النظرة المتشائمة

الطيب الجزائري84

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
14 جوان 2011
المشاركات
4,121
نقاط التفاعل
4,705
النقاط
191
العمر
39
الجنس
ذكر
النظرة المتشائمة


قد جاء الإسلام يحمل بتوجيهاته المباركة ومقاصده العظيمة وغايته الحميدة الرفعةَ والعزةَ وحُسنَ العاقبة والربحَ في الدنيا والآخرة ، بل لا سبيل إلى نيل شيء من ذلك إلا بالإسلام ؛ فالإسلام هو دين الرفعة والعزة والكمال .

والمسلم الذي حباه الله عز وجل بهذا الدين وشرح صدره له ، يحمل في قلبه من هذه العزة بحسب ما يحمله من هذا الدين ؛ فكلما زاد استمساكُه به ومحافظته عليه ورعايته لأحكامه وتوجيهاته زاد حظه من هذه العزة .

ومما حاربه الإسلام وحذّر منه أشد التحذير : النظرة المتشائمة تجاه الأمور والوقائع والأحداث ، يقول صلى الله عليه وسلم : ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ )) قَالُوا : وَمَا الْفَأْلُ ؟ قَالَ : (( الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ )) [1] .

والطيرة : هي التشاؤم بالطيور أو الأسماء أو الألفاظ أو البقاع أو غيرها ، فجاء الشارع بالتحذير منها وذمها وذم المتطيرين ، وكان يحب الفأل ويكره الطيرة ؛ لأن الفأل لا يخل بعقيدة الإنسان ولا بعقله ، وليس فيه تعليق للقلب بغير الله ، بل فيه من المصلحة إدخال النشاط والسرور على القلب ، وتقوية العزائم والهمم ، وشحذ النفوس للسعي في تحقيق المقاصد النافعة والغايات الحميدة ، بخلاف النظرة المتشائمة فإنها نظرة متعثرة تخلخل التفكير وتعوق القلب وتقطع النفس وتثبط الهمم وتجلب لصاحبها التواني والكسل ، فلا غرو أن يأتي الدين الحنيف بذم هذه النظرة القاتمة ومحاربة هذا التفكير المظلم .

وتبلغ النظرة المتشائمة أوج فسادها وغاية انحطاطها ونهاية هلكتها عندما تكون متجهة لهذا الدين العظيم نفسه ؛ سواء للدين كله أو لبعض أحكامه وآدابه الكريمة ، ومن يرصد التاريخ ويتتبع أحوال الأمم يرى أن هذه النظرة المتشائمة ملتصقة بأعداء الرسل ، ويعظم حجمها فيهم بعظم عداوتهم للمرسلين ولما جاؤوا به ، وملتصقة كذلك بحق من في دينه رقة وفي إيمانه ضعف ووهن . ومن الأمثلة على هذا ما يلي :

1- ما حكاه الله عن قوم موسى مما كانوا عليه من تطير به وبمن معه ، يقول الله تعالى {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:130-131] أي أنهم حال الخصب والرخاء والرزق يقولون { لَنَا هَذِهِ } أي نحن مستحقون لها فلم يشكروا الله عليها ، وإذا أصابتهم السيئة وهي القحط والجدب ونقص الرزق تطيروا بموسى ومن معه ، أي يقولون : إنما جاءنا هذا بسبب مجيء موسى والدعوة التي يحملها وأتباعه الذين استمسكوا بدعوته ، فردَّ الله عليهم بقوله : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ؛ أي أن ما يقع عليهم فإنما هو بقضاء الله وقدره وليس كما قالوا ، بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك .

2- ولما دعا صالح عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحذّرهم من فعل السيئات ورغّبهم في الاستغفار لينالوا بذلك رحمة الله ؛ نظر إليه فريق منهم تلك النظرة المتشائمة ، يقول الله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [النمل:45-47] ، فزعموا – قبّحهم الله – أنهم لم يروا على وجه صالح عليه السلام خيراً ، وأنه هو ومن معه من المؤمنين صاروا سبباً لمنع مطالبهم الدنيوية ومقاصدهم وغاياتهم في هذه الحياة ، فردَّ عليهم نبي الله صالح هذه النظرة المتشائمة بقوله : { طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي أن ما يصيبكم من مصائب وما يحلُّ بكم من نكبات فهو بقضاء الله وقدره ، وسببه ذنوبكم وإعراضكم عن دينه الحنيف الذي لا يجلب لأهله إلا الخير والمسرَّة في الدنيا والآخرة .

3- وهكذا إجابة قوم ياسين رسلهم بهذه النظرة المتشائمة عندما دعوهم إلى هذا الدين العظيم ، يقول الله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } [يس:13-19] فقابلوا نصح هؤلاء المرسلين وحُسن دلالتهم إلى الخير بهذه النظرة المتشائمة فقالوا: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي : لم نرَ في قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر ؛ وهذا من أعظم القلب للحقائق ، إذ كيف يجعل من قدِم عليهم بأجلِّ النعم وأعظم الخير على هذا الوصف : لم يزد مجيئه حالهم إلا شراً!! بل لم يكتفوا بذلك فأخذوا يتوعَّدون رسلهم بالرجم وإيقاع أشد العقوبات بهم فقالوا : { لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ فردَّ عليهم رسلهم عليهم السلام نظرتهم المتشائمة هذه بقولهم : {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي : أن ما معكم من الشرك والشر هو المقتضي لوقوع تلك المكاره والنقم وزوال المحبوبات والنعم . وقولهم : { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } أي : هل بسبب تذكيرنا لكم بما فيه صلاحكم وحظكم وسعادتكم قلتم ما قلتم ؟ { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } أي متعدُّون متجاوزون للحد .

4- وهكذا ما أخبر الله عن حال من قابلوا النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته بهذه النظرة المتشائمة ، قال الله تعالى : {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء:78-79] أي : أن هؤلاء المعرضين عما جاء به حالهم ؛ أنهم إذا جاءتهم حسنة – أي خصب أو كثرة مال أو توفر أولاد وصحة – قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } ، بينما إذا أصابتهم سيئة – أي جدب أو فقر أو مرض أو موت أولاد أو فقْد أحباب – قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي بسبب ما جئتنا به يا محمد ؛ فتطيَّر هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ونظروا إليه وإلى ما جاء به تلك النظرة المتشائمة كما هو الشأن في أمثالهم من أهل الشرك والضلال ، فلما تشابهت قلوب هؤلاء بالكفر والصدود والإعراض ، تشابهت أقوالهم وأفعالهم وتوافقت عقولهم وآراؤهم . وهكذا يلتقي في التشابه مع هؤلاء كلُّ من نسَب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه ، ويلحق من كان كذلك من الذَّمِّ ما لحق أولئك بحسب ما قام فيه من نظرة متشائمة تجاه المرسلين ، أو تجاه ما دعوا إليه من الإيمان والهدى والخير العظيم .

ثم إن هذه النظرة المتشائمة تدل على خفة في العقل ورداءة في التفكير وضحالة في الفهم ، ولهذا ختم الله عز وجل هذا السياق الكريم المبارك بقوله : { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي : ما لهؤلاء الذين حصلت منهم تلك النظرة المتشائمة والمقالة الآثمة { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي : لا يفهمون حديثاً بالكلية ولا يقربون من فهمه ، أو لا يفهمون منه إلا فهما ضعيفا ؛ وفي هذا ذم لهم وتوبيخ وتقريع لعدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي ضمن هذا مدح للمؤمنين الذين يفقهون عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتلقَّون جميع ما جاء في الكتاب والسنة بالرضى والقبول ، دون تخوف أو انتقاد . ومن فقِهَ دينَ الله حقاً علِم أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره ، وأن الرسل عليهم السلام لا يأتون بشيء يترتب عليه ضرر أو شر على الناس ، ولا يمكن أن يكون فيما جاءوا به شيء من ذلك ، وحاشا أن يكون ؛ لأنهم قد بُعِثوا بصلاح الدين والدنيا والآخرة ، وفي الحديث : (( إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ )) [2] فهم عليهم السلام هداة الخلق ودعاة الحق ومنارات الخير ؛ بل لا خير إلا من طريقهم ، ولا شر إلا بمفارقة ما جاءوا به .

هذا وإن من عجيب أمر المتفلتين على الشريعة المنحلِّين عن الدين في كل زمان ومكان ، أنهم لا يمتلكون شيئاً يقاومون به ما لا يروق لهم مما جاءت به الأنبياء إلا مدافعته بهذه النظرة المتشائمة ، فتأتي عبارات هؤلاء المنبثقة من هذه النظرة شاهدة على إفلاس هؤلاء ووهاء حجَّتهم ؛ كمن يقول عن شيء من أوامر الدين : إنها سبب للرجعية أو التخلف ، أو أنها تعيق الإنسان في هذه الحياة ، أو أنها تجلب المشاكل للناس وتكون سبباً لحلول الشرور بهم ، إلى غير ذلك من المقالات الآثمة والكلمات الجائرة التي تنبئ عن عدم دراية هؤلاء بشأن هذا الدين وعظم آثاره الحميدة وعواقبه المباركة على أهله في الدنيا والآخرة ، ومن عوفي فليحمد الله ، وليسأل ربه الثبات على هذا الدين القويم والصراط المستقيم .

********



________________

[1] رواه البخاري (5776) ، ومسلم (2224) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .

[2] رواه ومسلم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .

المصدر موقع الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله
 
سلمت يداك على الطرح الرائع والمميز جعله الله في ميزان حسناتك يارب العالمين اجمعين
 
بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز اخي العزيز
 
سلمت يداك على الطرح الرائع والمميز جعله الله في ميزان حسناتك يارب العالمين اجمعين
جزاكم الله خيرا اللهم آمين
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top