُ مَطهَرة للفم، مَرضَاة للرَّبِّ#([3])؛ والأحاديث في بيان فضل السِّواك وأهمِّيَّته غير ما تقدَّم ذكره معلومة منتشرة، فأكتفي بما مضى، وأشرع في المقصود.
لقد بيَّن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- الأوقات الَّتي يُستحبُّ فيها الاستياك، وكذلك الأوقات الَّتي يُكره فيها استعمال السِّواك؛ ومِن الأوقات المستحبَّة في ذلك: التَّسوُّك عند دخول البيت.
فعن الْمِقدام بن شُريح، عن أبيهِ، قالَ: سألتُ عائشة -رضي الله عنها-، قُلتُ: بأيِّ شيء كان يبدأ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا دخل بيته؟ قالت: «بالسِّواك»([4])؛ ففي هذا الحديث دلالة على استحباب السِّواك عند دخول البيت، والمواظبة على ذلك؛ لمداومة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على فعله؛ قال الحافظ النَّوويُّ -رحمه الله تعالى-: «ويُسنُّ السِّواكُ أيضا عند دخوله بيته»([5])، وذكر الحافظ العراقيُّ -رحمه الله تعالى- أحوالًا يتأكَّدُ فيها السِّواكُ، فقال: «ومنها: دخول المنزل»([6])، وقال العلَّامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- عند ذكره المواضع الَّتي يتأكَّد فيها السِّواك: «الثَّالث: إذا دخل الإنسان بيته: فأوَّل ما يدخل الإنسان بيته يبدأ بالسِّواك؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- أيضا وهو في الصَّحيح، قالت: $كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا دخل بيته، أوَّلُ ما يبدأ به السِّواك، ثمَّ يُسلِّمُ عليَّ#([7])، فينبغي إذا دخل الإنسان بيته قبل أن يُسلِّم على أهله أن يتسوَّك؛ لأنَّ الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يفعل ذلك»([8]).
وقد ذكر العلماءُ تعليلات لذلك، منها ما هو حسنٌ، ومنها ما ردَّه بعض أهل العلم لمخالفته المنقول والمعقول؛ وقال العلَّامة محمَّد بن عليِّ بن آدم الإتيوبيُّ([9]) -رحمه الله تعالى-: «فالأحسنُ في التَّعليل ما قاله بعضهم مِن أنَّ ذلك مِن باب حُسن مُعاشرة الأهل بإزالة ما يحصل مِن تغيُّر الفم عند محادثة النَّاس، أو طول السُّكوت، أو غير ذلك؛ والله تعالى أعلم بالصَّواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التُّكلان»([10]).
وفي هذا الحديث ما «يدلُّ على استحباب تعاهُد السِّواك، لما يُكره مِن تغيُّر رائحة الفم بالأبخرة والأطعمة وغيرها»([11])، قالهُ الحافظ أبو العبَّاس القرطبيُّ -رحمه الله تعالى-، وقال الحافظ النَّوويُّ -رحمه الله تعالى-: «فيه بيان فضيلة السِّواك في جميع الأوقات، وشدَّة الاهتمام به، وتَكراره، واللهُ أعلم»([12])، ومِن فوائد هذا الحديث الَّتي ذكرها الحافظ ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-:
«يُؤخذُ منه استحبابُ البداءة بالسِّواك عند دخول البيت على ما دلَّ عليه مِن فعل الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ...
ومنها: قال بعض الشَّارحين في الكلام على هذا الحديث: فيه بيان فضيلة السِّواك في جميع الأوقات، وشدَّة الاهتمام به، وتَكراره، واللهُ أعلم.
فإن أراد أنَّ استحباب السِّواك لا يختصُّ بأوقات مخصوصةٍ، ولا أحوال معيَّنةٍ؛ كالوضوء مثلًا، والصَّلاة، والقيام مِن النَّوم، فصحيحٌ.
وإن أراد به شمول الاستحباب لجميع الأوقات، فلا يدلُّ، واللهُ أعلم.
ومنها: قال القاضي أبو الفضل عياض -رحمه الله تعالى- في الكلام على هذا الحديث([13]): معناهُ تَكراره لذلكَ ومثابرتهُ عليه، وأنَّه كان لا يقتصر في ليله ونهاره على المرَّة الواحدة، بل على المرار المتكرِّرة؛ كما جاء في الحديث الآخر.
قلتُ -ابنُ دقيق العيد-: هذا مأخوذٌ مِن أنَّ الدُّخول إلى البيت ممَّا يتكرَّر، فإذا كان السِّواك معلَّقا به، كان ممَّا يتكرَّر، والتَّكرُّر دليلٌ على العناية والتَّأكُّد.
ومنها: قد يستدلُّ به مَن لا يكره السِّواك للصَّائم بعد الزَّوال.
ووجههُ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان صومه متكرِّرا كثيرا، فكان يصوم حتَّى يُقال: لا يفطر، ودخول البيت حالة متكرِّرة لا يقتصر على وقت دون وقت، وإنَّما بحسب الدَّواعي والحاجات الظَّاهرة، فالظَّاهر والغالب على الظَّنِّ وقوعها في حالة الصَّوم في بعض الحالات، وفيما بعد نصف النَّهار، فيتناولُ الحديثُ تلك الحالَ الَّتي وقع فيها الدُّخول بعد الزَّوال مع الصَّوم، لاسيَّما مع القول بأنَّ (كانَ) تدلُّ على التَّكرار والكثرة.
ومنها: هذا السُّؤال مِن الرَّاوي لابدَّ له من فائدة، وأظهرها طلب العلم؛ ليحصُل التَّأسِّي به -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
ومنها: لَمَّا كانت البداية بالشَّيء دليلَ الاهتمام به، فلعلَّه قصد بالسُّؤال عمَّا يبدأ به ترتيبه والعناية به.
ومنها: فيه مِن أدب طلب العلم أن يُقصدَ في كلِّ علمٍ مَن هو أعرفُ به وأرجحُ في المعرفة مِن غيره؛ كما رجع الصَّحابة إلى بعض نساء النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في التقاء الختانين، وفي الإصباح جنبا في الصَّوم؛ لأنَّهنَّ أعرفُ بذلك وأرجحُ مِن غيرهنَّ في علمه.
وكذلك في هذا السُّؤال، فإنَّ الدُّخول في البيت مظنَّة الاجتماع بالأهل، والافتراق مِن غيرهنَّ، فلمَّا تعلَّق قصده بمعرفة ما كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يبدأ به، قصد مَن هو أحقُّ بمعرفة ذلك»([14]).
وذكرَ العلَّامةُ محمَّد بن عليِّ بن آدم الإتيوبيُّ -رحمه الله تعالى- فوائد لهذا الحديث:
«منها: بيان حُسن معاشرة الأهل؛ لأنَّه يزيد في الودِّ، ودوام الصُّحبة.
ومنها: بيان ما كان عليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن كمال النَّظافة في جميع أحواله.
ومنها: بيان ما كان عليه السَّلف مِن تتبُّع أحوال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، والسُّؤال عنها؛ للاقتداء به فيها»([15]).
هذا؛ وقد ذكر العلَّامة عبد المحسن العبَّاد -حفظه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث، عن بعض أهل العلم «أنَّ هذه مِن السُّنن المهجورة، يعني كونَ الإنسان إذا دخل بيته يستاك»([16]).
ولم أكن على علمٍ بها، حتَّى قرأتها مع أحد إخواني في رسالةٍ لطيفةٍ لأحد طلبة العلم المعاصرين، فجزاه الله خيرًا؛ ومِن ثمَّ رأيتُ أن أكتبَ حولها، وقد يسَّر الله ذلك بمنِّه وكرمه.
والله -سبحانه وتعالى- أسألُه التَّوفيقَ والسَّداد لي ولسائر المسلمين والمسلمات، وأن يعيننا على تعلُّم السُّنن والعمل بها والدَّعوة إلى التَّمسُّك بها، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم؛ والحمد لله ربِّ العالمين.
كتبهُ
الفقيرُ إلى عفو ربِّه الغنيِّ
منصور بن محمَّد خيرات المحمَّديُّ
أصلحه الله وعفا عنه
وكان الفراغُ منه، ليلة الثُّلاثاء: 17 ربيع الأوَّل 1442.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - البدر المنير في تخريج أحاديث الشَّرح الكبير (03 / 223 - 224).
[2] - أخرجه: البخاريُّ في صحيحه (ك: الجمعة، ب: السِّواك يوم الجمعة)، (02 / 04 /ح: 888)، مِن حديث أنس -رضي الله عنه-.
[3] - أخرجه: أحمد في المسند (11 / 6015 /ح: 25565)؛ والنَّسائيُّ في المجتبىٰ (ك: الطَّهارة، ب: التَّرغيب في السِّواك)، (01 / 03 /ح: 05) واللَّفظ له؛ وغيرهما، مِن حديث عائشة -رضي الله عنها-، وصحَّحه جماعة من أئمَّة الحديث، منهم: الألبانيُّ، كما في صحيح التَّرغيب والتَّرهيب (01 / 203 /رقم: 209).
[4] - أخرجه: مسلم في صحيحه (ك: الطَّهارة، ب: السِّواك)، (01 / 152 /ح: 253) واللَّفظ له؛ وأحمد في المسند (11 / 6159 /ح: 26231)؛ وابن ماجه في سننه (ك: الطَّهارة وسننها، ب: السِّواك)، (47 – 48/ح: 305)؛ وأبو داود في سننه (ك: الطَّهارة، ب: في الرَّجل يستاك بسواك غيره)، (01 / 10 /ح: 51)؛ والنَّسائيُّ في المجتبىٰ (ك: الطَّهارة، ب: السِّواك في كلِّ حين)، (01 / 03 /ح: 08).
[5] - روضة الطَّالبين (01 / 57).
[6] - طرح التَّثريب (01 / 388).
[7] - كذا أورده وعزاه إلى الصَّحيح! ولم أقف عليه فيه بهذا اللَّفظ، ولا في غيره من كتب السُّنَّة؛ فالله أعلم!
[8] - الدُّروس الفقهيَّة مِن المحاضرات الجامعيَّة (01 / 50).
[9] - محدِّثٌ نبيلٌ، وعلَّامةٌ فقيهٌ، ولغويٌّ بارعٌ، وعابدٌ زاهدٌ؛ عَلَمٌ مِن أعلام السُّنَّة والحديث في العصر الحاضِر، وصاحبُ المصنَّفات الكثيرة البديعة النَّافعة، أعلاها وأفضلها وأحسنها شرحه لكتب السُّنَّة، منها: «البحر المحيط الثَّجَّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج» في خمسةٍ وأربعين مجلَّدًا، مِن دون المقدِّمة الَّتي شرحها في مجلَّدين وسمَّاها: «قرَّة عين المحتاج في شرح مقدِّمة صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج»، ومنها: «ذخيرة العقبى في شرح المجتبى» وهو شرحٌ على السُّنن الصُّغرى للإمام أبي عبد الرَّحمن النَّسائي، طُبع في اثنين وأربعين مجلَّدًا، وغيرُ ذلك من الشُّروح والمؤلَّفات الَّتي ما بين النَّثر والنَّظم، وقد كان يرجُو الله تعالى أن يوفِّقه لإتمام شرحه على جامع الإمام التِّرمذيِّ الَّذي صدرت منه بعض الأجزاء، وسمَّاه: «إتحاف الطَّالب الأحوذيِّ بشرح جامع الإمام التِّرمذيِّ» لكنَّه مات ولم يُكملهُ، وبقيَ له منه الرُّبع كما أخبر بذلك بعض طلبتهِ.
وقد فُجع أهلُ السُّنَّة وطلبةُ العلم بخبرِ وفاته صبيحة يوم الخميس الحادي والعشرين مِن شهر صفر، سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وألفٍ مِن الهجرة النَّبويَّة؛ وصُلِّيَ عليه بالمسجد الحرام بعدَ صلاة العشاء، ودُفِنَ بمقبرة شهداء الحرم بمكَّة المكرَّمة؛ رحمهُ اللهُ تعالى وغفر له وأسكنه الجنَّة الفردوس، وأحسنَ اللهُ عزاء المسلمين فيه عمومًا، وأهل السُّنَّة وطلبة العلم خصوصًا، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
[10] - البحر المحيط الثَّجَّاج (06 / 399).
[11] - المفهم لما أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم (01 / 509).
[12] - منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القشيريِّ (03 / 432).
[13] - إكمال المعلم بفوائد مسلم (02 / 60).
[14] - يُنظرُ: شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (03 / 46 - 51)؛ تصرَّفتُ في ترتيب الفوائد بحسب ما يتعلَّق بالموضوع، وحذفتُ ترقيمها؛ وتركتُ فوائد أخرى ليس هذا موضعُ سردها، فليُتنبَّه لهذا!
[15]- يُنظرُ: البحر المحيط الثَّجَّاج (06 / 400).
[16] - يُنظرُ: شرح سنن أبي داود (الشَّريط 09/ بعد الدَّقيقة 26 و30 ثانية).
المصدر منتديات الابانة السلفية