- إنضم
- 2 ماي 2022
- المشاركات
- 674
- الحلول
- 1
- نقاط التفاعل
- 2,075
- النقاط
- 56
- العمر
- 24
- محل الإقامة
- باتنة
- الجنس
- أنثى
وسط الكثير من الاوراق داخل الكتب القديمة، عثر الشرطي على جثة شاب ممدة على الأرض وبجانبها ورقة مطوية، فتحها وقرأ: "صباح الخير يا قارئ رسالتي أو مساء الأنوار، لا أعلم.. الأمر سيان بالنسبة لي. فمنذ خمسة وعشرين سنة، لم أعرف طعم الوقت ولا لذة الحياة.. رائحة السنوات لا تغريني وكذا صوت الدقائق على جدران ساعة البيت. لعلك تسأل من أكون؟ من يكون صاحب الجثة بقربك؟ لا تستغرب، أنا أيضا لا أعرف من أكون.. لا تظن أنني أتفلسف، فأنا فعلا لا أدري من أي رحم أتيت وأي دم يجري في عروقي.
ينعتونني "باللقيط" والبعض الآخر يناديني "بمجهول النسب"، وأفضل التسمية الثانية، فهي أقل ألما، أما الأولى فأحسها سهما قاتلا يخترق حدود قلبي. يقولون أن محترفات الدعارة لا ينجبن اللقطاء.. لأنهن لا يثقن بأحد، إنما اللقطاء هم أبناء لحظة ثقة. أنا ضحية ذنب لم أقترفه.. أنا ثمن ليلة عابرة.. أنا ثمرة علاقة لم ترقى لمستوى الحب.. أنا غباء مراهَقَة وانجراف نحو شهوة.. أنا وعد ذكر، فاته رَكْبُ الرجال ومشاعر أنثى خانت نفسها وثقة والدها.. أنا من كُتِبَ على جبيني الشقاء منذ أن أحسست أمي بنبضات قلبي وتركني أبي وراءه، على ضفاف الأسى والمعاناة.
ومن يدري لعل والداي تخليا عني لأسباب أخرى! لكن لا يهم، فالمجتمع يَأْبى أن يصدق.. ولست أكثر من شخص يُجْهَلُ نسبه. تركوني وحيدا، بعد ساعات من ولادتي، على رصيف مقهى. كان الشارع خاليا، إلا من بعض المتسولين والكلاب الضالة. سمع أحدهم صراخي ورمق شابة تركض إلى الجهة المقابلة، فحملني إلى مخفر الشرطة ومن ثم إلى ملجأ الأطفال. أطلقوا علي اسم "سعيد"، كي آخذ من اسمي ولو حظا قليلا، لكن الحياة أَرَتْنِي كل معانيها، إلا ذاك المكتوب على سجلي.
حُرِمْتُ دفء العائلة وحنانها، ذكريات طفولتي تتلخص في كلمتين: ظلم وبؤس، والحقيقة أن عمري كله يقبع بين هذه الحروف. لا أحد يتذكر متى ظهرت أول سن في فمي ولا أول خطوة ولا حتى أول كلمة نطقت.. كنت مجرد رقم لا أكثر بين مئات الأطفال المتخلى عنهم، وحدها الأم تعتني بتلك التفاصيل.. وأنا لم يكن لي أم! صنعتها في خيالي لتؤنس وحدتي، أغمض عيناي وأشم رائحتها وهي تداعب خصلات شعري وتغني لي ترنيمة ما قبل النوم. قلت يوما لأحد زملائي بالملجأ بعد أن سرق قطعة الخبز خاصتي أني سأشكوه لأمي، فضحك باستهزاء وبكيت أنا.. وبكى قلبي الجريح.
كان يزورني بين الفينة والأخرى ذلك الرجل .. نعم الرجل الذي وجدني على حافة الطريق. كنت أحبه.. أحبه كثيرا، لكن من فرط الألم لم أفكر يوما أن أعترف له بذلك، كنت أناديه "أبي"، كان ينزعج ويصرخ: "ليس لي أبناء!" لكن نظرات العطف كانت تملأ عينيه.. هو صلتي الوحيدة بماضي، في كل مرة،كنت أطلب منه أن يصف لي المرأة التي وضعتني في الشارع، أخبرني أنها كانت ترتدي فستانا أزرق وذات شعر مموج، لا شيء غير ذلك.
كلما رأيت سيدة بهذه المواصفات، إلا واهتز قلبي: لعلها أمي! أتردد يوميا على المكان الذي تركت فيه موطني، من يدري فقد يحاولون البحث عني! غريب أليس كذلك.. أن تسأل عمن اختار الابتعاد عنك؟ وعلى غفلة مني، مرت سنوات العمر وكبرت.. تغيرت ملامحي في المرآة، لكن السؤال الذي بداخلي لازال على حاله، ينهش صدري كلما ذكرني أحدهم أنني مجرد" لقيط".
قررت يوما أن أتقدم لخطبة فتاة أعجبت بها، حلمت بتكوين عائلة وإنشاء موطن تستقر فيه روحي ونفسي، كنت أوقن أن فاقد الشيء يعطيه.. ويعطيه بسخاء، لكن أحلامي تلاشت حين رد والدها قائلا: "عذرا، فأنت مجهول النسب". لست ألومه، فله كامل الحق في معرفة إلى أي أب سينتمي أحفاده. صعب أن تضيع آمالك، لكن ماذا أفعل هذا قدري! والحقيقة أني تعبت كثيرا.. تعبت من أن أتظاهر أني قوي أمام نفسي وأمام نظرة المجتمع.. تعبت من أن أضمد جراح الحياة لوحدي.
أعتذر إن أطلت عليك يا قارئ رسالتي، فليس لي أم تبكي حزنا على فراقي، ولا أب يغزو الشيب شعره ألما على فقداني. لكني سامحتهما.. نعم سامحتهما من كل قلبي، ودعوت الله دائما في سري أن يغفر لهما تلك الخطيئة..تلك الخطيئة التي هي أنا!
ولكم تمنيت أن أموت بين أحضانهما وأن أضمهما إلى صدري بقوة! لكن الزمن اختار أن يطوي حياتي بسرعة ويرميها في صندوق لن يتذكره أحد." أرجع الشرطي الرسالة إلى مكانها وقد أغرورقت عيناه بالدموع تأثرا، غطى جثة سعيد، ثم حرر محضرا بالواقعة: "انتحار مجهول".
ينعتونني "باللقيط" والبعض الآخر يناديني "بمجهول النسب"، وأفضل التسمية الثانية، فهي أقل ألما، أما الأولى فأحسها سهما قاتلا يخترق حدود قلبي. يقولون أن محترفات الدعارة لا ينجبن اللقطاء.. لأنهن لا يثقن بأحد، إنما اللقطاء هم أبناء لحظة ثقة. أنا ضحية ذنب لم أقترفه.. أنا ثمن ليلة عابرة.. أنا ثمرة علاقة لم ترقى لمستوى الحب.. أنا غباء مراهَقَة وانجراف نحو شهوة.. أنا وعد ذكر، فاته رَكْبُ الرجال ومشاعر أنثى خانت نفسها وثقة والدها.. أنا من كُتِبَ على جبيني الشقاء منذ أن أحسست أمي بنبضات قلبي وتركني أبي وراءه، على ضفاف الأسى والمعاناة.
ومن يدري لعل والداي تخليا عني لأسباب أخرى! لكن لا يهم، فالمجتمع يَأْبى أن يصدق.. ولست أكثر من شخص يُجْهَلُ نسبه. تركوني وحيدا، بعد ساعات من ولادتي، على رصيف مقهى. كان الشارع خاليا، إلا من بعض المتسولين والكلاب الضالة. سمع أحدهم صراخي ورمق شابة تركض إلى الجهة المقابلة، فحملني إلى مخفر الشرطة ومن ثم إلى ملجأ الأطفال. أطلقوا علي اسم "سعيد"، كي آخذ من اسمي ولو حظا قليلا، لكن الحياة أَرَتْنِي كل معانيها، إلا ذاك المكتوب على سجلي.
حُرِمْتُ دفء العائلة وحنانها، ذكريات طفولتي تتلخص في كلمتين: ظلم وبؤس، والحقيقة أن عمري كله يقبع بين هذه الحروف. لا أحد يتذكر متى ظهرت أول سن في فمي ولا أول خطوة ولا حتى أول كلمة نطقت.. كنت مجرد رقم لا أكثر بين مئات الأطفال المتخلى عنهم، وحدها الأم تعتني بتلك التفاصيل.. وأنا لم يكن لي أم! صنعتها في خيالي لتؤنس وحدتي، أغمض عيناي وأشم رائحتها وهي تداعب خصلات شعري وتغني لي ترنيمة ما قبل النوم. قلت يوما لأحد زملائي بالملجأ بعد أن سرق قطعة الخبز خاصتي أني سأشكوه لأمي، فضحك باستهزاء وبكيت أنا.. وبكى قلبي الجريح.
كان يزورني بين الفينة والأخرى ذلك الرجل .. نعم الرجل الذي وجدني على حافة الطريق. كنت أحبه.. أحبه كثيرا، لكن من فرط الألم لم أفكر يوما أن أعترف له بذلك، كنت أناديه "أبي"، كان ينزعج ويصرخ: "ليس لي أبناء!" لكن نظرات العطف كانت تملأ عينيه.. هو صلتي الوحيدة بماضي، في كل مرة،كنت أطلب منه أن يصف لي المرأة التي وضعتني في الشارع، أخبرني أنها كانت ترتدي فستانا أزرق وذات شعر مموج، لا شيء غير ذلك.
كلما رأيت سيدة بهذه المواصفات، إلا واهتز قلبي: لعلها أمي! أتردد يوميا على المكان الذي تركت فيه موطني، من يدري فقد يحاولون البحث عني! غريب أليس كذلك.. أن تسأل عمن اختار الابتعاد عنك؟ وعلى غفلة مني، مرت سنوات العمر وكبرت.. تغيرت ملامحي في المرآة، لكن السؤال الذي بداخلي لازال على حاله، ينهش صدري كلما ذكرني أحدهم أنني مجرد" لقيط".
قررت يوما أن أتقدم لخطبة فتاة أعجبت بها، حلمت بتكوين عائلة وإنشاء موطن تستقر فيه روحي ونفسي، كنت أوقن أن فاقد الشيء يعطيه.. ويعطيه بسخاء، لكن أحلامي تلاشت حين رد والدها قائلا: "عذرا، فأنت مجهول النسب". لست ألومه، فله كامل الحق في معرفة إلى أي أب سينتمي أحفاده. صعب أن تضيع آمالك، لكن ماذا أفعل هذا قدري! والحقيقة أني تعبت كثيرا.. تعبت من أن أتظاهر أني قوي أمام نفسي وأمام نظرة المجتمع.. تعبت من أن أضمد جراح الحياة لوحدي.
أعتذر إن أطلت عليك يا قارئ رسالتي، فليس لي أم تبكي حزنا على فراقي، ولا أب يغزو الشيب شعره ألما على فقداني. لكني سامحتهما.. نعم سامحتهما من كل قلبي، ودعوت الله دائما في سري أن يغفر لهما تلك الخطيئة..تلك الخطيئة التي هي أنا!
ولكم تمنيت أن أموت بين أحضانهما وأن أضمهما إلى صدري بقوة! لكن الزمن اختار أن يطوي حياتي بسرعة ويرميها في صندوق لن يتذكره أحد." أرجع الشرطي الرسالة إلى مكانها وقد أغرورقت عيناه بالدموع تأثرا، غطى جثة سعيد، ثم حرر محضرا بالواقعة: "انتحار مجهول".