-الحمد لله و كفى و الصلاة على الرسول المصطفى، أمّا قبلُ: فقد جفّت في يميني مئات الأقلام و اسودّت بيني يديّ دفاتر و كتب و أوراق جمّة لا تحصى و كل ذلك- ممّا كتبت- ضاع هباء و لم يبق منه إلّا نِزْرٌ قليل أعدّه زبدة ما كتبت طول عمري و خلاصة نظري في الحياة.
-و أمّا بعدً ، فقد ححطت رحالي في هذه الواحة الغنّاء و قرّرت أن أكتب فيها كل ما يعتلج في صدري و كل ما يطوف في خاطري من فكر ، ثمّ إذا قيّض الله ليَ الأسباب سأجمع شتات خواطري في كتيّب صغير و أستودعه كل كتاباتي التي سأنشرها هنا إن شاء الله.
- و أمّا أنتم فيعلم الله و يشهد أنّكم استقبلتم كتاباتي ببهجة و رضا و سرور ، و تناولتموها بيد الكرم و الإيخاء و الحبور و هذا تاللّه ما جعلني أنتفض من خندق الخمول و أنهض بقلمي من جديد بعد أن تركت الكتابة أمدا طويلا فشكرا لكم بالقدر الذي يرضيكم و تقرّ به عيونكم.
طبتم و طاب ممشاكم يا نجوم اللمّة الجزائربة السامية..
-بيني و بين الأرق عهد قديم ، ينتابني بغتة و يخضعني لسطانه فأنساق في ملكوته كرها شرطَ أن يفك عن قريحتي زمامها فتنطلق في آفاق الخيال طارقة كلّ باب.
-فمنذ أن عرفت نفسي لا يأتيني الإلهام إلا ليلا ساعةَ يسكن الجو إلّا من همس الطبيعة المحيطة ببلدتي الحبيبة ، و منذ أن استأنست بالورقة و القلم لا تبرح الأفكار ذهني حتى أكتسي بإيهاب الأرق
و أترجى قلمي أن يكتب ما أشعر به كما أشعر به ، و مع كل ما في جعبتي من عربيّة رضعتها مع لبن أمّي إلا أن ترجمة خلجات النّفوس ليس كما يتصوّر البعض ، و ليس كما يصنع البعض من حشد لغريب الألفاظ و وحشيّ المعاني بتكلّف شنيع تأباه النفوس السليمة فقط حتّى يشار إليهم بالبَنان بأنهم أخذوا بناصية الكتابة و برعوا في التأليف. -كلّا لست من ذلك النوع ، إنّما أنا من الذين يجدون مشقّة في الكتابة إذ لا يرضيني ما أكتبه و أرمقه بالإستخفاف و التهوين حتى أكاد أتبرّأ منه ، من النوع الذي ينحت المعاني من الحجر و لا يفرغ من نحتها حتى يجد بين دفتي كراسته سطرا أو سطرين ، لكنني إذا انطلقت فكأنني أغرف المعاني من بحر، فلا ممسك لي وقتئد إلا الله جلّ في علاه.
-و كلّ ما أكتبه أيها السادة الكرام ليس إلا ارتجالا لا أعطيه حقه من التنقيح إلّا إذا تعلق الأمر بمسائل الشرع فهنالك التريّث و النظر و هنالك الحذر و الأناة.
-رأيت الكثير منّا يحتفلون بيوم مولدهم فيملؤون الدُّنا فرحا و شدوا و ينفضون عن قلوبهم غبار اليأس ، يريدون بذلك سعيا جديدا و أملا مديدا.. هذا الأمر في ظاهره يبدو معسولا ترنو إليه النفس..
-و لكن...!
-أ ليس العمر كلّما زاد نقص؟ أ ليس كل عام يمر يقربنا من الموت أكثر فأكثر؟
-فبأي شيء نحتفل إذا؟
-إنني لا أريد أن أطرح موضوع الإحتفال بعيد الميلاد على ميزان الشرع و أذكر كل الأحاديث و الآثار التي تنهى عن تقليد الكفار و التشبّه بهم، و لكن أريدكم أن تنظروا إلى الأمر بعين الحصافة و الحكمة
و أن تسمعوا قولي فتأخذون أحسنه و تذرون ما يحثّ على المِراء الذي لا طائلة منه..
-في إحدى الليالي الشتويّة العذبة كنّا رهطا التففنا حول نار ، فما أجمل السّمر في الشتاء لولا وجود ثقيل روح كان معنا في المجلس ، كان لا ينفكّ يذّم الناس و يخلع على عرشهم ألوان الثناء
حتى بلغ به الحديث عن ولاد زياد و هم عرش عظيم لكن الرجل كان يبغضهم بغضا شديدا فأخذ يذمهم و يصفهم بأشنع الصفات حتّى قال : (ولاد زياد خيمة ما تْرَبَّحْ ، قاع حمير بكبيرهم بصغيرهم)
و كان بيينا شاب يافع من ولاد زياد و سمع كل ذلك الكلام لكنه أسرّها في قلبه و لم يقاطع الرجل لئلا يفسد تلك السهرة.
-و ما زلنا هكذا حتى انفضّ المجلس و همدت النار و انصرف كل واحد إلى شانه.
-و في طريق العودة انقضّ أحدهم على الرجل الذي كان ينتقص من ولاد زياد ، وفي جنح الظلام و تحت ظل الصمت طرحه أرضا و انهال على وجهه ضربا و الرجل يصيح (الله الله وش درت لك أنا أشكون انت) فنطق المعتدي (أنا جحش ولاد زياد، اصبر غدوا يجوك الحمير و شوف شكون يسلكك منا) ههه
تذكرت هذا و أنا أقرأ عن الشعراء الذين قتلهم لسانهم كالمتنبّي و طرفة بن عبد فأحببت أن أشارككم إيّاك.
قيل إنّما سميّ السفر سفرا لأنّه يُسفر عن أخطاء صاحبه ، فمن أراد أن يعرف حقيقة نفسه فليفارق أهله و ليترك رَحْـلَـه ، و ليتذوّق مشقّات السفر و ليختبر معادنَ ناس لم يتصوّر وجودها أصلا ، هنالك ستتّسع
مداركه و تٌـشحذ نفسه لما في السّفر من تجارب تضرّس المسافر و تحنّكه.
و هو رياضة لما فيه من تدريب للنّفس على الصّبر و تحمّل لوعة الغربة و لسعة الوحشة و نهشات الدهر...
-ومما عُزِيَ للشّافعِيّ:
تغَرَّبْ عن الأوطَانِ في طَلَبِ العُلا *** وسَافِرْ ففِي الأسفَارِ خَمسُ فَوائدِ
-قرأت مرة أن كلمة (سِتّْ)التي يقولها إخوتنا في مصر و يقصدون بها المرأة هي عربيّة فصيحة و أصلها (يا ستَّ جهاتي) أي يا مليكة ست جهاتي ، و الجهات الستة معروفة (يمين شمال، أسفل فوق، أمام خلف) ، و يرى بعض أهل العلم أنها لحن في الكلام و عدول عن الأصل الذي هو سيّدتي...
-و مهما يكن فالستّ تقال للمرأة تعظيما و توقيرا و تبجيلا ،و هذا لعمرك ذروة المودّة أن ترى زوجك حيثما حللت و ارتحلت ، فلا تعدو عيناك عنها ، و لن يحصل لك ذلك الخير حتى تحبّ في زوجك جوهرها الإنسانيّ و تحيط بكنهها على الوجه الذي يجعلك تهيم بها... و لا أظن ذلك يحصل حتى تكون الزوج ديّنة خلوقة ليّنة ودودة..!
-و اما إن أحببت الصورة الماديّة لزوجك فإنّ تلك المادة تفنى و يصيبها التلف ، و جمال المرأة الخارجي يذوي كما تذوي الشمعة و لو طال بها الأمد، هنالك ستكون كل النسوان في مرتبة زوجك و ربما يميل قلبك إلى غيرها و يغلبك الشيطان و نفسك فتقع في المحظور...!
لقد عشت طول عمري لا أصدّق أنه بشريّ ، إنّما هو من صفوة الملائكة الذين يولدون مرّة واحدة في الدّهر ثم لا تلد النّساء مثلهم إلى يوم القيامة..
أجل فقد رغب عن الدنيا و لا يعرف منها إلّا ما يقيم منها صلبه ، و إذا تكلّم كأنّ كل أهل البلاغة مذ خلق آدم حتى يومنا هذا قد حشروا مع بعض و جعلوا يهمسون في فؤاده بلسان واحد بماذا سيتكلّم.
عمي قدّور البقية الصالحة ممّن أنفوا الركوع لفرنسا و أبوا إلّا أن يسيموها خسفا ، أبى أن يأخذ من الدّولة ما تعطيه كمنحة للمجاهدين و لا ينفك يردّد (إنّما أجري على الله) ، و لم يقف عند هذا الحدّ بل توعّد بنيه بالبراءة منهم إن هم أخذوا دينار واحد من الدّولة بعد أن يقضي نحبه.
الله وحده يعلم كم حقن هذا الرجل من الدّماء أيّام العشرينيّات السوداء ، و الله وحده يعلم كم من ظالم قَبَرَه عمّي قدور ، فعمّي قدّور ليس من المٌرائين و لا يشرك بالله فتيلا ، لأنّه لا يحكي عن مآثره إلّا أن يقول ( لقد أدّينا حقّ الله علينا و حق العباد و البلاد)....!
آخر مرّة قعدت معه كانت و أنا أحادثه عن حبس المطر و هل هو بلاء أم ابتلاء و لم أجد كلامي أمام كلامه إلا كمن سكب كأس ماء على شاطئ البحر و قال للناس (عن الماء المنسكب) هذا بحر ثانِِ ههه
يستحيل على ذهني أن يتصوّر معنى الأصالة نقيّا أصيلا دون أن يتصوّر أيضا ملامح ذلك العجوز الذي جُعلت الحكمة ظله ، و الرويّة مطيّته ، و الصدق منهجه ، و الدُعابة و المزاح ممشاه..
يمكنك ان تسمّيه موسوعة الأمثال الشعبيّة و لا حرج ، و أن تسميه كذلك مجمع الأشعار الشعبيّة و لا تثريب عليك ، فهو مع كثرة نسيانه إلّا أنه لا ينسى أبدا أن يتحفك بما يزيل عن كاهلك أوزار الهموم..
نعم هو ساحر يجعل الكآبة تتبدّد سحائبها فقد ببضع كُليمات يقذفها في فؤادك قبل سمعك ، ثمّ ها أنت ذا قد بعثت مجدّدا و البهجة تغمرك من جديد.
في كلّ يوم تقريبا أجده ينتظرني كي أقلّه معي إلى السوق ، فمازحته مرّة قائلا ( السيارة راك حاب تشاركها معي؟) فردّ تماما بما في قلبه : (و أنت علاش تخاف من ربي) ههه
أخشى أن يأتي يوم لا أجد فيه هذا الجبل الأشمّ ينتظرني كي أقلّه، فأمثاله لأجلهم ينزل القَطْرُ فهم ملح الأرض و زينة الحياة الدنيا.
إن كنتم تذكرون عمي قدور فهو الجِدّ و الحزم بعينه و أمّا عمي لخظر فهو الهزل و المزاح و الدعابة دون أن يخسر وقاره و هيبته.
لا بدّ أنك طرحت في صحراء التيه يوما و عرضت على ناظريك كلّ ألوان الأجوبة إلّا الجواب الذي يؤرّقك طلبه ، و أنت بين رمضاء اليأس و رونق الأمل اللائح في الأفق لا تملك إلّا الترنّح كالمثخّن بالجراح لا تقوى على المشي سويّا
كسائر النّاس...
الملأ من حولك يضحكون و أنت تضحك معهم، الملأ يرمقون في عينيك السرور و على قسمات محيّاك الحبور ، لكن خلف ستائر اللحم توجد روح ظمأى للجواب ، لكن هيهات هيهات أن يكون الجواب كما تشتهي..!
تلك حربك الضروس و تلك الحيرة جُند من جنود الدّهر الذي لا يتوانى عن قعس ظهرك كلّما هممت بالانتفاض، فإمّا تخوض غمارها بنفس مؤمنة راضية بقضاء الله و قدره فتنعم بتاج القناعة و تحلّى بالعفاف و يؤخذ بيدك إلى جواب قِوامه و أسّه و أساسه ( الآن اطمـأنّ قلبي)..
و إما أن تستنجد بشيطانك و تطلب مدده فيمدّك بالغرور و الزّهو و يخلع عليك أصناف الأماني المعسولة حتّى يكلك الله إلى نفسك و تلك القاصمة و ليس منها عاصمة..!
أركن لواءك حيث ركنه الذين من قبلك وامش كما كانوا يمشون فإنك إذ ذاك تقتدي بهم و لست تقلّدم كما يُخيّل لك و الله المعين ^^
إلى صديق باع مودّتي و نور جانبي بعرض من الدنيا..! لئن باغتتك جيوش العدا ولم تستطع ان تصد الخطر *** فإني على شرطكَ جوشنُُ ابيد العدى في غياب الحفر *** واني قليل المقام سؤوم فما لذّ عيشي بغير السفر *** ولي هم طمحِ الحسام مجيدُُ قسى قلبه فارتمى كالحجر *** صغيرإذا حطّ فوق الرؤس جلا فوقها و فرى بالصور *** فلا تنقصنّ صغيراً بعينٍ إذ الفعل يقضّ عين الصغر