بيسان بيبا
:: عضوية محظورة ::
بيسان بيبا، تم حظره "حظر دائم". السبب: بطلب من صاحبه. استعمال عضوية أخرى جديدة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله، سنعيش وإياكم اليوم مع الخوف والخائفين من الله تعالى.
الخوف من الله من المقامات العليَّة، وهو من لوازم الإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ [البقرة: 150] ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، وقال صلى الله عليه وسلم: « أنا أعلمُكُم باللَّهِ وأخشاكم له ».
وكلما كان العبد أقرب إلى ربه، كان أشد له خشية ممن دونه، وقد وصف الله الملائكة بقوله: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 50]، والأنبياء بقوله: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].
الخوف من الله هو سمة المؤمنين، وآية المتقين، الخوف من الله طريقٌ للأمن في الآخرة، وسببٌ للسعادة في الدارين، الخوف من الله دليل على كمال الإيمان، وحُسْن الإسلام وصفاء القلب وطهارة النفس، إذا سكن الخوف من الله في القلب أحرق مواضع الشهوات فيه وطرد بهرج الدنيا عنه.
الخوف من الله أصل كل خير في الدنيا والآخرة، وكل قلب ليس فيه خوف من الله، فهو قلبٌ خرب.
سنقف مع الخوف والخائفين لماذا؟ لأنَّ البيوت اتْخِمَت بالمعاصي وامتلأت العقول بالشبهات والنفوس بالشهوات.
تُسمع المعصية وقلَّ مَن ينكرها ويُؤكل الحرام وكأنه حلال، يجالس صاحب المعصية ويؤاكل ويشارب مرتكب الكبيرة دون إنكار.
نتكلم عن الخوف يوم أجدبت قلوب بعضنا منه واسودَّت، وأظلمت وقست وتحجَّرت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة لم تَعد تهزها الموعظة أو تنفعها الذكرى إلا من رحم ربك، فالخوف من الله هو الوسيلة الأكيدة لاتِّعاظ الراقدين وتنبيه الغافلين، استخدمها الرسل أجمعون والدعاة الصادقون، ففتح الله على أيديهم قلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا وآذانًا صُمًّا.
الخوف من الله هو الذي منع ابن آدم أن يقتل أخاه؛ قال تعالى: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28].
والله جل وعلا أمرنا بخوفه ومدح الخائفين في كتابه، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: «في هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله»؛ روى الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو يخاف الله تعالى؟ قال: «لا يا بنة الصديق، ولكنه الذي يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يتقبل الله منه».
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله»؛ [رواه أحمد والترمذي].
فأين القلوب الممتلئة بخوف الله وخشيته؟ أين القلوب التي ذلَّت لعزت الجبروت وخشعت لصاحب الملكوت؟
عباد الله، إن الله يريد لعباده أن يعرفوه ويخشوه ويخافوه، ولذلك نجد في القران الكريم كثيرًا من الآيات التي تصف لنا شدة عذاب الله، وقوة بطشه وسرعة أخذه، وأليم عقابه، وما أعد من العذاب والنكال للكفار، وذكر لنا النار وأحوالها وما فيها من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، وهذه المواعظ لا يتعظ بها إلا الخائفون من ربهم والمشفقون من عقابه؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 51].
وقال: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16].
وبيَّن سبحانه أن ما يرسله من الآيات لتصديق الأنبياء كناقة صالح إنما يرسله من أجل التخويف: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
كذلك الآيات الكونية كالخسوف والكسوف وغيرها.
قال الله تعالى في البرق والرعد: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [الرعد: 12].
عباد الله، الخوف من الله شجرة طيبة إذا نبت أصلها في القلب، امتدت فروعها إلى الجوارح، فآتت أكلها بإذن ربها، وأثمرت عملًا صالحًا وقولًا حسنًا وسلوكًا قويمًا وفعلًا كريمًا، فتخشع الجوارح وينكسر الفؤاد، ويرق القلب وتزكو النفس وتجود العين.
إن للخوف من الله ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فالخوف من الله أولًا من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة؛ لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13، 14]، إذاً الخوف من الله يؤدي إلى التمكين في الأرض والانتصار على الأعداء.
والخوف من الله ثانيًا: يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه، وعدم طلب المقابل في الدنيا، فلا ينقص الأجر في الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10].
وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36 - 37 ].
أي تضطرب وتتقلَّب، وهذا هو الذي دفعهم للعمل، يريدون النجاة ويحذرون الهلاك ويخافون أن يستلموا كُتُبهم بشمائلهم.
وأما في الآخرة، فأولًا: الخوف من الله يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة:
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة: «ورجلٌ طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه»، الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
ثانيًا: الخوف من الله من أسباب المغفرة:
جاء في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَّ رَجُلًا كانَ قَبْلَكُمْ، رَغَسَهُ اللَّهُ مالًا، فقالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أيَّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قالوا: خَيْرَ أبٍ، قالَ: فإنِّي لَمْ أعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فإذا مُتُّ فأحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي في يَومٍ عاصِفٍ، فَفَعَلُوا، فَجَمعهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فقالَ: ما حَمَلَكَ؟ قالَ: مَخافَتُكَ، فَتَلَقَّاهُ برَحْمَتِهِ»، فعذره الله بجهله، وشفع له خوفه من ربه.
ثالثًا: الخوف من الله طريقًا إلى الجنة:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»؛ [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
أي: الذي يخاف من إغارة العدو وقت السحر يسير من أول الليل، «أدلج» فبلغ المنزل والمأمن والمطلب، وهذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة، فإن الشيطان على طريقه والنفس الأمارة بالسوء والأماني الكاذبة، وأعوان إبليس، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله، أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق عليه، ومن فعل ذلك دخل الجنة، وهي سلعة الله الغالية التي من دخلها كان من الآمنين.
رابعًا: الخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي، وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة»؛ [رواه ابن حبان في صحيحه].
خامسًا: الخوف سبب للنجاة من كل سوء:
قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ منجيات: منها خشية الله تعالى في السر والعلانية»؛ [صحيح الترغيب عن أنس].
فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الأول والأخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعدُ:
فيا أيها المسلمون، اسمعوا إلى أحوال الخائفين:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبــــه بالكـرام فــلاح
سيد الخائفين من الله هو محمد صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وعلى ذلك مشى كبار الصحابة في خوفهم من الله تعالى، وكذلك من جاء بعدهم من السلف الصالح، فهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله؛ قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أُصيب بمصيبة، ولقد قالت له أمُّه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكي عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بني أصبت نفسًا، أو قتلت قتيلًا؟ فقال: يا أمه، أنا أعلم بما صنعت نفسي.
أيها الإخوة، هل من مُشمر؟ هل من خائف؟ هل من سائر إلى الله؟ بعد هذا الذي سمعناه أرجو أن نكون مثل سلفنا علمًا وعملًا خوفًا ورجاءً ومحبةً، فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله.
عباد الله، أخبر الحق سبحانه عن حال الخائفين وقد أصبحوا في الجنة وهم يذكرون حالهم في الدنيا: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 25 - 27].
الخائفون هم أهل القلوب الوجلة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
الخائفون هم أهل الخشية؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ ﴾ [الزمر: 23].
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها»؛ [رواه الطبراني].
الخائفون هم أهل البكاء: قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: ما النجاة يا رسول الله؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك».
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن من بكى من خشية الله، فإن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فقال: «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»، بل حرم الله النار على من بكى من خشيته؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع»؛ رواه الترمذي، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله»؛ [كلا الحديثين صحيح].
فيا من تخاف الله تعالى، تذكَّر قبل أن تعصي الله أن الله سبحانه يراك ويعلم ما تخفي وما تعلن، فانه «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».
تذكر قبل أن تعصي الله أن الملائكة تحصي عليك جميع أقوالك وأعمالك وتكتبها في صحيفتك، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
تذكر قبل أن تعصي الله لحظة الموت وخروج روحك، وهي تُجذب جذبًا شديدًا حينها تتمنى أن تتوب إلى الله وتصلي وتقرأ القرآن: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 26 - 30].
تذكر قبل أن تعصي القبر وعذابه وظُلمته، فهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فهناك لا أبٌ شفيق ولا أمٌّ ترحم.
تذكر قبل أن تعصي الله يوم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة، تذكر قبل أن تعصي الله يوم تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله.
تذكر قبل أن تعصي الله يوم تدنو الشمس من الرؤوس قدر ميل، ويعرق الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، والعياذ بالله.
تذكر قبل أن تعصي الله وقوفك بين يدي الله تعالى وليس بينك وبينه حجاب أو ترجمان، فيُذكِّرك بكل ذنب عملته.
تذكر قبل أن تعصي الله أن الذنوب تؤدي إلى قلة التوفيق وحرمان العلم والرزق، وضيق الصدر وقصر العمر، وموت الفجأة، وذهاب الحياء والغيرة، وأعظم عقوباتها أنها تورث القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر.
أسأل الله جل وعلا أن يقوي إيماننا، وأن يرفع درجاتنا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرًا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله، سنعيش وإياكم اليوم مع الخوف والخائفين من الله تعالى.
الخوف من الله من المقامات العليَّة، وهو من لوازم الإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ [البقرة: 150] ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، وقال صلى الله عليه وسلم: « أنا أعلمُكُم باللَّهِ وأخشاكم له ».
وكلما كان العبد أقرب إلى ربه، كان أشد له خشية ممن دونه، وقد وصف الله الملائكة بقوله: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 50]، والأنبياء بقوله: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].
الخوف من الله هو سمة المؤمنين، وآية المتقين، الخوف من الله طريقٌ للأمن في الآخرة، وسببٌ للسعادة في الدارين، الخوف من الله دليل على كمال الإيمان، وحُسْن الإسلام وصفاء القلب وطهارة النفس، إذا سكن الخوف من الله في القلب أحرق مواضع الشهوات فيه وطرد بهرج الدنيا عنه.
الخوف من الله أصل كل خير في الدنيا والآخرة، وكل قلب ليس فيه خوف من الله، فهو قلبٌ خرب.
سنقف مع الخوف والخائفين لماذا؟ لأنَّ البيوت اتْخِمَت بالمعاصي وامتلأت العقول بالشبهات والنفوس بالشهوات.
تُسمع المعصية وقلَّ مَن ينكرها ويُؤكل الحرام وكأنه حلال، يجالس صاحب المعصية ويؤاكل ويشارب مرتكب الكبيرة دون إنكار.
نتكلم عن الخوف يوم أجدبت قلوب بعضنا منه واسودَّت، وأظلمت وقست وتحجَّرت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة لم تَعد تهزها الموعظة أو تنفعها الذكرى إلا من رحم ربك، فالخوف من الله هو الوسيلة الأكيدة لاتِّعاظ الراقدين وتنبيه الغافلين، استخدمها الرسل أجمعون والدعاة الصادقون، ففتح الله على أيديهم قلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا وآذانًا صُمًّا.
الخوف من الله هو الذي منع ابن آدم أن يقتل أخاه؛ قال تعالى: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28].
والله جل وعلا أمرنا بخوفه ومدح الخائفين في كتابه، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: «في هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله»؛ روى الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو يخاف الله تعالى؟ قال: «لا يا بنة الصديق، ولكنه الذي يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يتقبل الله منه».
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله»؛ [رواه أحمد والترمذي].
فأين القلوب الممتلئة بخوف الله وخشيته؟ أين القلوب التي ذلَّت لعزت الجبروت وخشعت لصاحب الملكوت؟
عباد الله، إن الله يريد لعباده أن يعرفوه ويخشوه ويخافوه، ولذلك نجد في القران الكريم كثيرًا من الآيات التي تصف لنا شدة عذاب الله، وقوة بطشه وسرعة أخذه، وأليم عقابه، وما أعد من العذاب والنكال للكفار، وذكر لنا النار وأحوالها وما فيها من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، وهذه المواعظ لا يتعظ بها إلا الخائفون من ربهم والمشفقون من عقابه؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 51].
وقال: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16].
وبيَّن سبحانه أن ما يرسله من الآيات لتصديق الأنبياء كناقة صالح إنما يرسله من أجل التخويف: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
كذلك الآيات الكونية كالخسوف والكسوف وغيرها.
قال الله تعالى في البرق والرعد: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [الرعد: 12].
عباد الله، الخوف من الله شجرة طيبة إذا نبت أصلها في القلب، امتدت فروعها إلى الجوارح، فآتت أكلها بإذن ربها، وأثمرت عملًا صالحًا وقولًا حسنًا وسلوكًا قويمًا وفعلًا كريمًا، فتخشع الجوارح وينكسر الفؤاد، ويرق القلب وتزكو النفس وتجود العين.
إن للخوف من الله ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فالخوف من الله أولًا من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة؛ لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13، 14]، إذاً الخوف من الله يؤدي إلى التمكين في الأرض والانتصار على الأعداء.
والخوف من الله ثانيًا: يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه، وعدم طلب المقابل في الدنيا، فلا ينقص الأجر في الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10].
وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36 - 37 ].
أي تضطرب وتتقلَّب، وهذا هو الذي دفعهم للعمل، يريدون النجاة ويحذرون الهلاك ويخافون أن يستلموا كُتُبهم بشمائلهم.
وأما في الآخرة، فأولًا: الخوف من الله يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة:
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة: «ورجلٌ طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه»، الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
ثانيًا: الخوف من الله من أسباب المغفرة:
جاء في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَّ رَجُلًا كانَ قَبْلَكُمْ، رَغَسَهُ اللَّهُ مالًا، فقالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أيَّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قالوا: خَيْرَ أبٍ، قالَ: فإنِّي لَمْ أعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فإذا مُتُّ فأحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي في يَومٍ عاصِفٍ، فَفَعَلُوا، فَجَمعهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فقالَ: ما حَمَلَكَ؟ قالَ: مَخافَتُكَ، فَتَلَقَّاهُ برَحْمَتِهِ»، فعذره الله بجهله، وشفع له خوفه من ربه.
ثالثًا: الخوف من الله طريقًا إلى الجنة:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»؛ [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
أي: الذي يخاف من إغارة العدو وقت السحر يسير من أول الليل، «أدلج» فبلغ المنزل والمأمن والمطلب، وهذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة، فإن الشيطان على طريقه والنفس الأمارة بالسوء والأماني الكاذبة، وأعوان إبليس، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله، أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق عليه، ومن فعل ذلك دخل الجنة، وهي سلعة الله الغالية التي من دخلها كان من الآمنين.
رابعًا: الخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي، وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة»؛ [رواه ابن حبان في صحيحه].
خامسًا: الخوف سبب للنجاة من كل سوء:
قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ منجيات: منها خشية الله تعالى في السر والعلانية»؛ [صحيح الترغيب عن أنس].
فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الأول والأخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعدُ:
فيا أيها المسلمون، اسمعوا إلى أحوال الخائفين:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبــــه بالكـرام فــلاح
سيد الخائفين من الله هو محمد صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وعلى ذلك مشى كبار الصحابة في خوفهم من الله تعالى، وكذلك من جاء بعدهم من السلف الصالح، فهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله؛ قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أُصيب بمصيبة، ولقد قالت له أمُّه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكي عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بني أصبت نفسًا، أو قتلت قتيلًا؟ فقال: يا أمه، أنا أعلم بما صنعت نفسي.
أيها الإخوة، هل من مُشمر؟ هل من خائف؟ هل من سائر إلى الله؟ بعد هذا الذي سمعناه أرجو أن نكون مثل سلفنا علمًا وعملًا خوفًا ورجاءً ومحبةً، فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله.
عباد الله، أخبر الحق سبحانه عن حال الخائفين وقد أصبحوا في الجنة وهم يذكرون حالهم في الدنيا: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 25 - 27].
الخائفون هم أهل القلوب الوجلة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
الخائفون هم أهل الخشية؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ ﴾ [الزمر: 23].
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها»؛ [رواه الطبراني].
الخائفون هم أهل البكاء: قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: ما النجاة يا رسول الله؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك».
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن من بكى من خشية الله، فإن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فقال: «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»، بل حرم الله النار على من بكى من خشيته؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع»؛ رواه الترمذي، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله»؛ [كلا الحديثين صحيح].
فيا من تخاف الله تعالى، تذكَّر قبل أن تعصي الله أن الله سبحانه يراك ويعلم ما تخفي وما تعلن، فانه «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».
تذكر قبل أن تعصي الله أن الملائكة تحصي عليك جميع أقوالك وأعمالك وتكتبها في صحيفتك، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
تذكر قبل أن تعصي الله لحظة الموت وخروج روحك، وهي تُجذب جذبًا شديدًا حينها تتمنى أن تتوب إلى الله وتصلي وتقرأ القرآن: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 26 - 30].
تذكر قبل أن تعصي القبر وعذابه وظُلمته، فهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فهناك لا أبٌ شفيق ولا أمٌّ ترحم.
تذكر قبل أن تعصي الله يوم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة، تذكر قبل أن تعصي الله يوم تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله.
تذكر قبل أن تعصي الله يوم تدنو الشمس من الرؤوس قدر ميل، ويعرق الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، والعياذ بالله.
تذكر قبل أن تعصي الله وقوفك بين يدي الله تعالى وليس بينك وبينه حجاب أو ترجمان، فيُذكِّرك بكل ذنب عملته.
تذكر قبل أن تعصي الله أن الذنوب تؤدي إلى قلة التوفيق وحرمان العلم والرزق، وضيق الصدر وقصر العمر، وموت الفجأة، وذهاب الحياء والغيرة، وأعظم عقوباتها أنها تورث القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر.
أسأل الله جل وعلا أن يقوي إيماننا، وأن يرفع درجاتنا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرًا.