المفاسد الناجمة عن إدخال المنطق اليونانيِّ في أصول الدين
ومِن المَفاسِدِ الناجمة عن إدخالِ كُتُبِ اليونان في أصول الدين أَنْ شوَّهَتِ العقيدةَ السليمة بلوازمَ فاسدةٍ فيها تكذيبٌ صريحٌ للقرآن وصحيحِ العقل:
•
كالقول بقِدَمِ العالَمِ لأنَّ الإله لم يسبق العالَمَ في الوجود الزمنيِّ وإن كان يسبقه في الوجود الفكريِّ مثلما تسبق المقدِّمةُ النتيجةَ في الوجود.
• ومِن أعظمِ إساءةِ الظنِّ بربِّ العالمين:
قَصْرُ علمِه سبحانه على الأمور الكُلِّيَّة دون الجزئية، ويبرِّرون إنكارَهم لعلمِ الله بالجزئيات بأنَّ الجزئياتِ في تغيُّرٍ وتجدُّدٍ؛ فلو تَعلَّق علمُ اللهِ بها لَلَزِمَه التغيُّرُ بتَغيُّر المعلومِ وتَجدُّدِه(
١٢).
• ومِن ضلالهم:
إنكارُ الصفات الثبوتية لله تعالى ووَصْفُه بالسُّلوبِ المحضةِ؛ لأنَّ الواحدَ لا يصدر عنه إلَّا واحدٌ؛ إذ لو صَدَرَ عنه اثنان لَكان ذلك مُخالِفًا للوحدة؛ وبذلك نَفَوْا أن يكون اللهُ فاعلًا مختارًا، ونَفَوُا الصفاتِ عن اللهِ تعالى فرارًا مِن تشبيهه بالنفوس الفَلَكيةِ أو الإنسانية، ثمَّ شبَّهوه بالجمادات؛ ﻓ «ضلالُهم ـ أي: الفلاسفة ـ في الإلهيات ظاهرٌ لأكثرِ الناس؛ ولهذا كفَّرهم فيها نُظَّارُ المسلمين قاطبةً»(
١٣).
• ومِن مَفاسِدِ اعتقادهم:
إنكارُهم للنُّبوَّات واعتبارُها أمرًا مُكْتَسَبًا تستعدُّ له النفوسُ بأنواع الرياضات، وليست النبوَّةُ ـ عندهم ـ هِبَةً مِن الله ومنَّتَه على بعض عباده.
• وكذا
الأخبارُ المتواتِرةُ عند المَناطِقةِ احتماليةُ الصدقِ ويختصُّ بها مَن عَلِمَها، ولا تكون حُجَّةً على غيره.
فهذا غيضٌ مِن فيضٍ ممَّا يسبِّبه المنطقُ الأرسطيُّ مِن تفريقِ كلمةِ المسلمين، وتَذَبْذُبِ معتقَدهم، وشَقِّ عَصَاهم، ونَبْذِ جماعتهم؛ فالاضطراب والشكُّ والنزاعُ والحيرة عالقٌ بأهل المنطق والمشتغِلين به؛ فلا يكاد يُوجَد اثنان منهم يتَّفِقان على مسألةٍ ما حتَّى تلك التي يُطْلِقون عليها اسْمَ «البَدَهيات» أو «اليقينيات»، وقد وَصَفَ ابنُ تيمية رحمه الله المُشْتغِلين بهذه الصناعةِ بقوله: «إنَّ مِن الخائضين في العلوم مِن أهلِ هذه الصناعةِ أَكْثَرَ الناسِ شكًّا واضطرابًا، وأَقَلَّهم علمًا وتحقيقًا، وأَبْعَدَهم عن تحقيقِ علمٍ موزونٍ، وإن كان فيهم مَن قد يحقِّقُ شيئًا مِن العلم فذلك لصحَّةِ المادَّةِ والأدلَّةِ التي ينظر فيها وصحَّةِ ذهنه وإدراكِه لا لأجلِ المنطق، بل إدخالُ صناعةِ المنطق في العلوم الصحيحة يُطوِّل العبارةَ ويُبَعِّد الإشارةَ، ويجعل القريبَ مِن العلم بعيدًا، واليسيرَ منه عسيرًا؛ ولهذا تجد مَن أَدْخَلَه في الخلافِ والكلامِ وأصولِ الفقه وغيرِ ذلك لم يُفِدْ إلَّا كَثْرَةَ الكلامِ والتشقيق، مع قلَّةِ العلم والتحقيق؛ فعُلِمَ أنه مِن أعظمِ حَشْوِ الكلام، وأَبْعَدِ الأشياء عن طريقةِ ذوي الأحلام»(
١٤)، قال أحَدُ بَطارِقةِ الروم: «فما دَخَلَتْ هذه العلومُ على دولةٍ شرعيةٍ إلَّا أَفْسَدَتْها وأَوْقَعَتْ بين علمائها»(
١٥).
آثار جناية المنطق على الإسلام وأهله
ومِن آثارِ جناية المنطقِ الأرسطيِّ على الإسلام وأهله: ضَعْفُ توقيرِ الكتاب والسنَّةِ في نفوس المُعْجَبين بعلمِ الكلامِ اغترارًا بالأدلَّة العقليةِ الموزونةِ بميزان المنطق، وتقديمُها على أدلَّةِ الشرع، ولم تَعُدْ لأدلَّةِ الوحيين قيمةٌ ذاتيةٌ إلَّا على وجهِ الاستئناس بها والمُعاضَدةِ للأدلَّة العقلية عند التوافق معها، أمَّا في حالةِ التعارض فإنَّ نصوص الوحيِ مِن الكتاب والسنَّةِ تُرَدُّ ردًّا كُلِّيًّا بإلغاءِ مدلولَيْهما وتأويلِهما على وجهٍ يتوافَقُ ـ في زعمهم ـ مع العقل المشفوع بالمنطق لقطعيَّتِه وظنِّيَّتِهما، والقطعيُّ لا يُعارِضه الظنِّيُّ ولا يُقاوِمه؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى الاستغناءِ عن نصوص الوحيين بآراء الرجال وأقيسة المَناطِقة وهرطقات الفلاسفة، وأَبْعَدَهم عن مقتضى وصيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمَّةِ بما يكفل لها النجاةَ والهدى إذا اعتصَمَتْ بالكتاب والسنَّة وتحاكَمَتْ إليهما في مَوارِدِ النزاع، وتباعدَتْ عن وجوه الضلالات والبِدَع، قال ابنُ تيمية رحمه الله: «فكان مِن الأصول المتَّفَقِ عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ: أنه لا يُقْبَل مِن أحَدٍ قطُّ أن يُعارِض القرآنَ لا برأيه ولا ذوقِه ولا معقولِه ولا قياسِه ولا وَجْدِه؛ فإنهم ثَبَتَ عنهم بالبراهين القطعيات والآياتِ البيِّنات أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودينِ الحقِّ، وأنَّ القرآن يهدي للتي هي أَقْوَمُ»(
١٦).
انتفاء حاجة العلوم إلى منطق اليونان
هذا، والمنطق نمطٌ فكريٌّ جانَسَ الفكرَ اليونانيَّ وتَلاءَمَ مع البيئة الفلسفية التي نَشَأَ فيها، وأهلُها مِن أهل الشرك والإلحاد. في تلك الحقبة مِن التاريخ كان الفكر اليونانيُّ يتوافق مع الفكرة المجرَّدة ويُناسِب الجدَلَ المثاليَّ، وهذا عِلْمٌ لا صِلَةَ له بالواقع، بل وجودُه في الذهن ليس إلَّا؛ لأنَّ المنطق يبحث في عالَمِ الكلِّيَّات ويتجاهلُ البحثَ في الجزئيات والأعيانِ المشخَّصة(
١٧)؛ لذلك لم يَعُدْ صالحًا بمُضِيِّ عهده وانتهاءِ أوانه، بل كان له الأثرُ الظاهرُ في تخلُّف اليونان عن رَكْبِ الحضارة والمدنية التي كان مُعْرِضًا عنها وعن العلومِ التطبيقية الواقعية، بانزوائه بالفكر والجهود العلمية إلى عالَمِ ما وراء الطبيعة؛ فكان ظهورُ التقدُّم العلميِّ والحضاريِّ بعد الثورة المزدوَجة على السلطة العلمية ـ ممثَّلةً في المنطق الأرسطيِّ ـ والسلطةِ الدينية ـ ممثَّلةً في رجال الكنيسة ـ(
١٨)؛ وعليه فإنَّ العلوم تقدَّمَتْ قبل المنطق والتعرُّفِ عليه وبعد انتهاءِ أوانه، وفي هذا المعنى يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: «لا تجد أحَدًا مِن أهلِ الأرض حقَّق علمًا مِن العلوم وصارَ إمامًا فيه مُسْتعِينًا بصناعةِ المنطق، لا مِن العلوم الدينية ولا غيرِها؛ فالأطِبَّاءُ والحُسَّابُ والكُتَّابُ ونحوُهم يحقِّقون ما يحقِّقون مِن علومهم وصناعاتهم بغيرِ صناعة المنطق، وقد صُنِّف في الإسلامِ علومُ النحوِ واللغةِ والعَروض، والفقهِ وأصوله والكلامِ وغيرِ ذلك، وليس في أئمَّةِ هذه الفنونِ مَن كان يلتفت إلى المنطق، بل عامَّتُهم كانوا قبل أن يُعَرَّب هذا المنطقُ اليونانيُّ»(
١٩)؛ لذلك كان فَرْضُه مُقدِّمةً لمُخْتَلَفِ العلوم ـ بما في ذلك العلوم الشرعية ـ مسلكًا عديمَ الفائدةِ كثيرَ المَفاسِد، ليس فيه إلَّا تضييعُ الأزمان، وإتعابُ الأذهان، وكثرةُ الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان.
وفي مَعْرِض الردِّ على كُتُبِ المنطق ومدى صحَّةِ قولِ مَن اشترطها في تحصيلِ العلوم، قال ابنُ تيمية رحمه الله: «...وأمَّا شرعًا فإنه مِن المعلومِ بالاضطرار مِن دينِ الإسلام أنَّ الله لم يُوجِبْ تَعلُّمَ هذا المنطقِ اليونانيِّ على أهلِ العلم والإيمان، وأمَّا هو في نَفْسِه فبَعْضُه حقٌّ وبعضُه باطلٌ، والحقُّ الذي فيه كثيرٌ منه أو أَكْثَرُه لا يُحتاج إليه، والقَدْرُ الذي يُحتاج إليه منه فأَكْثَرُ الفِطَرِ السليمةِ تَسْتَقِلُّ به، والبليدُ لا ينتفع به والذكيُّ لا يحتاج إليه، ومَضَرَّتُه على مَن لم يكن خبيرًا بعلومِ الأنبياءِ أَكْثَرُ مِن نَفْعِه؛ فإنَّ فيه مِن القواعد السَّلْبية الفاسدةِ ما راجَتْ على كثيرٍ مِن الفُضَلاءِ وكانَتْ سبَبَ نِفَاقهم وفسادِ علومهم، وقولُ مَن قال: «إنه كُلَّه حقٌّ» كلامٌ باطلٌ، بل في كلامِهم في الحَدِّ والصفاتِ الذاتية والعَرَضيةِ وأقسامِ القياس والبرهانِ ومَوادِّه مِن الفساد ما قد بيَّنَّاه في غيرِ هذا الموضعِ(
٢٠) وقد بيَّن ذلك علماءُ المسلمين(
٢١)»(
٢٢).
مقتطف من الكلمة الشهرية للشيخ فركوس حفظه الله بعنوان
الخلاصة المرضية
في التعريف بحقيقة المنطق الأرسطي
وأثرِ اختلاطه بالعلوم الشرعية
من موقع الشيخ حفظه الله