بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
#مَنْهَجْ_يَوْمِي_لِطَالِب_الْعِلْم
#شرح رسالة الشيخ ابن العثيمين رحمه الله لطالب علم، في خطبة للشيخ عبد.الرزاق حفظه الله.
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم إنا نسألك علمًا نافعا وعملًا صالحًا ورزقا طيبا وتوفيقًا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
أمَّا بعد معاشر الكرام ويا معاشر طلاب العلم :
هنيئًا لكم هذه العودة وهذا المجيء إلى هذا البلد المبارك بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الالتحاق الطيب النافع بالجامعة الاسلامية ، وأسأل الله عز وجل أن يمدَّكم بتوفيقه وعونه ، وأن يرزقكم أجمعين العلم النافع والعمل الصالح بمنِّه وكرمه .
وعادةً ولاسيما في بداية العام وخاصة أيضًا المستجدِّين في الطلب كثيرًا ما يسألون عن المنهج والمنهجية في طلب العلم وفي العبادة وفي حياة طالب العلم عموما ؛ وهو سؤالٌ كبير ومهم للغاية ، وقد وقفتُ على كتابةٍ قيمة وتحريرٍ نافع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ؛ سأله سائل أن يكتب له منهجًا يسير عليه في حياته ، فكتب كتابة نافعة جدًا نقف جميعًا على ما كتبه رحمه الله تعالى وأعلِّق على كلامه رحمه الله بما تيسر واسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بهذه المنهجية التي حررها وكتبها نصحا رحمه الله تعالى .
قال ابن عثيمين رحمه الله للسائل :
"سألتني بارك الله فيك أن أضع لك منهجا تسير عليه في حياتك ، وإني لأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما فيه الهدى والرشاد والصواب والسداد ، وأن يجعلنا هداةً مهتدين صالحين مصلحين ،فأقول :
أولاً : مع الله عز وجل ؛"
قسَّم رحمه الله تعالى هذه المنهجية التي يسير عليها المسلم وطالب العلم إلى أقسام ؛ القسم الأول مع الله ، قال : أولًا مع الله عز وجل .
" 1- احرص على أن تكون دائمًا مع الله عز وجل مستحضراً عظمته متفكراً في آياته الكونية ؛ كخلق السموات والأرض وما أودع فيهما من بالغ حكمته وباهر قدرته وعظيم رحمته ومنَّته ، وآياته الشرعية التي بعث بها رسله ولاسيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ."
في هذه النقطة الأولى دعى طالب العلم أن يُعنى بهذا الجانب وهو جانب يُغفل عنه التفكر في ملكوت الله ، وانظر هدي النبي عليه الصلاة والسلام عندما يستيقظ من آخر الليل وفي جوفه فيبدأ بقراءة الآيات من خواتيم سورة آل عمران { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } .
هذا دعوة للتفكر كل ليلة ، وهذا التفكر يشغل القلب بعظائم الأمور ونافعها عن الوساوس التي تمتلئ بها القلوب في الغالب ،لكن إذا شغل الإنسان قلبه بالتفكر في هذه المخلوقات الدالة على عظمة من خلقها وكمال من أبدعها وقدرة من أوجدها فهي دالة على الخالق «وفي كل شيء له آية» فهي دلائل وبراهين على كمال الخالق وعظمته ، ولهذا من الأمور التي ينبغي أن يُعنى بها طالب العلم والمسلم عموما أن يحرص دائما على ذلك .
الأمر الثاني قال رحمه الله :" أن يكون قلبُك مملوءاً بمحبة الله تعالى ؛ لما يغذوك به من النعم ويدفع عنك من النقم ، ولاسيما نعمة الإسلام والاستقامة عليه حتى يكون أحب شيء إليك سبحانه وتعالى . "
فهذا أمر عظيم ينبغي على طالب العلم والمسلم عموما أن يعنى به ؛ أن يعمر قلبه بمحبة الله . وثمة أمور تعينك على عمارة قلبك بهذه المحبة لله سبحانه وتعالى أشار رحمه الله إلى شيء منها قال : "لما يغذوك به من النعم" انظر نعم الله عليك المتوالية وآلائه المتتالية وعطاياه المتنوعة في صحتك وفي عافيتك وفي مالك وفي مسكنك وملبسك وطعامك وشرابك وولدك وغير ذلك ، فالتفكر في هذه النعم وهذه المنن التي تفضَّل الله سبحانه وتعالى عليك بها ، أيضا دفع النقم والشرور والآفات تُقبِل بقلبك على الله محبةً وعمارةً للقلب بمحبته سبحانه وتعالى ، وأعظم النعم التي عندما تتفكر في منة الله عليك بها يزداد قلبك حبًا لله نعمة الإسلام { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الحجرات:7-8] .
الأمر الثالث قال رحمه الله :" أن يكون قلبُك مملوءاً بتعظيم الله عز وجل حتى يكون في نفسك أعظم شيء . وباجتماع محبته وتعظيمه في قلبك تستقيم على طاعته قائمًا بما أمر به لمحبته ، تاركاً لما نهى عنه لتعظيمك له . "
فتحرص على عمارة قلبك بالمحبة لله والتعظيم له جل في علاه ، والتعظيم يعينك عليه النظر في الآيات الدالة على عظمة الله وكمال قدرته وكمال قوته وعظيم بطشه وانتقامه وشديد عقابه ؛ فهذه الأمور إذا تأملها العبد وتأمل الأمور التي أيضا تعمُر القلب بالمحبة يصبح عنده توازن بين الرجاء والخوف ، الرغبة والرهبة { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}[الحجر:49-50] تجمع بين الأمرين:
- محبةً لله تعمر بها قلبك تسوقك إلى طاعته وفعل مرضاته .
- وتعظيمًا له وعلمًا بعظمته سبحانه وتعالى يزجرك عن الوقوع في معاصيه وما نهى تبارك وتعالى عباده عنه .
الأمر الرابع : أن تكون مخلصا له جل وعلا في عبادتك متوكلاً عليه في جميع أحوالك ؛ لتحقق بذلك مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وتستحضر بقلبك أنك إنما تقوم بما أمر امتثالًا لأمره ، وتترك ما نهى عنه امتثالًا لنهيه ؛ فإنك بذلك تجد للعبادة طعمًا لا تدركه مع الغفلة ، وتجد في الأمور عونًا منه لا يحصل لك مع الاعتماد على نفسك .
فأنت بحاجة إلى إخلاص وتوكل { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود:123] ، ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)) . وقوله في الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هذا تحقيق لـ«لا إله إلا الله» ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : أي نعبدك ولا نعبد غيرك مخلصين لك الدين ، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحقيق لـ«لا حول ولا قوة إلا بالله» ، فإن «لا حول ولا قوة إلا بالله» كلمة استعانة ، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : أي نستعين بك ولا نستعين بغيرك . وبهذين الأمرين إخلاص العبادة لله وإخلاص الاستعانة به جل في علاه يستقيم للمرء علمه وعمله ، وتستقيم حياته على طاعة الله جل في علاه .
قال رحمه الله تعالى :
ثانياً : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر أمورا قال :
الأول : أن تقدِّم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة كل مخلوق وهديه وسنته على كل هدي وسنة.
وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) ، وهذا أيضًا لا يكفي بل إضافة إلى ذلك تقدم محبته على محبتك لنفسك كما في حديث عمر في صحيح البخاري قال : «لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي» ، قَالَ: ((لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)) ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: «فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي»، قَالَ : ((الآنَ يَا عُمَرُ)) . وهذه المحبة ليست مجرد دعوى يدَّعيها المرء ؛ لأنه من السهل على كل لسان ومن اليسير على كل إنسان أن يقول "إني أحب الرسول محبة عظيمة مقدمة على محبتي لنفسي ووالدي وولدي والناس أجمعين" ، لكن الدعاوى لا تكفي ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }[آل عمران:31] ، ولهذا قرن الشيخ رحمه الله مع المحبة لزوم الهدي قال : «أن تقدم محبته على محبة كل مخلوق وهديه وسنة على كل هدي وسنة» ، وإذا قدَّمت هديه وسنته على كل هدي وسنة كان ذلك أمارة على صدق المحبة وكمالها .
قال رحمه الله :
ثانيا : أن تتخذه إمامًا لك في عباداتك وأخلاقك ؛ بحيث تستحضر عند فعل العبادة أنك متَّبع له وكأنه أمامك تترسَّم خطاه وتنهج نهجه . وكذلك في مخالقة الناس أنك متخلِّق بأخلاقه ، قال الله له عنها {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] . ومتى التزمت بهذا فستكون حريصاً غاية الحرص على العلم بشريعته وأخلاقه.
وهذا الذي أشار عليه قد دل عليه قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] ؛ فيجب على كل مسلم أن يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم إمامًا ؛ إمامًا في العبادة وإمامًا في الأخلاق ، فإن الله عز وجل أتم له مقام العبادة فلا أكمل منه عبادةً لله ، وأتم له مقام الأخلاق فلا أكمل منه خلقا صلوات الله وسلامه عليه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] ، فإذا اتخذه إمامًا فإن ذلك يعني أن يكون مترسما لخطى من اتمَّ به سائرًا على منهاجه مقتديًا به مقدما لقوله على كل قول وهديه على كل هدي وسنته على كل سنة .
الأمر الثالث فيما يتعلق بما يكون مع الرسول عليه الصلاة والسلام : أن تكون داعياً لسنته ، ناصراً لها ، مدافعاً عنها ؛ فإن الله تعالى سينصُرك بقدر نصرك لشريعته .
فإذا وفقك الله للائتمام به والاهتداء بهديه والسير على منهاجه وترسُّم خطاه صلوات الله وسلامه عليه فأوصِل هذا الخير للغير وكن داعيا لسنة النبي عليه الصلاة والسلام معلِّما هذا الخير للآخرين وكن ناصرا للسنة . ودين الله سبحانه وتعالى منصور بك وبدونك لكن من الخير لك أن تجعل حياتك نصرة لدين الله ، وإلا الدين منصور بعز عزيز وذل ذليل لكن من الخير لك أن تجعل من حياتك دعوةً لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ونصرةً لدينه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
ثم قال رحمه الله :
ثالثاً : عملك اليومي غير المفروضات .
غير الفرائض التي افترضها الله عليك ماذا تعمل ؟ الشيخ وضع منهج محرر جميل جدًا ينبغي حقيقة أن نتأمله وأن نعنى بتطبيقه . قال رحمة الله عليه :
أولا : إذا قمت من الليل فاذكر الله تعالى وادع بما شئت فإن الدعاء في هذا الموطن حري بالإجابة ، واقرأ قول الله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } حتى تختم سورة آل عمران.
قيام الليل عند كثير من الناس في هذا الزمان ذهب في خبر كان كما يُعبَّر ، مع السهر الحاصل الآن كثير من الناس إن نشط حافظ على صلاة الفجر ! أما صلاة الليل وقيام الليل والعناية بالثلث الأخير من الليل فكثير من الناس لا حظ لهم منه بسبب السهر ، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السهر لأن فيه مضرة على الإنسان في منهجيته ، في عبادته ، في ترتيب أعماله ، فيه مخالفة لسنَّة الله الكونية {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73] ؛ { لِتَسْكُنُوا فِيهِ}أي الليل ، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي النهار ، فالليل فيه السكون فيه الراحة يأخذ الجسم حظه من النوم والراحة من أول الليل ثم يحظى بهذه المكرمة العظيمة يقوم في ثلث الليل الآخر في الوقت المبارك ، قال عليه الصلاة والسلام : ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)) الدعاء مستجاب ، استغفر يُغفر لك ، سل تُعطى ، ادعو يستجاب لك دعاؤك ، لكن هذه اللحظات الكريمة ذهبت عند كثير من الناس ؛ ولهذا طالب العلم ينبغي أن يجعل له حظًا من الثلث الأخير من الليل ، وبدأ به الشيخ في الأمور غير المفروضة لأنه أساس يبني عليه ما بعده ، أنت إذا وفقك الله سبحانه وتعالى وجعلت لك حظ من آخر الليل بإذن الله عز وجل يومك يكون مرتب وحياتك تكون مرتبة ومنتظمة ويبارَك لك في وقتك .
ثانيا يقول : صلِّ ما كتب لك في آخر الليل واختم صلاتك بالوتر.
كما قال عليه الصلاة والسلام ((اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا)) .
ثالثًا : حافظ على ما تيسر لك من أذكار الصباح والمساء ، قل مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
والشيخ رحمه الله نصَّ على هذه المئة مع أن الأذكار الواردة كثيرة لعظم شأن التهليل في اليوم مئة مرة وعظم ما يترتب على ذلك من آثار عظيمة مباركة في حياة المسلم وفي أخراه .
رابعًا : صل ركعتي الضحى .
هذه وصية النبي عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة ولأبي ذر قال : «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ -وذكر منها - وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى» .
خامسًا يقول : حافظ على أذكار المساء ما تيسر لك منها .
فتبدأ صباحك بالذكر وأيضا مساءك تختمه بذكر الله سبحانه وتعالى فتكونُ من أهل الذكر في الغدو والآصال . وهذه الأذكار -أذكار الصباح والمساء- من أعظم الأذكار التي ينبغي أن يُعنى بها المسلم وأن يواظب عليها مواظبة يومية مستمرة لأنها يترتب عليها آثار مباركة في يوم المرء وفي ليلته كما يعلم بمطالعة الفوائد المترتبة على هذه الأذكار بما ذكره النبي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
قال رابعاً -أي في المنهجية لطالب العلم - :
طريقة طلب العلم :
1- احرص على حفظ كتاب الله عز وجل ، واجعل لك كل يوم شيئًا معيَّنًا تحافظ على قراءته ، ولتكن قراءتك بتدبرٍ وتفهُّم ، وإذا عنّت - يعني ظهرت - لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
من المعاني والهدايات التي تدل عليها آيات القرآن الكريم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ؛ والله عز وجل يقول {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29] ، فيجعل لنفسه وردًا يوميا ، أفضل طريقة طريقة الصحابة وهي تحزيب القرآن إلى سبعة أحزاب بحيث يختم في كل أسبوع مرة ، إن ختم في كل شهر ، في كل أربعين يوم ، في كل عشرين يوم ، في كل عشرة أيام في كل أسبوع ، في كل ثلاثة أيام ، لا أقل من ذلك لكن يجعل ذلك شيئا ثابتًا يواظب عليه و((أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)) .
ثانيا : احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
نصَّ رحمه الله على هذا الكتاب المبارك عمدة الأحكام للإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى .
ثالثًا : احرص على التركيز والثبات ، بحيث لا تأخذ العلم نُتَفاً من هذا شيء ومن هذا شيء ؛ لأن هذا يضيِّع وقتك ويشتِّت ذهنك.
وهذا تنبيه مهم وكثيرا ما نغفل عنه ، والشيخ يرى أن طالب العلم ينبغي أن يؤسس نفسه علميا ، والتأسيس علميا يكون برعاية وعناية المتون التي وضعها أهل العلم لتصبح قاعدة لطالب العلم في العقيدة وفي الحديث والفقه ونحو ذلك ، فيعتني بهذه المتون بحيث تكون فصول ثابتة يؤسس عليها علمه ، لا أن يكون تحصيل العلم نُتف .
قال رحمه الله تعالى : ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيدا ، ثم انتقل إلى ما فوقها حتى تحصُل على العلم شيئا فشيئا على وجهٍ يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.
ولهذا غالب أهل العلم يرشدون من بدأ بطلب العلم إلى كتاب الأربعين للنووي ولا يزيدون عليه ، يقولون اعتني بهذا الكتاب ، بينما بعض الدعاة أو بعض طلاب العلم إذا جاء إنسان مبتدئ للتو دخل في الاستقامة وقال ماذا تنصحني ؟ أملاه قائمة بالكتب ؛ وهذا جيد ، وهذا مفيد، وهذا نافع ، وهذا يصلح في كذا ؛ فيرى العلم ثقيل جدًا ويجد صعوبة في الدخول في هذه كلها وفي الغالب يترك ، لكن إذا قيل له أبدًا خذ الأربعين يكفيك اعتني به احفظه وراجعه استمع إلى شروحاته ، أربعين حديث ما تـأخذ منك وقتا لو حفظت كل يوم حديثا لأكملتها في أربعين يوم أو في اثنين وأربعين يوم وستجد أثرها المبارك عليك . لأن الأربعين للنووي سبحان الله عجيبة للغاية وُفِّق رحمة الله عليه توفيقًا عظيما في انتقائها وجمعها ، كُتب في الأربعين كتب كثيرة قبله وبعده لكن لم يُكتب لكتاب ألِّف في الأربعين من القبول وعموم النفع والفائدة مثل ما كتب للأربعين للنووي رحمه الله ؛ لأنه انتقى فيه الجوامع من كلِم الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث إذا حفظه طالب العلم حفظًا متقنا واستمع إلى شروحاته من أكثر من عالم يصبح عنده قاعدة شرعية صلبة متينة يبني عليها عقيدته وعبادته وتعامله مع الناس .
خامسا : احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها ، وقيِّد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: «من حرم الأصول حرم الوصول» .
والقواعد التي يشير إليها الشيخ رحمه الله ويؤكد على العناية بضبطها هذه تضبط لطالب العلم علمه وتجمع له الأشباه والنظائر وتزيل عنه الاشكالات الواردة ، لأنه يرد الأمور إلى هذه القواعد والأصول الكلية الجامعة . والعلماء في فنون الشريعة حرروا قواعد ، يعني على سبيل المثال في باب الأسماء والصفات الشيخ نفسه رحمه الله كتب كتابا من أنفع ما يكون لطالب العلم «القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته الحسنى» ، وكتب العلماء قواعد في التفسير وقواعد في الفقه وقواعد في أمور كثيرة ، فهذه القواعد من شأنها أنها تضبط لطالب العلم علمه . والشيخ أكد على الكتابة والتقييد ؛ أذكر سمعت من الشيخ بن عثيمين رحمه الله فائدة يرويها عن نفسه طريفة جدًا يقول: كنا نقرأ على الشيخ بن سعدي رحمه الله في ساحة المسجد ، يعني في الهواء الطلق في الحوش الفناء الذي خلف المسجد ، كنا نقرأ عليه وكان الشيخ يشرح ، يقول فمرت طيور فرفعت بصري وأخذت أنظر إليها وأتابعها فانتبه لي الشيخ ابن سعدي وقالي لي : "يا محمد صيد العلم خير من صيد الطير" . وصيد العلم يقيد مثل الصيد -صيد الطير أو صيد الغزال- إذا ما قُيد وربط يفر يذهب ، وصيد العلم يقيد بالكتابة لأنك إن لم تقيده وتكتبه إن احتجته فيما بعد لا تجده ؛ ولهذا أكد رحمه الله على قضية الكتابة .
سادسا وأخيرا يقول : ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علماً وديناً من أقرانك .
ما كل الأقران يصلح لذلك وإنما يتميز بعض الأقران بعلمه وعنايته وضبطه .
ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علماً وديناً من أقرانك ولو بأن تقدِّر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها ؛ انظر هذه الفائدة جميلة ! يقول قدر في ذهنك أن أحدًا يناقشك في هذه المسألة وتبدأ تجاوب وتستحضر رده وتجاوب .
ولو بأن تقدِّر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سَمّينا ؛ يعني من شيخٍ أو قرين نابه .
انتهت هذه الوصية الجميلة المحررة النافعة المفيدة لهذا الإمام رحمه الله تعالى . ولو كنت قرأتها عليكم مجرد قراءة لكن ذلك أنفع لكم ، لكنني قطَّعت عليكم الفائدة بتداخلات أو إفادات ليست بكثيرة الفائدة ، فلو قرأتها عليكم مجرد قراءة لكان أنفع لكم ؛ أقول ذلك معتذرًا عن التطويل الذي حصل . وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا أجمعين بما علَّمنا وأن يزيدنا علمًا وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يهدينا إليه صراطا مستقيما إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
بالمناسبة الشيخ بن عثيمين جُمع له مجموع نافع جدًا سمي «كتاب العلم» في مجلد ليس بالكبير ، وجُمع فيه متفرقات كثيرة من الوصايا والتوجيهات والفتاوى التي ينتفع بها طالب العلم فيما يتعلق بالعلم والمنهجية فيه والآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم إلى غير ذلك من الأمور .
والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
#مَنْهَجْ_يَوْمِي_لِطَالِب_الْعِلْم
#شرح رسالة الشيخ ابن العثيمين رحمه الله لطالب علم، في خطبة للشيخ عبد.الرزاق حفظه الله.
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم إنا نسألك علمًا نافعا وعملًا صالحًا ورزقا طيبا وتوفيقًا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
أمَّا بعد معاشر الكرام ويا معاشر طلاب العلم :
هنيئًا لكم هذه العودة وهذا المجيء إلى هذا البلد المبارك بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الالتحاق الطيب النافع بالجامعة الاسلامية ، وأسأل الله عز وجل أن يمدَّكم بتوفيقه وعونه ، وأن يرزقكم أجمعين العلم النافع والعمل الصالح بمنِّه وكرمه .
وعادةً ولاسيما في بداية العام وخاصة أيضًا المستجدِّين في الطلب كثيرًا ما يسألون عن المنهج والمنهجية في طلب العلم وفي العبادة وفي حياة طالب العلم عموما ؛ وهو سؤالٌ كبير ومهم للغاية ، وقد وقفتُ على كتابةٍ قيمة وتحريرٍ نافع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ؛ سأله سائل أن يكتب له منهجًا يسير عليه في حياته ، فكتب كتابة نافعة جدًا نقف جميعًا على ما كتبه رحمه الله تعالى وأعلِّق على كلامه رحمه الله بما تيسر واسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بهذه المنهجية التي حررها وكتبها نصحا رحمه الله تعالى .
قال ابن عثيمين رحمه الله للسائل :
"سألتني بارك الله فيك أن أضع لك منهجا تسير عليه في حياتك ، وإني لأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما فيه الهدى والرشاد والصواب والسداد ، وأن يجعلنا هداةً مهتدين صالحين مصلحين ،فأقول :
أولاً : مع الله عز وجل ؛"
قسَّم رحمه الله تعالى هذه المنهجية التي يسير عليها المسلم وطالب العلم إلى أقسام ؛ القسم الأول مع الله ، قال : أولًا مع الله عز وجل .
" 1- احرص على أن تكون دائمًا مع الله عز وجل مستحضراً عظمته متفكراً في آياته الكونية ؛ كخلق السموات والأرض وما أودع فيهما من بالغ حكمته وباهر قدرته وعظيم رحمته ومنَّته ، وآياته الشرعية التي بعث بها رسله ولاسيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ."
في هذه النقطة الأولى دعى طالب العلم أن يُعنى بهذا الجانب وهو جانب يُغفل عنه التفكر في ملكوت الله ، وانظر هدي النبي عليه الصلاة والسلام عندما يستيقظ من آخر الليل وفي جوفه فيبدأ بقراءة الآيات من خواتيم سورة آل عمران { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } .
هذا دعوة للتفكر كل ليلة ، وهذا التفكر يشغل القلب بعظائم الأمور ونافعها عن الوساوس التي تمتلئ بها القلوب في الغالب ،لكن إذا شغل الإنسان قلبه بالتفكر في هذه المخلوقات الدالة على عظمة من خلقها وكمال من أبدعها وقدرة من أوجدها فهي دالة على الخالق «وفي كل شيء له آية» فهي دلائل وبراهين على كمال الخالق وعظمته ، ولهذا من الأمور التي ينبغي أن يُعنى بها طالب العلم والمسلم عموما أن يحرص دائما على ذلك .
الأمر الثاني قال رحمه الله :" أن يكون قلبُك مملوءاً بمحبة الله تعالى ؛ لما يغذوك به من النعم ويدفع عنك من النقم ، ولاسيما نعمة الإسلام والاستقامة عليه حتى يكون أحب شيء إليك سبحانه وتعالى . "
فهذا أمر عظيم ينبغي على طالب العلم والمسلم عموما أن يعنى به ؛ أن يعمر قلبه بمحبة الله . وثمة أمور تعينك على عمارة قلبك بهذه المحبة لله سبحانه وتعالى أشار رحمه الله إلى شيء منها قال : "لما يغذوك به من النعم" انظر نعم الله عليك المتوالية وآلائه المتتالية وعطاياه المتنوعة في صحتك وفي عافيتك وفي مالك وفي مسكنك وملبسك وطعامك وشرابك وولدك وغير ذلك ، فالتفكر في هذه النعم وهذه المنن التي تفضَّل الله سبحانه وتعالى عليك بها ، أيضا دفع النقم والشرور والآفات تُقبِل بقلبك على الله محبةً وعمارةً للقلب بمحبته سبحانه وتعالى ، وأعظم النعم التي عندما تتفكر في منة الله عليك بها يزداد قلبك حبًا لله نعمة الإسلام { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الحجرات:7-8] .
الأمر الثالث قال رحمه الله :" أن يكون قلبُك مملوءاً بتعظيم الله عز وجل حتى يكون في نفسك أعظم شيء . وباجتماع محبته وتعظيمه في قلبك تستقيم على طاعته قائمًا بما أمر به لمحبته ، تاركاً لما نهى عنه لتعظيمك له . "
فتحرص على عمارة قلبك بالمحبة لله والتعظيم له جل في علاه ، والتعظيم يعينك عليه النظر في الآيات الدالة على عظمة الله وكمال قدرته وكمال قوته وعظيم بطشه وانتقامه وشديد عقابه ؛ فهذه الأمور إذا تأملها العبد وتأمل الأمور التي أيضا تعمُر القلب بالمحبة يصبح عنده توازن بين الرجاء والخوف ، الرغبة والرهبة { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}[الحجر:49-50] تجمع بين الأمرين:
- محبةً لله تعمر بها قلبك تسوقك إلى طاعته وفعل مرضاته .
- وتعظيمًا له وعلمًا بعظمته سبحانه وتعالى يزجرك عن الوقوع في معاصيه وما نهى تبارك وتعالى عباده عنه .
الأمر الرابع : أن تكون مخلصا له جل وعلا في عبادتك متوكلاً عليه في جميع أحوالك ؛ لتحقق بذلك مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وتستحضر بقلبك أنك إنما تقوم بما أمر امتثالًا لأمره ، وتترك ما نهى عنه امتثالًا لنهيه ؛ فإنك بذلك تجد للعبادة طعمًا لا تدركه مع الغفلة ، وتجد في الأمور عونًا منه لا يحصل لك مع الاعتماد على نفسك .
فأنت بحاجة إلى إخلاص وتوكل { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود:123] ، ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)) . وقوله في الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هذا تحقيق لـ«لا إله إلا الله» ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : أي نعبدك ولا نعبد غيرك مخلصين لك الدين ، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحقيق لـ«لا حول ولا قوة إلا بالله» ، فإن «لا حول ولا قوة إلا بالله» كلمة استعانة ، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : أي نستعين بك ولا نستعين بغيرك . وبهذين الأمرين إخلاص العبادة لله وإخلاص الاستعانة به جل في علاه يستقيم للمرء علمه وعمله ، وتستقيم حياته على طاعة الله جل في علاه .
قال رحمه الله تعالى :
ثانياً : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر أمورا قال :
الأول : أن تقدِّم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة كل مخلوق وهديه وسنته على كل هدي وسنة.
وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) ، وهذا أيضًا لا يكفي بل إضافة إلى ذلك تقدم محبته على محبتك لنفسك كما في حديث عمر في صحيح البخاري قال : «لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي» ، قَالَ: ((لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)) ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: «فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي»، قَالَ : ((الآنَ يَا عُمَرُ)) . وهذه المحبة ليست مجرد دعوى يدَّعيها المرء ؛ لأنه من السهل على كل لسان ومن اليسير على كل إنسان أن يقول "إني أحب الرسول محبة عظيمة مقدمة على محبتي لنفسي ووالدي وولدي والناس أجمعين" ، لكن الدعاوى لا تكفي ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }[آل عمران:31] ، ولهذا قرن الشيخ رحمه الله مع المحبة لزوم الهدي قال : «أن تقدم محبته على محبة كل مخلوق وهديه وسنة على كل هدي وسنة» ، وإذا قدَّمت هديه وسنته على كل هدي وسنة كان ذلك أمارة على صدق المحبة وكمالها .
قال رحمه الله :
ثانيا : أن تتخذه إمامًا لك في عباداتك وأخلاقك ؛ بحيث تستحضر عند فعل العبادة أنك متَّبع له وكأنه أمامك تترسَّم خطاه وتنهج نهجه . وكذلك في مخالقة الناس أنك متخلِّق بأخلاقه ، قال الله له عنها {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] . ومتى التزمت بهذا فستكون حريصاً غاية الحرص على العلم بشريعته وأخلاقه.
وهذا الذي أشار عليه قد دل عليه قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] ؛ فيجب على كل مسلم أن يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم إمامًا ؛ إمامًا في العبادة وإمامًا في الأخلاق ، فإن الله عز وجل أتم له مقام العبادة فلا أكمل منه عبادةً لله ، وأتم له مقام الأخلاق فلا أكمل منه خلقا صلوات الله وسلامه عليه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] ، فإذا اتخذه إمامًا فإن ذلك يعني أن يكون مترسما لخطى من اتمَّ به سائرًا على منهاجه مقتديًا به مقدما لقوله على كل قول وهديه على كل هدي وسنته على كل سنة .
الأمر الثالث فيما يتعلق بما يكون مع الرسول عليه الصلاة والسلام : أن تكون داعياً لسنته ، ناصراً لها ، مدافعاً عنها ؛ فإن الله تعالى سينصُرك بقدر نصرك لشريعته .
فإذا وفقك الله للائتمام به والاهتداء بهديه والسير على منهاجه وترسُّم خطاه صلوات الله وسلامه عليه فأوصِل هذا الخير للغير وكن داعيا لسنة النبي عليه الصلاة والسلام معلِّما هذا الخير للآخرين وكن ناصرا للسنة . ودين الله سبحانه وتعالى منصور بك وبدونك لكن من الخير لك أن تجعل حياتك نصرة لدين الله ، وإلا الدين منصور بعز عزيز وذل ذليل لكن من الخير لك أن تجعل من حياتك دعوةً لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ونصرةً لدينه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
ثم قال رحمه الله :
ثالثاً : عملك اليومي غير المفروضات .
غير الفرائض التي افترضها الله عليك ماذا تعمل ؟ الشيخ وضع منهج محرر جميل جدًا ينبغي حقيقة أن نتأمله وأن نعنى بتطبيقه . قال رحمة الله عليه :
أولا : إذا قمت من الليل فاذكر الله تعالى وادع بما شئت فإن الدعاء في هذا الموطن حري بالإجابة ، واقرأ قول الله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } حتى تختم سورة آل عمران.
قيام الليل عند كثير من الناس في هذا الزمان ذهب في خبر كان كما يُعبَّر ، مع السهر الحاصل الآن كثير من الناس إن نشط حافظ على صلاة الفجر ! أما صلاة الليل وقيام الليل والعناية بالثلث الأخير من الليل فكثير من الناس لا حظ لهم منه بسبب السهر ، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السهر لأن فيه مضرة على الإنسان في منهجيته ، في عبادته ، في ترتيب أعماله ، فيه مخالفة لسنَّة الله الكونية {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73] ؛ { لِتَسْكُنُوا فِيهِ}أي الليل ، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي النهار ، فالليل فيه السكون فيه الراحة يأخذ الجسم حظه من النوم والراحة من أول الليل ثم يحظى بهذه المكرمة العظيمة يقوم في ثلث الليل الآخر في الوقت المبارك ، قال عليه الصلاة والسلام : ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)) الدعاء مستجاب ، استغفر يُغفر لك ، سل تُعطى ، ادعو يستجاب لك دعاؤك ، لكن هذه اللحظات الكريمة ذهبت عند كثير من الناس ؛ ولهذا طالب العلم ينبغي أن يجعل له حظًا من الثلث الأخير من الليل ، وبدأ به الشيخ في الأمور غير المفروضة لأنه أساس يبني عليه ما بعده ، أنت إذا وفقك الله سبحانه وتعالى وجعلت لك حظ من آخر الليل بإذن الله عز وجل يومك يكون مرتب وحياتك تكون مرتبة ومنتظمة ويبارَك لك في وقتك .
ثانيا يقول : صلِّ ما كتب لك في آخر الليل واختم صلاتك بالوتر.
كما قال عليه الصلاة والسلام ((اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا)) .
ثالثًا : حافظ على ما تيسر لك من أذكار الصباح والمساء ، قل مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
والشيخ رحمه الله نصَّ على هذه المئة مع أن الأذكار الواردة كثيرة لعظم شأن التهليل في اليوم مئة مرة وعظم ما يترتب على ذلك من آثار عظيمة مباركة في حياة المسلم وفي أخراه .
رابعًا : صل ركعتي الضحى .
هذه وصية النبي عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة ولأبي ذر قال : «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ -وذكر منها - وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى» .
خامسًا يقول : حافظ على أذكار المساء ما تيسر لك منها .
فتبدأ صباحك بالذكر وأيضا مساءك تختمه بذكر الله سبحانه وتعالى فتكونُ من أهل الذكر في الغدو والآصال . وهذه الأذكار -أذكار الصباح والمساء- من أعظم الأذكار التي ينبغي أن يُعنى بها المسلم وأن يواظب عليها مواظبة يومية مستمرة لأنها يترتب عليها آثار مباركة في يوم المرء وفي ليلته كما يعلم بمطالعة الفوائد المترتبة على هذه الأذكار بما ذكره النبي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
قال رابعاً -أي في المنهجية لطالب العلم - :
طريقة طلب العلم :
1- احرص على حفظ كتاب الله عز وجل ، واجعل لك كل يوم شيئًا معيَّنًا تحافظ على قراءته ، ولتكن قراءتك بتدبرٍ وتفهُّم ، وإذا عنّت - يعني ظهرت - لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
من المعاني والهدايات التي تدل عليها آيات القرآن الكريم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ؛ والله عز وجل يقول {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29] ، فيجعل لنفسه وردًا يوميا ، أفضل طريقة طريقة الصحابة وهي تحزيب القرآن إلى سبعة أحزاب بحيث يختم في كل أسبوع مرة ، إن ختم في كل شهر ، في كل أربعين يوم ، في كل عشرين يوم ، في كل عشرة أيام في كل أسبوع ، في كل ثلاثة أيام ، لا أقل من ذلك لكن يجعل ذلك شيئا ثابتًا يواظب عليه و((أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)) .
ثانيا : احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
نصَّ رحمه الله على هذا الكتاب المبارك عمدة الأحكام للإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى .
ثالثًا : احرص على التركيز والثبات ، بحيث لا تأخذ العلم نُتَفاً من هذا شيء ومن هذا شيء ؛ لأن هذا يضيِّع وقتك ويشتِّت ذهنك.
وهذا تنبيه مهم وكثيرا ما نغفل عنه ، والشيخ يرى أن طالب العلم ينبغي أن يؤسس نفسه علميا ، والتأسيس علميا يكون برعاية وعناية المتون التي وضعها أهل العلم لتصبح قاعدة لطالب العلم في العقيدة وفي الحديث والفقه ونحو ذلك ، فيعتني بهذه المتون بحيث تكون فصول ثابتة يؤسس عليها علمه ، لا أن يكون تحصيل العلم نُتف .
قال رحمه الله تعالى : ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيدا ، ثم انتقل إلى ما فوقها حتى تحصُل على العلم شيئا فشيئا على وجهٍ يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.
ولهذا غالب أهل العلم يرشدون من بدأ بطلب العلم إلى كتاب الأربعين للنووي ولا يزيدون عليه ، يقولون اعتني بهذا الكتاب ، بينما بعض الدعاة أو بعض طلاب العلم إذا جاء إنسان مبتدئ للتو دخل في الاستقامة وقال ماذا تنصحني ؟ أملاه قائمة بالكتب ؛ وهذا جيد ، وهذا مفيد، وهذا نافع ، وهذا يصلح في كذا ؛ فيرى العلم ثقيل جدًا ويجد صعوبة في الدخول في هذه كلها وفي الغالب يترك ، لكن إذا قيل له أبدًا خذ الأربعين يكفيك اعتني به احفظه وراجعه استمع إلى شروحاته ، أربعين حديث ما تـأخذ منك وقتا لو حفظت كل يوم حديثا لأكملتها في أربعين يوم أو في اثنين وأربعين يوم وستجد أثرها المبارك عليك . لأن الأربعين للنووي سبحان الله عجيبة للغاية وُفِّق رحمة الله عليه توفيقًا عظيما في انتقائها وجمعها ، كُتب في الأربعين كتب كثيرة قبله وبعده لكن لم يُكتب لكتاب ألِّف في الأربعين من القبول وعموم النفع والفائدة مثل ما كتب للأربعين للنووي رحمه الله ؛ لأنه انتقى فيه الجوامع من كلِم الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث إذا حفظه طالب العلم حفظًا متقنا واستمع إلى شروحاته من أكثر من عالم يصبح عنده قاعدة شرعية صلبة متينة يبني عليها عقيدته وعبادته وتعامله مع الناس .
خامسا : احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها ، وقيِّد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: «من حرم الأصول حرم الوصول» .
والقواعد التي يشير إليها الشيخ رحمه الله ويؤكد على العناية بضبطها هذه تضبط لطالب العلم علمه وتجمع له الأشباه والنظائر وتزيل عنه الاشكالات الواردة ، لأنه يرد الأمور إلى هذه القواعد والأصول الكلية الجامعة . والعلماء في فنون الشريعة حرروا قواعد ، يعني على سبيل المثال في باب الأسماء والصفات الشيخ نفسه رحمه الله كتب كتابا من أنفع ما يكون لطالب العلم «القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته الحسنى» ، وكتب العلماء قواعد في التفسير وقواعد في الفقه وقواعد في أمور كثيرة ، فهذه القواعد من شأنها أنها تضبط لطالب العلم علمه . والشيخ أكد على الكتابة والتقييد ؛ أذكر سمعت من الشيخ بن عثيمين رحمه الله فائدة يرويها عن نفسه طريفة جدًا يقول: كنا نقرأ على الشيخ بن سعدي رحمه الله في ساحة المسجد ، يعني في الهواء الطلق في الحوش الفناء الذي خلف المسجد ، كنا نقرأ عليه وكان الشيخ يشرح ، يقول فمرت طيور فرفعت بصري وأخذت أنظر إليها وأتابعها فانتبه لي الشيخ ابن سعدي وقالي لي : "يا محمد صيد العلم خير من صيد الطير" . وصيد العلم يقيد مثل الصيد -صيد الطير أو صيد الغزال- إذا ما قُيد وربط يفر يذهب ، وصيد العلم يقيد بالكتابة لأنك إن لم تقيده وتكتبه إن احتجته فيما بعد لا تجده ؛ ولهذا أكد رحمه الله على قضية الكتابة .
سادسا وأخيرا يقول : ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علماً وديناً من أقرانك .
ما كل الأقران يصلح لذلك وإنما يتميز بعض الأقران بعلمه وعنايته وضبطه .
ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علماً وديناً من أقرانك ولو بأن تقدِّر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها ؛ انظر هذه الفائدة جميلة ! يقول قدر في ذهنك أن أحدًا يناقشك في هذه المسألة وتبدأ تجاوب وتستحضر رده وتجاوب .
ولو بأن تقدِّر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سَمّينا ؛ يعني من شيخٍ أو قرين نابه .
انتهت هذه الوصية الجميلة المحررة النافعة المفيدة لهذا الإمام رحمه الله تعالى . ولو كنت قرأتها عليكم مجرد قراءة لكن ذلك أنفع لكم ، لكنني قطَّعت عليكم الفائدة بتداخلات أو إفادات ليست بكثيرة الفائدة ، فلو قرأتها عليكم مجرد قراءة لكان أنفع لكم ؛ أقول ذلك معتذرًا عن التطويل الذي حصل . وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا أجمعين بما علَّمنا وأن يزيدنا علمًا وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يهدينا إليه صراطا مستقيما إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
بالمناسبة الشيخ بن عثيمين جُمع له مجموع نافع جدًا سمي «كتاب العلم» في مجلد ليس بالكبير ، وجُمع فيه متفرقات كثيرة من الوصايا والتوجيهات والفتاوى التي ينتفع بها طالب العلم فيما يتعلق بالعلم والمنهجية فيه والآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم إلى غير ذلك من الأمور .
والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .