- إنضم
- 24 ديسمبر 2011
- المشاركات
- 24,703
- نقاط التفاعل
- 28,176
- النقاط
- 976
- محل الإقامة
- فار إلى الله
- الجنس
- ذكر
تَدبُّر القرآن ووسائل تَدبُّرِه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
هذه مقالة أحببت أن أبين فيها أهمية التدبر لكتاب الله تعالى الذي غفل عنه كثير من المسلمين حتى أهل الاستقامة منهم ، وقد أنزل الله هذا القرآن ليكون كتاب هداية ومنهاج حياة فمن تدبره بالمفهوم الصحيح لمعنى التدبر كان له نورا وهدى ورحمة ، ومن لم يتدبره كان كما وصف الله المنافقين (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ))، أسأل الله تعالى أن ينقعني وإخواني بما كتبناه وسطرناه آمين .
معنى التدبر :
عرَّف بعض اهل العلم التدبر بأنه فقه الآية الخفي مع العمل به ، فأن لم يصحب هذا الفقه عمل ، فإنَّ ذلك لا يُسمَّى تدبرا ، والله يقول : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ))
غاية التدبر :
هي تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى وذلك بالتعرف عليه وعلى عظيم سلطانه وفضله ، ومن ثَم امتثال أمره ونهيه.. قال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) محمد/19 .
حكم تدبر القرآن
أوجب الله تعالى التدبر والتفكر وإمعان النظر ، لفهم معاني آيات الكتاب العزيز، فقال تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص/29 وعاب على المنافقين إعراضهم عن تدبر القرآن والتفكر فيه وفي معانيه ، فقال تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد/24
التدبر أصل صلاح القلب
قال ابن القيم رحمه الله : (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى الى حصول الايمان وذوق حلاوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد احدهم الاية الى الصباح وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك انت العزيز الحكيم )
وقال أيضا (فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر ، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها)
ذم تارك التدبر
قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد/24
قال الشنقيطي رحمه الله : (ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها وإدراك معانيها والعمل بها فإنه معرض عنها غير متدبر لها ، فيستحق التوبيخ والإنكار ، إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر) .
كلام السلف في أهمية تدبر القرآن :
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: فليس أنفع للعبد في معاشه ومعاده, وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن, وإطالة التأمل, وجَمْعُ فيه الفكر على معاني آياته, فإنها تُطْلعُ العبد على معالم الخير والشر.. وتُثبِّتُ قواعد الإيمان في قلبه, وتُشِيدُ بنيانه, وتوطد أركانه.. وتعطيه قوةً في قلبه, وحياةً وسعةً, وانشراحاً, وبهجةً وسروراً, فيصيرُ في شأنٍ, والناس في شانٍ آخر.. فلا تزال معانيه تنهض بالعبد إلى ربه, وتُثِّبتُ قلبه عن الزيغ والميل عن الحق, وتناديه كلَّما فترت عزماته, ودنى في سيره: تقدم الركب, وفاتك الدليل.. وفي تأمل القرآن وتدبره أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار, ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار, ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم, ومصيدة المعارف والفهوم, وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره.
وقال الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى: وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكر في معانيه وأوامره ونواهيه, ووعده ووعيده, والوقوف عند حدوده..
وقال الإمام الزركشي رحمه الله تعالى : من لم يكن له علمٌ وفهمٌ وتقوى وتدبر, لم يُدْرك من لذة القرآن شيئاً.
وقال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذُّ بقراءته!.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق .
لا تجعل همك التلاوة دون فهم وتدبر
قال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة:78]
قال الـشـوكـانـي رحمه الله : وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر. وقـال ابـن القـيـم رحمه الله : ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني .
لا يكن همّك في القراءة آخر السورة أو آخر القرآن :
قال الحسن البصري رحمه الله (يا ابن آدم ، كيف يَرِقُ قلبك وإنما همتك آخر السورة)
وقال الآجريّ رحمه الله واصفا حال من أراد التدبر (وكان همَّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه ؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة ؟ .. وإنما مراده: متى أعقل من الله الخطاب ؟ متى أزدجر ؟ متى أعتبر ؟ لأن قراءة القرآن عبادة والعبادة لا تكون بغفلة)
علامات التدبر:
إن لكل شيء علامة تدل على حقيقته ، وإنَّ من علامات التدبر لكتاب الله ما ذكره الله تعالى في بعض الآيات تدل على صدق تدبر قارئ القرآن ومن هذه الآيات ما يلي :
قوله تعالى : (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (المائدة:83)
وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال:2 )
وقوله تعالى : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (التوبة:124)
وقوله تعالى : (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء:107-109) ،
وقوله تعالى : ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم:58)
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)
وقوله تعالى : (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (القصص:53 )
وقوله تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23) .
فتحصل من الآيات السابقة سبع علامات هي:
* اجتماع القلب والفكر حين القراءة .
* البكاء من خشية الله.
* زيادة الخشوع.
* زيادة الإيمان .
* الفرح والاستبشار.
* القشعريرة خوفا من الله تعالى ثم غلبة الرجاء والسكينة .
* السجود تعظيما لله عز وجل .هـ
الوسائل المعينة على تدبر القرآن
قال الحسن البصري : ما أنزل الله من آية إلا وهو يُحِبُّ أن يَعلم فيما أنُزِلت، وماذا عُني بها.
اعلم أخي أنّ لتدبر قرآن وسائل وأمور تعين على ذلك ومن هذه الوسائل :
- تفريغ القلب من الانشغال بغير الله، والتفكر في غير كتابه، فاقرأ القرآن وقلبك فارغ من كل شيء إلا من الله، ومحبته، والرغبة في فهم كلامه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} ق 5/37.
2- الترتيل عند قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، وتحزينه، فإنه معين على التدبر والتأمل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف مرة يستمع لقراءة أبي موسى، وقال إنك قد أعطيت مزمارًا من مزامير آل دواد.
3- استشعار عظمة الله، وأنه يكلمك بهذا القرآن، حتى كأنك تسمعه منه الآن.
4- محاولة فهم معاني القرآن، بالرجوع إلى التفاسير التي تهتم ببيان المعنى، دون دخول في دقائق اللغة والإعراب، أو المسائل الفقهية، ومن أحسن هذه التفاسير تفسير ابن كثير، وتفسير ابن سعدي .
5- ربط القرآن بواقعك الذي تعيش فيه، وذلك بالنظر في المواعظ التي يذكرها، والقصص التي يحكيها، وكيف أن الله أهلك أممًا كثيرة لما كذبوا وأعرضوا، وأن هذا المصير ينتظر كل من أعرض عن الله، وكفر برسله، مهما كانوا في قوة وعزة.
6ـ البعد عن الذنوب والمعاصي، لأن لها ظلمة في القلب تحجبه عن الاستنارة بنور الذكر.
7ـ تحري الأوقات التي يكون القلب فيها أبعد ما يكون عن الشواغل وأقرب ما يكون إلى الخشوع كالوقت الذي بعد صلاة الفجر وجوف الليل ونحو ذلك .
8ـ قراءة الليل : مما يعين على تدبر القرآن والتأمل في آياته ومواعظه وعبره صلاة الليل والقراءة فيه، وفي ذلك يقول المولى عز وجل {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} المزمل/6
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما ( إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار) .
9ـ ترديد الآية المؤثرة في القلب : مما يعين على تدبر القرآن والتفكر في معانيه ترديد الآية المؤثرة في القلب، وهذا الترديد من أبرز صور الوقوف على المعاني، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة..
عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : (( قَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا ، وَالآيَةُ { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقال ابن القيم رحمه الله (وهذه كانت عادة السلف ، يردد أحدهم الآية إلى الصباح)
ثمرات التدبر :
ذكر ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ}يونس/ 57. ما يبين أن من فهم القرآن وتدبره وعمل بمقتضاه حصل له الشفاء البدني والقلبي .
قال رحمه الله : فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً.
وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماءِ الذي لو نزل على الجبال، لصَدَعَهَا، أو على الأرض، لقطعها، فما مِن مرضٍ من أمراض القُلُوبِ والأبدان إلا وفى القُرآن سبيلُ الدلالة على دوائه وسببه، والحِمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.
وزاد الأجري في كتاب أخلاق حملة القرآن فقال : ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم ؛ كيف يحث خلقه على أن يتدبروا كلامه ، ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل ، وعرف عظيم سلطانه وقدرته ، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين ، وعرف ما عليه من فرض عبادته ، فألزم نفسه الواجب ، فحذر مما حذره مولاه الكريم ، ورغب فيما رغبه فيه ، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن ، وعند استماعه من غيره ، كان القرآن له شفاء ، فاستغنى بلا مال ، وعز بلا عشيرة ، وأنس بما يستوحش منه غيره .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
هذه مقالة أحببت أن أبين فيها أهمية التدبر لكتاب الله تعالى الذي غفل عنه كثير من المسلمين حتى أهل الاستقامة منهم ، وقد أنزل الله هذا القرآن ليكون كتاب هداية ومنهاج حياة فمن تدبره بالمفهوم الصحيح لمعنى التدبر كان له نورا وهدى ورحمة ، ومن لم يتدبره كان كما وصف الله المنافقين (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ))، أسأل الله تعالى أن ينقعني وإخواني بما كتبناه وسطرناه آمين .
معنى التدبر :
عرَّف بعض اهل العلم التدبر بأنه فقه الآية الخفي مع العمل به ، فأن لم يصحب هذا الفقه عمل ، فإنَّ ذلك لا يُسمَّى تدبرا ، والله يقول : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ))
غاية التدبر :
هي تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى وذلك بالتعرف عليه وعلى عظيم سلطانه وفضله ، ومن ثَم امتثال أمره ونهيه.. قال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) محمد/19 .
حكم تدبر القرآن
أوجب الله تعالى التدبر والتفكر وإمعان النظر ، لفهم معاني آيات الكتاب العزيز، فقال تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص/29 وعاب على المنافقين إعراضهم عن تدبر القرآن والتفكر فيه وفي معانيه ، فقال تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد/24
التدبر أصل صلاح القلب
قال ابن القيم رحمه الله : (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى الى حصول الايمان وذوق حلاوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد احدهم الاية الى الصباح وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك انت العزيز الحكيم )
وقال أيضا (فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر ، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها)
ذم تارك التدبر
قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد/24
قال الشنقيطي رحمه الله : (ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها وإدراك معانيها والعمل بها فإنه معرض عنها غير متدبر لها ، فيستحق التوبيخ والإنكار ، إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر) .
كلام السلف في أهمية تدبر القرآن :
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: فليس أنفع للعبد في معاشه ومعاده, وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن, وإطالة التأمل, وجَمْعُ فيه الفكر على معاني آياته, فإنها تُطْلعُ العبد على معالم الخير والشر.. وتُثبِّتُ قواعد الإيمان في قلبه, وتُشِيدُ بنيانه, وتوطد أركانه.. وتعطيه قوةً في قلبه, وحياةً وسعةً, وانشراحاً, وبهجةً وسروراً, فيصيرُ في شأنٍ, والناس في شانٍ آخر.. فلا تزال معانيه تنهض بالعبد إلى ربه, وتُثِّبتُ قلبه عن الزيغ والميل عن الحق, وتناديه كلَّما فترت عزماته, ودنى في سيره: تقدم الركب, وفاتك الدليل.. وفي تأمل القرآن وتدبره أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار, ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار, ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم, ومصيدة المعارف والفهوم, وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره.
وقال الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى: وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكر في معانيه وأوامره ونواهيه, ووعده ووعيده, والوقوف عند حدوده..
وقال الإمام الزركشي رحمه الله تعالى : من لم يكن له علمٌ وفهمٌ وتقوى وتدبر, لم يُدْرك من لذة القرآن شيئاً.
وقال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذُّ بقراءته!.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق .
لا تجعل همك التلاوة دون فهم وتدبر
قال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة:78]
قال الـشـوكـانـي رحمه الله : وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر. وقـال ابـن القـيـم رحمه الله : ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني .
لا يكن همّك في القراءة آخر السورة أو آخر القرآن :
قال الحسن البصري رحمه الله (يا ابن آدم ، كيف يَرِقُ قلبك وإنما همتك آخر السورة)
وقال الآجريّ رحمه الله واصفا حال من أراد التدبر (وكان همَّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه ؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة ؟ .. وإنما مراده: متى أعقل من الله الخطاب ؟ متى أزدجر ؟ متى أعتبر ؟ لأن قراءة القرآن عبادة والعبادة لا تكون بغفلة)
علامات التدبر:
إن لكل شيء علامة تدل على حقيقته ، وإنَّ من علامات التدبر لكتاب الله ما ذكره الله تعالى في بعض الآيات تدل على صدق تدبر قارئ القرآن ومن هذه الآيات ما يلي :
قوله تعالى : (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (المائدة:83)
وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال:2 )
وقوله تعالى : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (التوبة:124)
وقوله تعالى : (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء:107-109) ،
وقوله تعالى : ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم:58)
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)
وقوله تعالى : (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (القصص:53 )
وقوله تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23) .
فتحصل من الآيات السابقة سبع علامات هي:
* اجتماع القلب والفكر حين القراءة .
* البكاء من خشية الله.
* زيادة الخشوع.
* زيادة الإيمان .
* الفرح والاستبشار.
* القشعريرة خوفا من الله تعالى ثم غلبة الرجاء والسكينة .
* السجود تعظيما لله عز وجل .هـ
الوسائل المعينة على تدبر القرآن
قال الحسن البصري : ما أنزل الله من آية إلا وهو يُحِبُّ أن يَعلم فيما أنُزِلت، وماذا عُني بها.
اعلم أخي أنّ لتدبر قرآن وسائل وأمور تعين على ذلك ومن هذه الوسائل :
- تفريغ القلب من الانشغال بغير الله، والتفكر في غير كتابه، فاقرأ القرآن وقلبك فارغ من كل شيء إلا من الله، ومحبته، والرغبة في فهم كلامه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} ق 5/37.
2- الترتيل عند قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، وتحزينه، فإنه معين على التدبر والتأمل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف مرة يستمع لقراءة أبي موسى، وقال إنك قد أعطيت مزمارًا من مزامير آل دواد.
3- استشعار عظمة الله، وأنه يكلمك بهذا القرآن، حتى كأنك تسمعه منه الآن.
4- محاولة فهم معاني القرآن، بالرجوع إلى التفاسير التي تهتم ببيان المعنى، دون دخول في دقائق اللغة والإعراب، أو المسائل الفقهية، ومن أحسن هذه التفاسير تفسير ابن كثير، وتفسير ابن سعدي .
5- ربط القرآن بواقعك الذي تعيش فيه، وذلك بالنظر في المواعظ التي يذكرها، والقصص التي يحكيها، وكيف أن الله أهلك أممًا كثيرة لما كذبوا وأعرضوا، وأن هذا المصير ينتظر كل من أعرض عن الله، وكفر برسله، مهما كانوا في قوة وعزة.
6ـ البعد عن الذنوب والمعاصي، لأن لها ظلمة في القلب تحجبه عن الاستنارة بنور الذكر.
7ـ تحري الأوقات التي يكون القلب فيها أبعد ما يكون عن الشواغل وأقرب ما يكون إلى الخشوع كالوقت الذي بعد صلاة الفجر وجوف الليل ونحو ذلك .
8ـ قراءة الليل : مما يعين على تدبر القرآن والتأمل في آياته ومواعظه وعبره صلاة الليل والقراءة فيه، وفي ذلك يقول المولى عز وجل {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} المزمل/6
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما ( إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار) .
9ـ ترديد الآية المؤثرة في القلب : مما يعين على تدبر القرآن والتفكر في معانيه ترديد الآية المؤثرة في القلب، وهذا الترديد من أبرز صور الوقوف على المعاني، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة..
عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : (( قَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا ، وَالآيَةُ { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقال ابن القيم رحمه الله (وهذه كانت عادة السلف ، يردد أحدهم الآية إلى الصباح)
ثمرات التدبر :
ذكر ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ}يونس/ 57. ما يبين أن من فهم القرآن وتدبره وعمل بمقتضاه حصل له الشفاء البدني والقلبي .
قال رحمه الله : فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً.
وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماءِ الذي لو نزل على الجبال، لصَدَعَهَا، أو على الأرض، لقطعها، فما مِن مرضٍ من أمراض القُلُوبِ والأبدان إلا وفى القُرآن سبيلُ الدلالة على دوائه وسببه، والحِمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.
وزاد الأجري في كتاب أخلاق حملة القرآن فقال : ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم ؛ كيف يحث خلقه على أن يتدبروا كلامه ، ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل ، وعرف عظيم سلطانه وقدرته ، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين ، وعرف ما عليه من فرض عبادته ، فألزم نفسه الواجب ، فحذر مما حذره مولاه الكريم ، ورغب فيما رغبه فيه ، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن ، وعند استماعه من غيره ، كان القرآن له شفاء ، فاستغنى بلا مال ، وعز بلا عشيرة ، وأنس بما يستوحش منه غيره .