كان أبي من بين المهاجرين الأوائل نحو أوروبا (1963) بحثا عن لقمة العيش وما يكفل به حياة كريمة لعائلته التي أودعها الله بعد معاناة كأغلب الجزائريين سجن و تعذيب ومغرم وتضييق من الحركى وعسكر فرانسا ومعيشة مقفرة صعبة سنوات الاحتلال و حتى مشارف الاستقلال لا شيء واضح لا فرق سوى في الملامح القافز احتال على الجايح و الأحرار ورثوا الدمار والحركى ورثوا الاستعمار.
المهم
عاد شيخا أنهكته رطوبة ومشقة العمل في المناجم والبنايات و أعياه حفر الأنفاق و سحق صقيع وثلج أوروبا المسعور من على الطرقات البرد القارص لايرحم عربيا تربى بين كثبان الرمال الدافئة الوحدة والوحشة تضحية لا يستطيعها سوى الآباء ، يعود أبي أخيرا في ( 1994) ليجد ذلك الولد قد صار كهلا وأحدثهم سنا شابا يافعا وبينهما سبعة آخرون يرعاهم وراء حجب حجب وأسوار التغرب والبعد والعزلة عاش أبي مناضلا مكافحا قبل وبعد الاحتلال ولم يفكر لحظة في الاستسلام أو الكف عن التضحية حتى وافته المنية بعد ست سنوات لم تكن صبورة .
المواجهة الوحيدة التي لم يقاوم فيها هذه المرة استسلم للقدر واستقبل بالشهادة خاتمة الأجل.
كنت أراقبه برهبة من بين الجمع المحيط به جاره المقرّب ، أخوه، أخته ، أبنائه زوجته التائهة في الذكريات والحاضر والمستقبل ،، الكل متمسك به حتى الملائكة حتى أنا استسلمت بانزعاج وخشوع لهذا الموقف الجلل الحركات تتوقف الأنفاس تسكن الأحزان تحاصر المكان كل المشاعر والمواجع كانت تزدحم في صدري الضيق ،، الشوق ،، الحرمان ،،الرغبة ،، الخوف ،، الذكريات ،، الأمل ،، الأجل ،، السفر ،، العودة ،، الزمن ،، الوحشة ،، الغضب ،، الفرصة ،، الخيبة ،، العجز ،، الوعي ،، التيه ،، أسئلة عالقة أجوبة منقوصة ، النهاية التي لم تبدئ والبداية التي لم تنتهي ، الخطابات التي لم أسمعها ، الاسئلة التي لم أطرحها ، الزمن الذي لم يكن منصفا ، الذكريات التي لم تكن ، الفرص التي اكتملت ولمّا تحن ، الانتظار الذي بقي عالقا في اللاأمل ، الشوق الذي لم يمت في الاحضان، الصور المشوشة الابيض الضبابي الاسود المعتم ، الاحداث الباهتة المواعيد التي لم تحن ، الذهاب والإياب الفراغ المختفي بينهما، الصمت المطبق على الحكايات ، الرسائل بلا كلمات ، الطفولة المبتورة الشباب وحتى الكهولة كل شيء مبتور حين لا يكون للأب وجود حتى الذكريات لم تعد تتشكّل أو ربما لم يكن لها شكل من الأساس.
حين يأتي الأجل لانملك سوى الصمت في حضرته.
رحم الله موتى الجميع وأسكنهم فسيح جناته.