- إنضم
- 24 ديسمبر 2011
- المشاركات
- 24,462
- نقاط التفاعل
- 27,825
- النقاط
- 976
- محل الإقامة
- فار إلى الله
- الجنس
- ذكر
أسباب تُعينُ العبد على الصبرِ عن المعصية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالإنسان عبد ضعيف من جميع الجوانب، فهو ضعيف البنية والإرادة والعزيمة والصبر، وغيرها؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وهذا الضعف يجعله يقع في المعاصي، التي هي سبب للعقوبات؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة.
وهناك أسباب تُعين العبد على الصبر عن المعصية، ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله عشرةً منها، قال رحمه الله: الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرَّمَها ونهى عنها؛ صيانةً لعبده عن الدنايا والرذائل.
السبب الثاني: خوف الله وخشيته.
السبب الثالث: الحياء من الله عز وجل؛ فإن العبد متى علِم بنظره إليه، استحيى من ربِّه أن يتعرَّض لمساخطه.
السبب الرابع: مراعاة نعمه عليك، وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النِّعَم ولا بد، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتى يُسلب النعم كلها؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
السبب الخامس: شرفُ النفس وزكاؤها وفضلها، وأنَفَتُها وحميَّتُها - أن تختار الأسباب التي تحطُّها وتضَعُ قدرَها، وتخفض منزلتها وتُحقِّرها، وتسوي بينها وبين السفلة.
السبب السادس: محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه.
السبب السابع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفًا، فيضيق عليها المباحُ، فتتعداه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضُرُّه ولا بد.
السبب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها.
السبب التاسع: قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله، فهو حريص على ترك ما يثقلُه حمله.
السبب العاشر: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي، إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى، كان صبره عن المعاصي أتمَّ.
ومن الأسباب التي تُعينُ العبد على الصبر عن المعصية - إضافة إلى ما ذكره - ما يلي:
يقين العبد أن اللذة الموجودة في بعض المعاصي بمنزلة طعام لذيذ لكنه مسموم:
ما يوجد في بعض الذنوب والمعاصي من مسرَّة عاجلة، فهي بمثابة من يأكل طعامًا لذيذًا مسمومًا، يلتذُّ به وفيه هلاكه؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: المعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم، هي شرور، وإن نالت بها النفس مسرَّةً عاجلةً، وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم، إذا تناوله الآكلُ لذَّ له أكلُه، وطاب له مساغُه، وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل، فهكذا المعاصي والذنوب ولا بدَّ، حتى ولو لم يخبر الشارع بذلك، لكان الواقع والتجربةُ الخاصةُ والعامة من أكبر شهوده.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافًا مضاعفة.
يقين العبد أن الذنوب لها عقوبة لكن قد يتأخَّر وقوعها استدراجًا:
الذنوب لابد لها من عقوبة؛ لكن قد يتأخر وقوعها؛ استدراجًا من الله؛ قال عز وجل: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 182، 183] قال بعض السلف: كلما أحدثوا ذنبًا أحدثنا لهم نعمة.
وعن عُقبة بن عامر رضي الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه؛ فإنما ذلك استدراج منه))، ثم تلا قوله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع عليك نعمَه عليك وأنت مقيم على معاصيه فاحذَره، فإنما هو استدراج منه يستدرجك به، وقال آخر: رُبَّ مستدرجٍ بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورُبَّ مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم، فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذرٍ، واعلم أن العقوبة تختلف؛ فتارةً تُعجَّل، وتارة تُؤخَّر، وتارةً يجمعُ الله على العاصي بينهما، وقال رحمه الله: ...الرب سبحانه...أما من سقط من عينه وهان عليه، فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد، والعقوبة التي لا عاقبة معها، كما في الحديث المشهور: ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجَّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبده شرًّا، أمسك عنه عقوبته في الدنيا، فيرد يوم القيامة بذنوبه))، قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: من أعظم المحن: الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة قد تتأخَّر.
يقين العبد أن الذنوب لا تزيل الهموم بل تغيبها فترة، ثم تعود أشدَّ ما تكون:
الذنوب لا تزيل الهموم، فهي تغيبها فترة من الزمن تعود بعدها أشدَّ من سابقتها؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: السُّكر يُوجب اللَّذة، فإن صاحبها يحصل له لذَّةٌ وسرورٌ بها، يحملُه على تناولها؛ لأنها تُغيب عنه عقله، فتغيِّب عنه الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة، ولكن يغلطُ في ذلك، فإنها لا تزول، ولكن تتوارى، فإذا صحا عادت أعظم ما كانت وأوفر، فيدعوه عودها إلى العود، كما قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذَّةٍ *** وأُخرى تداويتُ منها بها
وتلك اللذة أجلبُ شيءٍ للهموم والغموم عاجلًا وآجلًا.
يقين العبد أن المذنب قد يؤخذ على حين غِرة:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن إهلاك الله عز وجل لقوم لوط: فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالًا وسلفًا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين...أخذهم على غرةٍ وهم نائمون، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فانقلبت تلك اللذات آلامًا فأصبحوا بها يُعذَّبون، ذهبت اللذات، وأعقبت الحسرات، وانقضت الشهوات، وتمتَّعُوا قليلًا، وعُذِّبُوا كثيرًا، رتعوا مرتعًا وخيمًا، فأعقبهم عقابًا أليمًا، أسكرتهم خمرة تلك الشهوة، فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين، وأرقدتهم تلك الغفلة، فما استيقظوا إلا وهم في منازل الهالكين، فندموا والله أشدَّ الندامة حين لا ينفع الندم، وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم.
يقين العبد أن لترك المعاصي فوائد كثيرة:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قوامًا لمصالح الدنيا والآخرة ومحبة الخلق وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفُسَّاق والفُجَّار، وقلَّة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذُّلِّ، وصون نور القلب أن تُطفئهُ ظلمةُ المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفسَّاق والفُجَّار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسبُ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أُوذي وظُلِم، وذبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتابٌ، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُربُ الملائكة منه، وبعدُ شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبهم لمودَّته وصحبته، وعدم خوفه من الموت بل يفرح به؛ لقدومه على ربِّه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبرُ الآخرة عنده، وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوقُ حلاوة الطاعة، ووجود حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرحُ الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله له، وإقباله عليه وفرحه بتوبته.. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا، فإذا مات تلقَّته الملائكة بالبُشْرى من ربِّه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حُزْن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحرِّ والعرق وهو في ظلِّ العرش.
يقين العبد أن الإصرار على المعاصي يُؤدِّي إلى سوء الخاتمة:
قال أبو محمد الإشبيلي رحمه الله: واعلم أنَّ لسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابًا، ولها طرقًا وأبوابًا، أعظمها: الإكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل، ولقد بكى سفيان الثوري ليلة حتى الصباح، فلما أصبح قيل له: كلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟! فأخذ تبنةً من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا؛ وإنما أبكي من خوف الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة بالحسنى.
وقال: واعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد؛ وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيمًا ثم تغيَّرت حاله وخرج عن سنته، وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببًا لسوء خاتمته وسوء عاقبته.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: من مات مُصِرًّا على المعصية فيخاف عليه، فربما إذا عاين علامات الآخرة استفزَّه الشيطان، وغلبه على قلبه حتى يموت على التبديل والتغير.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: مات كثير من المصرِّين على المعاصي على أقبح أحوالهم، وكثيرًا ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: إن أكلة الرِّبا مُجرَّب لهم سوء الخاتمة، وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد رحمه الله: فالغالب أن من تعاطى الربا لا يُختَم له بخير، في الغالب أنه يموت على شرٍّ؛ لأن دمه ولحمه نبت على سُحْت، فحريٌّ ألا يُوفَّق ولا يُختَم له بخيرٍ، وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والمعاملة بالربا أيضًا من أسباب سوء الخاتمة.
وقال ابن رجب رحمه الله: خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس من جهة عمل سيئ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: كيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره، واتَّبَع هواه، وكان أمره فرطًا؟ فبعيدٌ مَنْ قلبه بعيدٌ من الله تعالى، غافلٌ عنه، مُتعبِّدٌ لهواه، أسير لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه مُعطَّلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته، أن توفق للخاتمة بالحسنى، ولقد قطع خوف سوء الخاتمة ظهور المتقين.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: كثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر، وقلبه مليء بالحقد على المسلمين، وعلمائهم، وعلى أهل الخير، وهذا يُختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله؛ لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة، فإنها تهوى بصاحبه في مكان سحيق، وأيضًا من أسباب سوء الخاتمة محبة الكفار؛ لأنها سريرة خبيثة، بل الواجب على المسلم محبة المسلمين وموالاتهم وكراهية الكفار ومعاداتهم، فإذا كان الأمر بالعكس عند أحد الناس فذلك أمر خطير يخشى على صاحبه أن يختم له بسوء الخاتمة.
يقين العبد أن الذنب إذا كان فيه تَعَدٍّ على الآخرين فالغالب أن العقوبة تتعجَّل:
عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))؛ [أخرجه أبو داود] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الذنب إذا كان فيه تعدٍّ على العباد، فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين: عقوبة الدنيا والآخرة، عقوبة الدنيا ليشفي قلب المظلوم المعتدى عليه، ولا شك أن الإنسان إذا اعتدى عليك، ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتصَّ لك منه، وقال ابن القيم رحمه الله: وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة رحم.
يقين العبد أن لذة التوبة من المعصية تزيد على لذة المعصية أضعافًا مضاعفة:
قال ابن القيم رحمه الله: لو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة، لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية؛ لكن ها هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحات ومضض ومِحَن لا تثبت لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذَّة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها، لم يظفر بشيء.
وها هنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه ملائكته فبشَّروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان وربًّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضيًّا عنك؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30] فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومِن بعدها أنواع من الفرح منها صلاةُ الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها فتح أبواب السماء لها وصلاة ملائكة السماء عليها، فكيف يقدَّر فرحُها وقد استؤذن لها على ربها ووليِّها وحبيبها، فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت، ثم سمعته سبحانه يقول: اكتبوا كتابه في عليِّين ثم يُذهب به، فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعدَّ الله له، ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به، ويفرحون به، ويفرح بهم فرح الغائب، يقدم على أهله، هذا قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد بجلوسه في ظل العرش وشربه من الحوض وأخذه كتابه بيمينه وثقلِ ميزانه وبياض وجهه وإعطائه النور التام والناس في الظلمة وقطعِه جسر جهنم بلا تعويق وانتهائه إلى باب الجنة وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقَّى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه.
وقال رحمه الله: فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها ها هنا حُرمها هناك، أو نقص كمالها، فلا يجعل الله لذة من وقع في معاصيه ومحارمه، كلذة من ترك شهوته لله أبدًا.
وقال رحمه الله: فأين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة على لذة هي من أعظم اللذات، وفرحة ومسرَّة من أعظم المسرَّات، دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع، فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام، وإنما حصلت بالآلام، وعاقبتها الآلام؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها ومضرتها ومنفعتها، لاستحيا من نفسه وعقله، كيف يسعى في طلبها ويُضيع زمانه في اشتغاله بها، فضلًا عن إيثارها على ((ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر))، وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وجعل ثمنها جنته، وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه، فسلعة رب السموات والأرض مشتريها، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم وسماع كلامه منه في داره ثمنها، ومن جرى على يده العقد رسوله، كيف يليق بالعاقل أن يُضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس، في دار زائلة مضمحلة فانية، وهل هذا إلا من أعظم الغبن؟ وإنما يظهر له هذا الغبن الفاحش يوم التغابن، إذا ثقلت موازين المتقين، وخفت موازين المُبطلين، فاللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم، إنما هو في معرفة الله، وتوحيده، والأُنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمِّ عليه.
يقين العبد أن المعاصي تستوجب العذاب المتنوع المتعدد على الأفراد والمجتمعات:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم، وتنوع في عذابهم، وأخذهم بالانتقام منهم، وفعل ذلك بهم جزاء وفاقًا بما كسبت أيديهم.
وقال الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال قتادة: ﴿ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ عقوبة لك يا بن آدم بذنبك.
والعذاب يتنوع فقد يكون حسيًّا، وقد يكون معنويًّا، وقد يكون بهما معًا؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: العقوبة أشدها العقوبةُ بسلبِ الإيمان، ودون ذلك موتُ القلب، ومحو لذة المناجاة منه، وقوة الحرص على الذنب، ونسيان القرآن، وإهمال الاستغفار، وربما دبَّت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة، إلى أن يمتلئ أفق القلب، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعًا بالبدن في الدنيا، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: أشدُّ العقوبات: العقوبة بسلب الإيمان، ودونها العقوبة بموت القلب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: العمل السيئ مثل الكذب يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره، ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلَّمه، وانسداد باب علم كان يطلبه، ونقص في يقينه وعقله، واسوداد وجهه، وبُغضه في قلوب الخلق، واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه، وهَلُمَّ جرًّا، إلا أن يتداركه الله برحمته.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة، في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون، ويكون عزيزًا عليهم إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات وأن ما يعفو الله عنه أكثر.
يقين العبد أن المعاصي تسلب النعم:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى قضى فيما قضى به أنَّ ما عنده لا يُنال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعمُ الله بغير طاعته، ولا استُديمت بغير شكره، ولا عُوِّقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إذا أنعم عليك، ثمَّ سلبك النعمة، فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإنما أنت السبب في سلبها عنك، فإن الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53]، فما أُزيلت نعمُ الله بغير معصيته:
إذا كنت في نعمةٍ فارْعها *** فإن الذنوبَ تُزيلُ النِّعَـم
فآفتك وبلاؤك منك، ولو علمت من أين دُهيت، ومن أين أُصبت لأمكنك تدارُك ذلك، وقال رحمه الله: ومن نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب.
فما حُفِظت نعمة الله جل جلاله بشيء قطُّ مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربِّه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ولو تفطن العاقلُ اللبيب لهذا حق التفطُّن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب.
يقين العبد أن كلَّ ما يحدث في العالم من فساد فبسبب المعاصي:
قال ابن القيم رحمه الله: لم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا، فاكتف بقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41] وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا أحدث لهم ربهم سبحانه وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ومياههم وأبدانهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
ومن تاب فليكن على خوف ووجلٍ من ذنوبه؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه، وإن تاب منها وبكى عليها، وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة وكأنهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب.
ثم لو غفرت بقي الخجل منها، ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: ((أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا، فيقول: ذنبي، وإلى نوح عليه السلام، فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم))، فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوبًا حقيقة، ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا، وهم بعدُ على خوف منها، ثم إن الخجل بعد التوبة لا يرتفع، وهذا أمر قلَّ أن ينظر فيه تائب أو زاهد؛ لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة، وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالإنسان عبد ضعيف من جميع الجوانب، فهو ضعيف البنية والإرادة والعزيمة والصبر، وغيرها؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وهذا الضعف يجعله يقع في المعاصي، التي هي سبب للعقوبات؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة.
وهناك أسباب تُعين العبد على الصبر عن المعصية، ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله عشرةً منها، قال رحمه الله: الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرَّمَها ونهى عنها؛ صيانةً لعبده عن الدنايا والرذائل.
السبب الثاني: خوف الله وخشيته.
السبب الثالث: الحياء من الله عز وجل؛ فإن العبد متى علِم بنظره إليه، استحيى من ربِّه أن يتعرَّض لمساخطه.
السبب الرابع: مراعاة نعمه عليك، وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النِّعَم ولا بد، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتى يُسلب النعم كلها؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
السبب الخامس: شرفُ النفس وزكاؤها وفضلها، وأنَفَتُها وحميَّتُها - أن تختار الأسباب التي تحطُّها وتضَعُ قدرَها، وتخفض منزلتها وتُحقِّرها، وتسوي بينها وبين السفلة.
السبب السادس: محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه.
السبب السابع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفًا، فيضيق عليها المباحُ، فتتعداه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضُرُّه ولا بد.
السبب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها.
السبب التاسع: قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله، فهو حريص على ترك ما يثقلُه حمله.
السبب العاشر: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي، إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى، كان صبره عن المعاصي أتمَّ.
ومن الأسباب التي تُعينُ العبد على الصبر عن المعصية - إضافة إلى ما ذكره - ما يلي:
يقين العبد أن اللذة الموجودة في بعض المعاصي بمنزلة طعام لذيذ لكنه مسموم:
ما يوجد في بعض الذنوب والمعاصي من مسرَّة عاجلة، فهي بمثابة من يأكل طعامًا لذيذًا مسمومًا، يلتذُّ به وفيه هلاكه؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: المعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم، هي شرور، وإن نالت بها النفس مسرَّةً عاجلةً، وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم، إذا تناوله الآكلُ لذَّ له أكلُه، وطاب له مساغُه، وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل، فهكذا المعاصي والذنوب ولا بدَّ، حتى ولو لم يخبر الشارع بذلك، لكان الواقع والتجربةُ الخاصةُ والعامة من أكبر شهوده.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافًا مضاعفة.
يقين العبد أن الذنوب لها عقوبة لكن قد يتأخَّر وقوعها استدراجًا:
الذنوب لابد لها من عقوبة؛ لكن قد يتأخر وقوعها؛ استدراجًا من الله؛ قال عز وجل: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 182، 183] قال بعض السلف: كلما أحدثوا ذنبًا أحدثنا لهم نعمة.
وعن عُقبة بن عامر رضي الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه؛ فإنما ذلك استدراج منه))، ثم تلا قوله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع عليك نعمَه عليك وأنت مقيم على معاصيه فاحذَره، فإنما هو استدراج منه يستدرجك به، وقال آخر: رُبَّ مستدرجٍ بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورُبَّ مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم، فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذرٍ، واعلم أن العقوبة تختلف؛ فتارةً تُعجَّل، وتارة تُؤخَّر، وتارةً يجمعُ الله على العاصي بينهما، وقال رحمه الله: ...الرب سبحانه...أما من سقط من عينه وهان عليه، فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد، والعقوبة التي لا عاقبة معها، كما في الحديث المشهور: ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجَّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبده شرًّا، أمسك عنه عقوبته في الدنيا، فيرد يوم القيامة بذنوبه))، قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: من أعظم المحن: الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة قد تتأخَّر.
يقين العبد أن الذنوب لا تزيل الهموم بل تغيبها فترة، ثم تعود أشدَّ ما تكون:
الذنوب لا تزيل الهموم، فهي تغيبها فترة من الزمن تعود بعدها أشدَّ من سابقتها؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: السُّكر يُوجب اللَّذة، فإن صاحبها يحصل له لذَّةٌ وسرورٌ بها، يحملُه على تناولها؛ لأنها تُغيب عنه عقله، فتغيِّب عنه الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة، ولكن يغلطُ في ذلك، فإنها لا تزول، ولكن تتوارى، فإذا صحا عادت أعظم ما كانت وأوفر، فيدعوه عودها إلى العود، كما قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذَّةٍ *** وأُخرى تداويتُ منها بها
وتلك اللذة أجلبُ شيءٍ للهموم والغموم عاجلًا وآجلًا.
يقين العبد أن المذنب قد يؤخذ على حين غِرة:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن إهلاك الله عز وجل لقوم لوط: فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالًا وسلفًا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين...أخذهم على غرةٍ وهم نائمون، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فانقلبت تلك اللذات آلامًا فأصبحوا بها يُعذَّبون، ذهبت اللذات، وأعقبت الحسرات، وانقضت الشهوات، وتمتَّعُوا قليلًا، وعُذِّبُوا كثيرًا، رتعوا مرتعًا وخيمًا، فأعقبهم عقابًا أليمًا، أسكرتهم خمرة تلك الشهوة، فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين، وأرقدتهم تلك الغفلة، فما استيقظوا إلا وهم في منازل الهالكين، فندموا والله أشدَّ الندامة حين لا ينفع الندم، وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم.
يقين العبد أن لترك المعاصي فوائد كثيرة:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قوامًا لمصالح الدنيا والآخرة ومحبة الخلق وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفُسَّاق والفُجَّار، وقلَّة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذُّلِّ، وصون نور القلب أن تُطفئهُ ظلمةُ المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفسَّاق والفُجَّار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسبُ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أُوذي وظُلِم، وذبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتابٌ، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُربُ الملائكة منه، وبعدُ شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبهم لمودَّته وصحبته، وعدم خوفه من الموت بل يفرح به؛ لقدومه على ربِّه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبرُ الآخرة عنده، وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوقُ حلاوة الطاعة، ووجود حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرحُ الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله له، وإقباله عليه وفرحه بتوبته.. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا، فإذا مات تلقَّته الملائكة بالبُشْرى من ربِّه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حُزْن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحرِّ والعرق وهو في ظلِّ العرش.
يقين العبد أن الإصرار على المعاصي يُؤدِّي إلى سوء الخاتمة:
قال أبو محمد الإشبيلي رحمه الله: واعلم أنَّ لسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابًا، ولها طرقًا وأبوابًا، أعظمها: الإكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل، ولقد بكى سفيان الثوري ليلة حتى الصباح، فلما أصبح قيل له: كلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟! فأخذ تبنةً من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا؛ وإنما أبكي من خوف الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة بالحسنى.
وقال: واعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد؛ وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيمًا ثم تغيَّرت حاله وخرج عن سنته، وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببًا لسوء خاتمته وسوء عاقبته.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: من مات مُصِرًّا على المعصية فيخاف عليه، فربما إذا عاين علامات الآخرة استفزَّه الشيطان، وغلبه على قلبه حتى يموت على التبديل والتغير.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: مات كثير من المصرِّين على المعاصي على أقبح أحوالهم، وكثيرًا ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: إن أكلة الرِّبا مُجرَّب لهم سوء الخاتمة، وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد رحمه الله: فالغالب أن من تعاطى الربا لا يُختَم له بخير، في الغالب أنه يموت على شرٍّ؛ لأن دمه ولحمه نبت على سُحْت، فحريٌّ ألا يُوفَّق ولا يُختَم له بخيرٍ، وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والمعاملة بالربا أيضًا من أسباب سوء الخاتمة.
وقال ابن رجب رحمه الله: خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس من جهة عمل سيئ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: كيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره، واتَّبَع هواه، وكان أمره فرطًا؟ فبعيدٌ مَنْ قلبه بعيدٌ من الله تعالى، غافلٌ عنه، مُتعبِّدٌ لهواه، أسير لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه مُعطَّلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته، أن توفق للخاتمة بالحسنى، ولقد قطع خوف سوء الخاتمة ظهور المتقين.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: كثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر، وقلبه مليء بالحقد على المسلمين، وعلمائهم، وعلى أهل الخير، وهذا يُختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله؛ لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة، فإنها تهوى بصاحبه في مكان سحيق، وأيضًا من أسباب سوء الخاتمة محبة الكفار؛ لأنها سريرة خبيثة، بل الواجب على المسلم محبة المسلمين وموالاتهم وكراهية الكفار ومعاداتهم، فإذا كان الأمر بالعكس عند أحد الناس فذلك أمر خطير يخشى على صاحبه أن يختم له بسوء الخاتمة.
يقين العبد أن الذنب إذا كان فيه تَعَدٍّ على الآخرين فالغالب أن العقوبة تتعجَّل:
عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))؛ [أخرجه أبو داود] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الذنب إذا كان فيه تعدٍّ على العباد، فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين: عقوبة الدنيا والآخرة، عقوبة الدنيا ليشفي قلب المظلوم المعتدى عليه، ولا شك أن الإنسان إذا اعتدى عليك، ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتصَّ لك منه، وقال ابن القيم رحمه الله: وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة رحم.
يقين العبد أن لذة التوبة من المعصية تزيد على لذة المعصية أضعافًا مضاعفة:
قال ابن القيم رحمه الله: لو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة، لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية؛ لكن ها هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحات ومضض ومِحَن لا تثبت لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذَّة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها، لم يظفر بشيء.
وها هنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه ملائكته فبشَّروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان وربًّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضيًّا عنك؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30] فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومِن بعدها أنواع من الفرح منها صلاةُ الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها فتح أبواب السماء لها وصلاة ملائكة السماء عليها، فكيف يقدَّر فرحُها وقد استؤذن لها على ربها ووليِّها وحبيبها، فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت، ثم سمعته سبحانه يقول: اكتبوا كتابه في عليِّين ثم يُذهب به، فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعدَّ الله له، ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به، ويفرحون به، ويفرح بهم فرح الغائب، يقدم على أهله، هذا قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد بجلوسه في ظل العرش وشربه من الحوض وأخذه كتابه بيمينه وثقلِ ميزانه وبياض وجهه وإعطائه النور التام والناس في الظلمة وقطعِه جسر جهنم بلا تعويق وانتهائه إلى باب الجنة وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقَّى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه.
وقال رحمه الله: فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها ها هنا حُرمها هناك، أو نقص كمالها، فلا يجعل الله لذة من وقع في معاصيه ومحارمه، كلذة من ترك شهوته لله أبدًا.
وقال رحمه الله: فأين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة على لذة هي من أعظم اللذات، وفرحة ومسرَّة من أعظم المسرَّات، دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع، فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام، وإنما حصلت بالآلام، وعاقبتها الآلام؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها ومضرتها ومنفعتها، لاستحيا من نفسه وعقله، كيف يسعى في طلبها ويُضيع زمانه في اشتغاله بها، فضلًا عن إيثارها على ((ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر))، وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وجعل ثمنها جنته، وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه، فسلعة رب السموات والأرض مشتريها، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم وسماع كلامه منه في داره ثمنها، ومن جرى على يده العقد رسوله، كيف يليق بالعاقل أن يُضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس، في دار زائلة مضمحلة فانية، وهل هذا إلا من أعظم الغبن؟ وإنما يظهر له هذا الغبن الفاحش يوم التغابن، إذا ثقلت موازين المتقين، وخفت موازين المُبطلين، فاللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم، إنما هو في معرفة الله، وتوحيده، والأُنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمِّ عليه.
يقين العبد أن المعاصي تستوجب العذاب المتنوع المتعدد على الأفراد والمجتمعات:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم، وتنوع في عذابهم، وأخذهم بالانتقام منهم، وفعل ذلك بهم جزاء وفاقًا بما كسبت أيديهم.
وقال الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال قتادة: ﴿ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ عقوبة لك يا بن آدم بذنبك.
والعذاب يتنوع فقد يكون حسيًّا، وقد يكون معنويًّا، وقد يكون بهما معًا؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: العقوبة أشدها العقوبةُ بسلبِ الإيمان، ودون ذلك موتُ القلب، ومحو لذة المناجاة منه، وقوة الحرص على الذنب، ونسيان القرآن، وإهمال الاستغفار، وربما دبَّت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة، إلى أن يمتلئ أفق القلب، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعًا بالبدن في الدنيا، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: أشدُّ العقوبات: العقوبة بسلب الإيمان، ودونها العقوبة بموت القلب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: العمل السيئ مثل الكذب يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره، ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلَّمه، وانسداد باب علم كان يطلبه، ونقص في يقينه وعقله، واسوداد وجهه، وبُغضه في قلوب الخلق، واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه، وهَلُمَّ جرًّا، إلا أن يتداركه الله برحمته.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة، في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون، ويكون عزيزًا عليهم إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات وأن ما يعفو الله عنه أكثر.
يقين العبد أن المعاصي تسلب النعم:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى قضى فيما قضى به أنَّ ما عنده لا يُنال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعمُ الله بغير طاعته، ولا استُديمت بغير شكره، ولا عُوِّقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إذا أنعم عليك، ثمَّ سلبك النعمة، فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإنما أنت السبب في سلبها عنك، فإن الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53]، فما أُزيلت نعمُ الله بغير معصيته:
إذا كنت في نعمةٍ فارْعها *** فإن الذنوبَ تُزيلُ النِّعَـم
فآفتك وبلاؤك منك، ولو علمت من أين دُهيت، ومن أين أُصبت لأمكنك تدارُك ذلك، وقال رحمه الله: ومن نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب.
فما حُفِظت نعمة الله جل جلاله بشيء قطُّ مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربِّه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ولو تفطن العاقلُ اللبيب لهذا حق التفطُّن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب.
يقين العبد أن كلَّ ما يحدث في العالم من فساد فبسبب المعاصي:
قال ابن القيم رحمه الله: لم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا، فاكتف بقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41] وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا أحدث لهم ربهم سبحانه وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ومياههم وأبدانهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
ومن تاب فليكن على خوف ووجلٍ من ذنوبه؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه، وإن تاب منها وبكى عليها، وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة وكأنهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب.
ثم لو غفرت بقي الخجل منها، ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: ((أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا، فيقول: ذنبي، وإلى نوح عليه السلام، فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم))، فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوبًا حقيقة، ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا، وهم بعدُ على خوف منها، ثم إن الخجل بعد التوبة لا يرتفع، وهذا أمر قلَّ أن ينظر فيه تائب أو زاهد؛ لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة، وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك.