- إنضم
- 18 أفريل 2021
- المشاركات
- 1,343
- نقاط التفاعل
- 4,506
- النقاط
- 76
- العمر
- 17
- محل الإقامة
- No Place
- الجنس
- ذكر
قصة قصيرة بعنوان «الرهان»
تأليف: أنطون تشيخوف
ترجمة: منير البعلبكي
_
1
كانت ليلة مظلمة من ليالي الخريف. وكان صاحب المصرف العجوز يذرع مكتبه جيئة وذهوبا، مسترجعاً في ذهنه ذكرى تلك الحفلة التي أحياها في الخريف، لخمسة عشر عاما خلت. لقد شهدها نفر غير قليل من المثقفين البارعين، فكان من الطبيعي أن يتجاذبوا أطراف الأحاديث في أطرف الموضوعات. وكان في جملة ما تناقشوا فيه عقوبة الإعدام. والواقع أن كثرة الزائرين استنكروا هذه العقوبة، ذاهبين إلى أنها لا تليق بالعصر الذي نعيش فيه، وأنها عمل غير أخلاقي. ولقد رأى بعضهم ضرورة الاستعاضة عنها بالسجن مدى الحياة.
عندئذ اندفع المضيف إلى القول:
- إني لأخالفكم في ذلك. صحيح أنّي لم أجرب بنفسي أيا من العقوبتين، ولكن إذا كان لي أن أحكم على أساس البداهة فالذي أراه أن الإعدام أكثر أخلاقية وأكثر إنسانية من السِجن. إن الإعدام يميت المجرم للتو والساعة، في حين يميته السجن موتاً بطيئاً. أيهما أرحم: هذا الذي يقتلك في بضع ثوان، أم ذاك الذي يستل منك الحياة من غير ما انقطاع، طوال سنوات متعددات؟
وعلّق أحد الضيوف على هذا الكلام بقوله:
- كلتا العقوبتين سواء في صفتها غير الأخلاقية، لأن الغاية منهما واحدة، في النهاية وهي انتزاع الحياة. إن الدولة ليست هي الله. وهي لا تملك حق انتزاع مالا تستطيع إعادته، إذا رغبت في ذلك.
وكان في الحاضرين محام شاب لايعدو الخامسة والعشرين. فلما سُئل رأيه في القضية قال:
- إن الإعدام والسجن مدى الحياة سيان من حيث صفتهما غير الأخلاقية، ولكنني لو خيرت بينهما لاخترت العقوبة الثانية من غير شك. فلأن يعيش المرء على أية حال خير له من أن لا يعيش على الإطلاق.
وهنا احتدمت المناقشة. فما كان من صاحب المصرف إلا أن أخذته سَورة الغضب فضرب المنضدة بجمع يده وإلتفت إلى المحامي الشاب صارخاً:
- كذب وبهتان! إنك لن تستطيع أن تمكث في السجن خمس سنوات لا خمس عشرة سنة، وإني لعلى استعداد للرهان على مليوني روبل...
فأجاب المحامي:
- إذا كنت جاداً فيما تقول فأنا على استعداد لأن أراهنك على أن أقضي في السجن خمس عشرة سنة لا خمساً فحسب!
وصرخ صاحب المصرف:
- خمس عشرة سنة! حسناً! أيها القوم: إني أقدّم مليوني روبل.
فقال المحامي :
- اتفقنا. أنت تقدم المليونين وأنا أقدم حريتي!
وهكذا جرى هذا الرهان الوحشي المضحك. والواقع أن صاحب المصرف كان في ذلك الوقت يلعب بالملايين ولا يقيم لها وزناً، فلما انتقل القوم إلى مائدة العشاء خاطب المحامي ممازحاً:
- عد إلى رشدك، أيها الشاب، قبل فوات الأوان إن مليوني روبل ليست شيئاً بالنسبة إلي، ولكنك ستخسر ثلاث سنوات أو أربعاً من شبابك، وإنما أقول ثلاثاً أو أربعاً لأنك لن تطيق المقام في السجن أكثر من ذلك.. عد إلى صوابك، قبل فوات الأوان!
ذكر صاحب المصرف ذلك كله، وهو يذرع مكتبه جيئة وذهوباً، ثم ساءل نفسه:
«لم أجريت هذا الرهان؟ أي خير انطوى عليه؟ إنه سيسلب المحامي خمس عشرة سنة من حياته وسيسلبني مليوني روبل. وهل في ذلك ما يقنع الناس بأن الإعدام خير من السجن مدى الحياة أو شر منه؟ لا، لا هذا هراء سخيف!....»
ثم إنه ذكر ما وقع بعد الحفلة الساهرة. لقد تم الاتفاق على أن يمضي المحامي سنوات سجنه تحت أشد المراقبة وأقساها في منزل ملحق بقصر صاحب المصرف. كذلك تم الاتفاق على أن يحرم المحامي حق اجتياز العتبة ورؤية الناس وتسلم الرسائل والصحف! في حين سمح له بآلة موسيقية، وبقراءة الكتب، وكتابة الرسائل، وشرب الخمر وتدخين التبغ. وكان في ميسوره أن يتصل بالعالم الخارجي من طريق نافذة صغيرة، فهو يستطيع أن يحصل على جميع ما يحتاج إليه من الكتب والألحان الموسيقية والخمر بواسطة كلمة يبعث بها من النافذة. ليس هذا فحسب، بل لقد نصّت الاتفاقية على أدق التفصيلات التي تحول دون إمكان اتصال المحامي بكائن من كان، وفرضت عليه أن يظل في محبسه خمسة عشرة عاماً بتمامها من الساعة الثانية عشرة من 14 نوفمبر سنة 1870 حتى الساعة الثانية عشرة من 14 نوفمبر سنة 1885، وأدنى محاولة يقوم بها السجين بسبيل خرق هذه الشروط ـ كأن يهرب قبل دقيقتين فحسب من الميقات المحدد ـ تجعل صاحب المصرف في حِل من دفع قيمة الرهان إليه.
والحق أن المحامي لقي خلال السنة الأولى من سجنه أقسى البلاء من التوحد والضجر، على ما نستطيع أن نستنتج من المذكرات الصغيرة التي كان يخطها. فمن محبسه كانت تنبعث، صباحاً ومساء، أنغام البيانو. ولقد أبى في هذه الفترة أن يتناول شيئاً من الخمر والتبغ. وإنما كتب مرة يقول: «الخمر تحرّك الرغبات، والرغبات هي ألد أعداء السجين. أما التبغ فيفسد الهواء في الغرفة.»
وكانت الكتب التي أرسلت إلى المحامي خلال السنة الأولى ذات صفة خفيفة، فيها الروايات الغرامية العنيفة وروايات الإجرام والمسرحيات الهزلية وغيرها.
وفي السنة التالية انقطع صوت البيانو، وصار المحامي لا يطلب غير الكتب الكلاسيكية.
حتى إذا كانت السنة الخامسة عادت نغمات البيانو سيرتها الأولى وأنشأ المحامي يطلب كؤوس الخمر. ولقد روى الذين راقبوه أنه قضى سحابة تلك السنة في الطعام والشراب والاستلقاء على الفراش، ليس غير. كان كثيراً ما يتثاءب ويتحدث إلى نفسه مغضباً. أما الكتب فلم يكن يقرؤها. وكان ينهض في بعض الأحيان، ليلاً، ليخط شيئاً على القرطاس. ويستغرق في الكتابة ليعود بعد فيمزق ما كتب عند منبلج الصباح، ولقد سُمِع غير مرة ينشج ويبكي! وفي النصف الثاني من السنة السادسة شرع السجين يدرس اللغات والفلسفة والتاريخ في حماسة وشوق. والواقع أنه انكب على التهام هذه الموضوعات في نهم شديد حتى لقد صار من العسير على صاحب المصرف أن يفرغ لتأمين عدد من الكتب يكفيه.
ففي أربع سنوات قدم له، بناء على طلبه، نحو ستمائة مجلد.
فلما انقضت السنة العاشرة تسمّر المحامي وراء طاولته وأخذ يتلو العهد الجديد من الكتاب المقدس، دون سائر الكتب. ولم يستطع صاحب المصرف أن يفهم كيف جاز لهذا الرجل الذي تمكن، في أربع سنوات، من دراسة ستمائة مجلد مملوءة علماً أن ينفق سنة برمتها في مطالعة كتاب واحد ليس فيه ما يشق ويعسر. حتى إذا انتهت تلك السنة حل تاريخ الأديان وعلم اللاهوت محل العهد الجديد من الكتاب المقدس.
أما في السنتين الأخيرتين من مدة السجن فكان المحامي يقرأ بسرعة فائقة، وكيفما اتفق. فهو يفرغ حيناً للعلوم الطبيعية ثم لا يلبث أن يقرأ شعر بايرون أو شكسبير. وكان كثيراً ما يبعث بالمذكرة تلو المذكرة طالباً أن يُرسل إليه كتاب في الكيمياء، وكتاب في الطب، ورواية، ورسالة ما في الفلسفة أو اللاهوت في وقت واحد...
2
ذكر صاحب المصرف هذا كله ثم قال في ذات نفسه: «غداً في الساعة الثانية عشرة سينعم بحريته. وسيكون عليّ، بحسب الاتفاق، أن أدفع إليه مليوني روبل. فإذا فعلت لم يبق لي شيء، وألَمّ بي الخراب إلى الأبد!»
منذ خمس عشرة سنة كان يملك ملايين طائلة لا يستطيع لها عدّا. أما اليوم فهو يخاف أن يسأل نفسه: «أتفوق أمواله ديونه، أم تفوق ديونه أمواله؟» فمضاربات البورصة، والمغامرات التجارية الخطرة، وطيش الشباب الذي لم يستطع التحرر منه حتى بعد بلوغه سناً عالية، كل أولئك أودى بتجارته وتأكلها. إن رجل الأعمال المتكبر، الواثق من نفسه، الذي لا يخاف، أمسى اليوم صاحب مصرف عادي تأخذه الرجفة عند أي ارتفاع أو هبوط يصيب السوق.
وبربر الرجل العجوز وهو يضغط على رأسه في يأس: «ذلك الرهان الملعون... لِمَ لم يمت الرجل؟ إنه لا يزال شاباً في الأربعين، ولسوف يسلبني آخر درهم أملك ويغدو مبتهجاً سعيداً يلعب بالمال ويضارب في البورصة، في حين سأظهر أنا بمظهر الشحاذ العجوز، وسأسمع منه كل يوم هذه الكلمات: "أنا مدين لك بسعادتي في الحياة! دعني أساعدك! "
لا، لا، إن هذا كثير وليس من وسيلة إلى تلافي الإفلاس والخزي، في وقت معاً، غير القضاء على الرجل...»
ودقت الساعة ثلاثاً بعد نصف الليل. فوقعت ضرباتها في أذني صاحب المصرف الذي لم تكتحل عيناه بالنوم، تلك الليلة، في حين نام كل من في المنزل فليس يسمع المرء غير أنين الأشجار المتجمدة خارج النوافذ...
ونهض على حين فجأة محاولاً أن لا يحدث ضجة ما، وأخرج من صندوقه الحديدي مفتاح الباب الذي لم يفتح طوال خمسة عشر عاماً، ولبس معطفه وخرج...
كانت الحديقة مظلمة باردة، وكان المطر يهطل؛ وقد تناوحت في الحديقة ريح شديدة عبثت بالأشجار في غير ما رحمة. وفتح صاحب المصرف عينيه أقصى ما يستطيع أن يفتحهما، ومع ذلك فلم يبصر الأرض، ولا التماثيل البيضاء، ولا الأشجار. حتى إذا اقترب من المكان الذي اتخذ سجناً للمحامي نادى الحارس مرتين. ولكن أحداً لم يجب نداءه. كان واضحاً أن الحارس لجأ إلى مكان يقيه غائلة هذا الجو الغاضب، أو كان نائماً في المطبخ القريب. وقال الرجل العجوز في ذات نفسه: «إذا كانت عندي الجرأة لأن أحقق ما أنا بسبيله فليس من شك في أن الشبهة ستقع أول ما ستقع على الحارس.» وتلمس سبيله وسط الظلام إلى الباب، ودخل قاعة واسعة، ثم تابع طريقه إلى مجاز ضيق وأشعل عوداً من الكبريت. لم يكن ثمة أحد البتة. وكانت الأختام على الباب الذي يقود إلى غرفة السجين لا تزال سليمة لم تمس. وانطفأ عود الكبريت، فتطلع الرجل العجوز، من خلال النافذة الصغيرة، وهو يرتجف اضطراباً...
كانت في محبس السجين شمعة تحترق في شحوب. وكان السجين نفسه يجلس إلى المنضدة، ولم يكن بادياً منه غير ظهره وشعره ويديه. وكانت الكتب المفتوحة مبعثرة ههنا وههنا...
وانقضت خمس دقائق لم يتحرك السجين خلالها حركة واحدة. إن خمس عشرة سنة من الحبس قد علمته أن يجلس بلا حراك. وقرع صاحب المصرف النافذة بأصعبه، ولكن السجين ظل في سكونه لا يرد جواباً. عندئذ نزع الصيرفي الأختام عن الباب وأدخل المفتاح في القفل. وصر القفل الصدىء صريراً أجش وصرف الباب صريفاً شديداً. وتوقع صاحب المصرف أن يسمع صيحة دهش ووقع أقدام. ولكن ثلاث دقائق مرت، وكل شيء هادئ كما كان. وأخيراً عزم على الدخول.
إلى جانب منضدة كان يجلس رجل لا كالرجال. إنه هيكل عظمي ذو شعر طويل متجعد كأنه شعر امرأة، ولحية كثيفة. كان وجهه أصفر ترابي الظل، وكانت وجنتاه غائرتين، وكانت يده التي أسند إليها رأسه الأثيث الشعر هزيلة عجفاء توقع الألم في نفس من ينظر إليها. وكان رأسه قد اشتعل شيباً، وتجعدت وجنتاه، وشاخ وجهه فليس يصدق أحد أنه لم يعدُ الأربعين من العمر. وكانت على المنضدة، إلى جانب رأسه المحني، ورقة مكتوب عليها بعض الكلام بأحرف دِقاق.
وقال صاحب المصرف في ذات نفسه: «تباً له من شيطان خسيس. إنه نائم... ولعله يحلم بالملايين في منامه. كل ما عليّ أن أفعله أن أحمل هذا الشيء، نصف الميت، وألقيه على الفراش، ثم أطفئ أنفاسه لحظة بالوسادة فلا يستطيع أدق الفحوص أن يجد فيه أثراً من موت غير طبيعي. ولكن، فلأقرأ قبل كل شيء ما كتبه هنا.»
وتناول صاحب المصرف الورقة وقرأ: «غداً في الساعة الثانية عشر سأتمتع بحریتي... ولكن قبل أن أبرح هذه الغرفة وأكحل عينى بالشمس أرى من الضروري أن أقول لك بضع الكلمات... إنني أمام الله الذي يراني أعلن احتقاري للحرية، للحياة، للصحة، ولجميع ما تدعوه كتبك نِعَم العالم وبركاته.
«لقد درست الحياة الدنيوية طوال خمسة عشر عاماً. صحيح أني لم أر الأرض ولم أر الناس، ولكني، احتسيتُ في كتبك الخمر الزكي، وغنيت الأغاني. واقتنصت الغزلان والخنازير البرية في الغابات، وعشقت النساء... وزارتني الغيد الحسان اللواتي خلقهن سحر عبقرية شعرائك، كالغيوم اللطاف، في الليالي، وهمسن في مسمعي حكايات رائعة ترنح لها رأسي ترنُح الشارب الثمل. لقد تسلقت في كتبك قمة الجبل الأبيض، وشهدت من هناك كيف تبزغ الشمس في الصباح، وكيف تخضب السماء والمحيط وسلاسل الجبال عند المساء بخضاب من الأرجوان. رأيت الغابات الخضراء، والحقول، والأنهار، والبحيرات، والمدن. سمعت جنيات البحر تغني، وإله الرعاة يعزف على قيثارته... اجترحت العجائب، وأحرقت مدناً فلم أغادر منها أثراً، وبشرت بأديان جديدة، وفتحت جميع البلدان...
«لقد أعطتني كتبك الحكمة. وإن كل ما أبدعه الفكر الإنساني خلال العصور قد انتهى إلى أن يكون كتلة صغيرة مضغوطة في جمجمتي. أنا أعرف أنني أبرع منكم جميعاً.
«أنا أحتقر كتبكم. أحتقر الحكمة وجميع النعم الدنيوية. كل شيء باطل، متهافت، خادع، وهمي، كالسراب. فعلى الرغم من أنكم قد تكونون على كبرياء وحكمة وجمال فإن الموت يحصدكم فوق ظهر الأرض كما يحصد الفئران في بطنها.
«إنكم معتوهون، ضالوا السبيل. إنكم تحسبون الباطل والقبح جمالاً. إنكم لتعجبون إذا ما رأيتم أشجار التفاح والبرتقال وقد حملت، فجأة، ضفادع ويرابيع، وإذا ما أخذت الورود تتنفس بمثل ريح الحصان الناضح بالعرق... كذلك أعجب لكم أنتم الذين استبدلتم الأرض بالسماء: أنا لا أريد أن أفهمكم!
«ولكي أظهر لك عملياً احتقاري لذلك الذي تعيشون به، أتخلّى عن المليوني روبل التي حلمت بها يوماً كما يحلم امرؤ بالجنة، والتي أزدريها الآن. ولكي أحرم نفسي حقها في هذين المليونين سأخرج من هنا قبل خمس دقائق من الميقات المعين ، وبذلك أكون قد نقضت الاتفاق.»
لما قرأ صاحب المصرف هذا الكلام ألقى الورقة على المنضدة، وقبّل رأس الرجل الغريب، وأنشأ يبكى. ثم إنه غادر المكان وهو يحس في ذات نفسه احتقاراً لنفسه لم يعرف له ضريباً في وقت من الأوقات، حتى بعد خسائره الفظيعة في مضاربات البورصة. حتى إذا بلغ المنزل، استلقى على فراشه، ولكن الاضطراب والدموع حالت بينه وبين الرقاد فترة طويلة...
وفي صباح اليوم التالي جاءه الحارس المسكين يسعى، وأنبأه أنه رأى الرجل السجين يتسلق النافذة ويهبط الحديقة ثم يقصد إلى الباب ويختفي عن الأنظار. فما كان من صاحب المصرف إلا أن خرج مع خدمه إلى محبس المحامي وتحقق من هرب سجينه. ولكى يتلافى استطارة الإشاعات غير الضرورية تناول من على الطاولة صك التنازل ليضعه، بعد عودته إلى المنزل، في صندوقه الحديدي، ويغلق من دونه الباب...
تأليف: أنطون تشيخوف
ترجمة: منير البعلبكي
_
1
كانت ليلة مظلمة من ليالي الخريف. وكان صاحب المصرف العجوز يذرع مكتبه جيئة وذهوبا، مسترجعاً في ذهنه ذكرى تلك الحفلة التي أحياها في الخريف، لخمسة عشر عاما خلت. لقد شهدها نفر غير قليل من المثقفين البارعين، فكان من الطبيعي أن يتجاذبوا أطراف الأحاديث في أطرف الموضوعات. وكان في جملة ما تناقشوا فيه عقوبة الإعدام. والواقع أن كثرة الزائرين استنكروا هذه العقوبة، ذاهبين إلى أنها لا تليق بالعصر الذي نعيش فيه، وأنها عمل غير أخلاقي. ولقد رأى بعضهم ضرورة الاستعاضة عنها بالسجن مدى الحياة.
عندئذ اندفع المضيف إلى القول:
- إني لأخالفكم في ذلك. صحيح أنّي لم أجرب بنفسي أيا من العقوبتين، ولكن إذا كان لي أن أحكم على أساس البداهة فالذي أراه أن الإعدام أكثر أخلاقية وأكثر إنسانية من السِجن. إن الإعدام يميت المجرم للتو والساعة، في حين يميته السجن موتاً بطيئاً. أيهما أرحم: هذا الذي يقتلك في بضع ثوان، أم ذاك الذي يستل منك الحياة من غير ما انقطاع، طوال سنوات متعددات؟
وعلّق أحد الضيوف على هذا الكلام بقوله:
- كلتا العقوبتين سواء في صفتها غير الأخلاقية، لأن الغاية منهما واحدة، في النهاية وهي انتزاع الحياة. إن الدولة ليست هي الله. وهي لا تملك حق انتزاع مالا تستطيع إعادته، إذا رغبت في ذلك.
وكان في الحاضرين محام شاب لايعدو الخامسة والعشرين. فلما سُئل رأيه في القضية قال:
- إن الإعدام والسجن مدى الحياة سيان من حيث صفتهما غير الأخلاقية، ولكنني لو خيرت بينهما لاخترت العقوبة الثانية من غير شك. فلأن يعيش المرء على أية حال خير له من أن لا يعيش على الإطلاق.
وهنا احتدمت المناقشة. فما كان من صاحب المصرف إلا أن أخذته سَورة الغضب فضرب المنضدة بجمع يده وإلتفت إلى المحامي الشاب صارخاً:
- كذب وبهتان! إنك لن تستطيع أن تمكث في السجن خمس سنوات لا خمس عشرة سنة، وإني لعلى استعداد للرهان على مليوني روبل...
فأجاب المحامي:
- إذا كنت جاداً فيما تقول فأنا على استعداد لأن أراهنك على أن أقضي في السجن خمس عشرة سنة لا خمساً فحسب!
وصرخ صاحب المصرف:
- خمس عشرة سنة! حسناً! أيها القوم: إني أقدّم مليوني روبل.
فقال المحامي :
- اتفقنا. أنت تقدم المليونين وأنا أقدم حريتي!
وهكذا جرى هذا الرهان الوحشي المضحك. والواقع أن صاحب المصرف كان في ذلك الوقت يلعب بالملايين ولا يقيم لها وزناً، فلما انتقل القوم إلى مائدة العشاء خاطب المحامي ممازحاً:
- عد إلى رشدك، أيها الشاب، قبل فوات الأوان إن مليوني روبل ليست شيئاً بالنسبة إلي، ولكنك ستخسر ثلاث سنوات أو أربعاً من شبابك، وإنما أقول ثلاثاً أو أربعاً لأنك لن تطيق المقام في السجن أكثر من ذلك.. عد إلى صوابك، قبل فوات الأوان!
ذكر صاحب المصرف ذلك كله، وهو يذرع مكتبه جيئة وذهوباً، ثم ساءل نفسه:
«لم أجريت هذا الرهان؟ أي خير انطوى عليه؟ إنه سيسلب المحامي خمس عشرة سنة من حياته وسيسلبني مليوني روبل. وهل في ذلك ما يقنع الناس بأن الإعدام خير من السجن مدى الحياة أو شر منه؟ لا، لا هذا هراء سخيف!....»
ثم إنه ذكر ما وقع بعد الحفلة الساهرة. لقد تم الاتفاق على أن يمضي المحامي سنوات سجنه تحت أشد المراقبة وأقساها في منزل ملحق بقصر صاحب المصرف. كذلك تم الاتفاق على أن يحرم المحامي حق اجتياز العتبة ورؤية الناس وتسلم الرسائل والصحف! في حين سمح له بآلة موسيقية، وبقراءة الكتب، وكتابة الرسائل، وشرب الخمر وتدخين التبغ. وكان في ميسوره أن يتصل بالعالم الخارجي من طريق نافذة صغيرة، فهو يستطيع أن يحصل على جميع ما يحتاج إليه من الكتب والألحان الموسيقية والخمر بواسطة كلمة يبعث بها من النافذة. ليس هذا فحسب، بل لقد نصّت الاتفاقية على أدق التفصيلات التي تحول دون إمكان اتصال المحامي بكائن من كان، وفرضت عليه أن يظل في محبسه خمسة عشرة عاماً بتمامها من الساعة الثانية عشرة من 14 نوفمبر سنة 1870 حتى الساعة الثانية عشرة من 14 نوفمبر سنة 1885، وأدنى محاولة يقوم بها السجين بسبيل خرق هذه الشروط ـ كأن يهرب قبل دقيقتين فحسب من الميقات المحدد ـ تجعل صاحب المصرف في حِل من دفع قيمة الرهان إليه.
والحق أن المحامي لقي خلال السنة الأولى من سجنه أقسى البلاء من التوحد والضجر، على ما نستطيع أن نستنتج من المذكرات الصغيرة التي كان يخطها. فمن محبسه كانت تنبعث، صباحاً ومساء، أنغام البيانو. ولقد أبى في هذه الفترة أن يتناول شيئاً من الخمر والتبغ. وإنما كتب مرة يقول: «الخمر تحرّك الرغبات، والرغبات هي ألد أعداء السجين. أما التبغ فيفسد الهواء في الغرفة.»
وكانت الكتب التي أرسلت إلى المحامي خلال السنة الأولى ذات صفة خفيفة، فيها الروايات الغرامية العنيفة وروايات الإجرام والمسرحيات الهزلية وغيرها.
وفي السنة التالية انقطع صوت البيانو، وصار المحامي لا يطلب غير الكتب الكلاسيكية.
حتى إذا كانت السنة الخامسة عادت نغمات البيانو سيرتها الأولى وأنشأ المحامي يطلب كؤوس الخمر. ولقد روى الذين راقبوه أنه قضى سحابة تلك السنة في الطعام والشراب والاستلقاء على الفراش، ليس غير. كان كثيراً ما يتثاءب ويتحدث إلى نفسه مغضباً. أما الكتب فلم يكن يقرؤها. وكان ينهض في بعض الأحيان، ليلاً، ليخط شيئاً على القرطاس. ويستغرق في الكتابة ليعود بعد فيمزق ما كتب عند منبلج الصباح، ولقد سُمِع غير مرة ينشج ويبكي! وفي النصف الثاني من السنة السادسة شرع السجين يدرس اللغات والفلسفة والتاريخ في حماسة وشوق. والواقع أنه انكب على التهام هذه الموضوعات في نهم شديد حتى لقد صار من العسير على صاحب المصرف أن يفرغ لتأمين عدد من الكتب يكفيه.
ففي أربع سنوات قدم له، بناء على طلبه، نحو ستمائة مجلد.
فلما انقضت السنة العاشرة تسمّر المحامي وراء طاولته وأخذ يتلو العهد الجديد من الكتاب المقدس، دون سائر الكتب. ولم يستطع صاحب المصرف أن يفهم كيف جاز لهذا الرجل الذي تمكن، في أربع سنوات، من دراسة ستمائة مجلد مملوءة علماً أن ينفق سنة برمتها في مطالعة كتاب واحد ليس فيه ما يشق ويعسر. حتى إذا انتهت تلك السنة حل تاريخ الأديان وعلم اللاهوت محل العهد الجديد من الكتاب المقدس.
أما في السنتين الأخيرتين من مدة السجن فكان المحامي يقرأ بسرعة فائقة، وكيفما اتفق. فهو يفرغ حيناً للعلوم الطبيعية ثم لا يلبث أن يقرأ شعر بايرون أو شكسبير. وكان كثيراً ما يبعث بالمذكرة تلو المذكرة طالباً أن يُرسل إليه كتاب في الكيمياء، وكتاب في الطب، ورواية، ورسالة ما في الفلسفة أو اللاهوت في وقت واحد...
2
ذكر صاحب المصرف هذا كله ثم قال في ذات نفسه: «غداً في الساعة الثانية عشرة سينعم بحريته. وسيكون عليّ، بحسب الاتفاق، أن أدفع إليه مليوني روبل. فإذا فعلت لم يبق لي شيء، وألَمّ بي الخراب إلى الأبد!»
منذ خمس عشرة سنة كان يملك ملايين طائلة لا يستطيع لها عدّا. أما اليوم فهو يخاف أن يسأل نفسه: «أتفوق أمواله ديونه، أم تفوق ديونه أمواله؟» فمضاربات البورصة، والمغامرات التجارية الخطرة، وطيش الشباب الذي لم يستطع التحرر منه حتى بعد بلوغه سناً عالية، كل أولئك أودى بتجارته وتأكلها. إن رجل الأعمال المتكبر، الواثق من نفسه، الذي لا يخاف، أمسى اليوم صاحب مصرف عادي تأخذه الرجفة عند أي ارتفاع أو هبوط يصيب السوق.
وبربر الرجل العجوز وهو يضغط على رأسه في يأس: «ذلك الرهان الملعون... لِمَ لم يمت الرجل؟ إنه لا يزال شاباً في الأربعين، ولسوف يسلبني آخر درهم أملك ويغدو مبتهجاً سعيداً يلعب بالمال ويضارب في البورصة، في حين سأظهر أنا بمظهر الشحاذ العجوز، وسأسمع منه كل يوم هذه الكلمات: "أنا مدين لك بسعادتي في الحياة! دعني أساعدك! "
لا، لا، إن هذا كثير وليس من وسيلة إلى تلافي الإفلاس والخزي، في وقت معاً، غير القضاء على الرجل...»
ودقت الساعة ثلاثاً بعد نصف الليل. فوقعت ضرباتها في أذني صاحب المصرف الذي لم تكتحل عيناه بالنوم، تلك الليلة، في حين نام كل من في المنزل فليس يسمع المرء غير أنين الأشجار المتجمدة خارج النوافذ...
ونهض على حين فجأة محاولاً أن لا يحدث ضجة ما، وأخرج من صندوقه الحديدي مفتاح الباب الذي لم يفتح طوال خمسة عشر عاماً، ولبس معطفه وخرج...
كانت الحديقة مظلمة باردة، وكان المطر يهطل؛ وقد تناوحت في الحديقة ريح شديدة عبثت بالأشجار في غير ما رحمة. وفتح صاحب المصرف عينيه أقصى ما يستطيع أن يفتحهما، ومع ذلك فلم يبصر الأرض، ولا التماثيل البيضاء، ولا الأشجار. حتى إذا اقترب من المكان الذي اتخذ سجناً للمحامي نادى الحارس مرتين. ولكن أحداً لم يجب نداءه. كان واضحاً أن الحارس لجأ إلى مكان يقيه غائلة هذا الجو الغاضب، أو كان نائماً في المطبخ القريب. وقال الرجل العجوز في ذات نفسه: «إذا كانت عندي الجرأة لأن أحقق ما أنا بسبيله فليس من شك في أن الشبهة ستقع أول ما ستقع على الحارس.» وتلمس سبيله وسط الظلام إلى الباب، ودخل قاعة واسعة، ثم تابع طريقه إلى مجاز ضيق وأشعل عوداً من الكبريت. لم يكن ثمة أحد البتة. وكانت الأختام على الباب الذي يقود إلى غرفة السجين لا تزال سليمة لم تمس. وانطفأ عود الكبريت، فتطلع الرجل العجوز، من خلال النافذة الصغيرة، وهو يرتجف اضطراباً...
كانت في محبس السجين شمعة تحترق في شحوب. وكان السجين نفسه يجلس إلى المنضدة، ولم يكن بادياً منه غير ظهره وشعره ويديه. وكانت الكتب المفتوحة مبعثرة ههنا وههنا...
وانقضت خمس دقائق لم يتحرك السجين خلالها حركة واحدة. إن خمس عشرة سنة من الحبس قد علمته أن يجلس بلا حراك. وقرع صاحب المصرف النافذة بأصعبه، ولكن السجين ظل في سكونه لا يرد جواباً. عندئذ نزع الصيرفي الأختام عن الباب وأدخل المفتاح في القفل. وصر القفل الصدىء صريراً أجش وصرف الباب صريفاً شديداً. وتوقع صاحب المصرف أن يسمع صيحة دهش ووقع أقدام. ولكن ثلاث دقائق مرت، وكل شيء هادئ كما كان. وأخيراً عزم على الدخول.
إلى جانب منضدة كان يجلس رجل لا كالرجال. إنه هيكل عظمي ذو شعر طويل متجعد كأنه شعر امرأة، ولحية كثيفة. كان وجهه أصفر ترابي الظل، وكانت وجنتاه غائرتين، وكانت يده التي أسند إليها رأسه الأثيث الشعر هزيلة عجفاء توقع الألم في نفس من ينظر إليها. وكان رأسه قد اشتعل شيباً، وتجعدت وجنتاه، وشاخ وجهه فليس يصدق أحد أنه لم يعدُ الأربعين من العمر. وكانت على المنضدة، إلى جانب رأسه المحني، ورقة مكتوب عليها بعض الكلام بأحرف دِقاق.
وقال صاحب المصرف في ذات نفسه: «تباً له من شيطان خسيس. إنه نائم... ولعله يحلم بالملايين في منامه. كل ما عليّ أن أفعله أن أحمل هذا الشيء، نصف الميت، وألقيه على الفراش، ثم أطفئ أنفاسه لحظة بالوسادة فلا يستطيع أدق الفحوص أن يجد فيه أثراً من موت غير طبيعي. ولكن، فلأقرأ قبل كل شيء ما كتبه هنا.»
وتناول صاحب المصرف الورقة وقرأ: «غداً في الساعة الثانية عشر سأتمتع بحریتي... ولكن قبل أن أبرح هذه الغرفة وأكحل عينى بالشمس أرى من الضروري أن أقول لك بضع الكلمات... إنني أمام الله الذي يراني أعلن احتقاري للحرية، للحياة، للصحة، ولجميع ما تدعوه كتبك نِعَم العالم وبركاته.
«لقد درست الحياة الدنيوية طوال خمسة عشر عاماً. صحيح أني لم أر الأرض ولم أر الناس، ولكني، احتسيتُ في كتبك الخمر الزكي، وغنيت الأغاني. واقتنصت الغزلان والخنازير البرية في الغابات، وعشقت النساء... وزارتني الغيد الحسان اللواتي خلقهن سحر عبقرية شعرائك، كالغيوم اللطاف، في الليالي، وهمسن في مسمعي حكايات رائعة ترنح لها رأسي ترنُح الشارب الثمل. لقد تسلقت في كتبك قمة الجبل الأبيض، وشهدت من هناك كيف تبزغ الشمس في الصباح، وكيف تخضب السماء والمحيط وسلاسل الجبال عند المساء بخضاب من الأرجوان. رأيت الغابات الخضراء، والحقول، والأنهار، والبحيرات، والمدن. سمعت جنيات البحر تغني، وإله الرعاة يعزف على قيثارته... اجترحت العجائب، وأحرقت مدناً فلم أغادر منها أثراً، وبشرت بأديان جديدة، وفتحت جميع البلدان...
«لقد أعطتني كتبك الحكمة. وإن كل ما أبدعه الفكر الإنساني خلال العصور قد انتهى إلى أن يكون كتلة صغيرة مضغوطة في جمجمتي. أنا أعرف أنني أبرع منكم جميعاً.
«أنا أحتقر كتبكم. أحتقر الحكمة وجميع النعم الدنيوية. كل شيء باطل، متهافت، خادع، وهمي، كالسراب. فعلى الرغم من أنكم قد تكونون على كبرياء وحكمة وجمال فإن الموت يحصدكم فوق ظهر الأرض كما يحصد الفئران في بطنها.
«إنكم معتوهون، ضالوا السبيل. إنكم تحسبون الباطل والقبح جمالاً. إنكم لتعجبون إذا ما رأيتم أشجار التفاح والبرتقال وقد حملت، فجأة، ضفادع ويرابيع، وإذا ما أخذت الورود تتنفس بمثل ريح الحصان الناضح بالعرق... كذلك أعجب لكم أنتم الذين استبدلتم الأرض بالسماء: أنا لا أريد أن أفهمكم!
«ولكي أظهر لك عملياً احتقاري لذلك الذي تعيشون به، أتخلّى عن المليوني روبل التي حلمت بها يوماً كما يحلم امرؤ بالجنة، والتي أزدريها الآن. ولكي أحرم نفسي حقها في هذين المليونين سأخرج من هنا قبل خمس دقائق من الميقات المعين ، وبذلك أكون قد نقضت الاتفاق.»
لما قرأ صاحب المصرف هذا الكلام ألقى الورقة على المنضدة، وقبّل رأس الرجل الغريب، وأنشأ يبكى. ثم إنه غادر المكان وهو يحس في ذات نفسه احتقاراً لنفسه لم يعرف له ضريباً في وقت من الأوقات، حتى بعد خسائره الفظيعة في مضاربات البورصة. حتى إذا بلغ المنزل، استلقى على فراشه، ولكن الاضطراب والدموع حالت بينه وبين الرقاد فترة طويلة...
وفي صباح اليوم التالي جاءه الحارس المسكين يسعى، وأنبأه أنه رأى الرجل السجين يتسلق النافذة ويهبط الحديقة ثم يقصد إلى الباب ويختفي عن الأنظار. فما كان من صاحب المصرف إلا أن خرج مع خدمه إلى محبس المحامي وتحقق من هرب سجينه. ولكى يتلافى استطارة الإشاعات غير الضرورية تناول من على الطاولة صك التنازل ليضعه، بعد عودته إلى المنزل، في صندوقه الحديدي، ويغلق من دونه الباب...