بورقيبة .. الحاكم عندما يصدق نفسه!

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
بورقيبة .. الحاكم عندما يصدق نفسه!​
صلاح الدين الجورشي​
يتفق المؤرخون والعارفون بالشؤون التونسية أن الزعيم الحبيب بورقيبة، بقدر الإنجازات التي حقَّقها طيلة مسيرته السياسية بدءاً من قيادته للحركة الوطنية، ووصولاً إلى تأسيس الدولة وتنظيم المجتمع على أسس حديثة، فإنه قد خاض في المقابل معارك فاشلة، ووسع تدريجيًّا دائرة خصومه حتى أنه لم يجد من يدافع عنه يوم أن تَمَّ إبعاده عن الحكم في نوفمبر 1987م.
إن الذين جرَّدوه من كل حسنة، ولم يروا فيه سوى الحاكم المستبد والمتغرب والمعادي للدِّيْن، يظلموه ويجانبوا الموضوعية والصَّواب، ويعجزون بالتالي عن تفسير الحب والتقدير اللَّذَيْن شيَّع بهما الكثير من التونسيين زعيمهم التاريخي، وكذلك يخطأ المدافعون عنه الذين وصفوه بالقائد الشعبي والسياسي المحنك والمصلح العقلاني، وتغاضوا عن أخطائه وانحرافاته ومظالمه ومسؤوليته التاريخية في ****ل النمو السياسي والاقتصادي والثقافي للبلاد.
إن الواقعية والنزاهة تقتضيان القول بأن بورقيبة من الشخصيات التاريخية التي لعبت دورًا خطيرًا، وشخصيته السياسية لها وجهان: وجه إيجابي وآخر سلبي.
إن استبداد بورقيبة وأبوته المتسلطة على الح** والنخبة والمجتمع جعلاه يتجاوز الخطوط الحمراء، لقد ظن أن سيطرته الأدبية والسياسية على المجتمع تسمح له بأن يُؤَوِّل ثوابت الإسلام حسبما تقتضيه مصالح الحكم، هكذا صدر شعور التونسيين عندما أمرهم بعدم صيام شهر رمضان بحجة أن التنمية الاقتصادية هي بمثابة "الجهاد الأكبر"، وبما أنه ولي أمرهم أفطر أمامهم في حركة استعراضية، لقد أحدث ذلك رَجَّة قوية في تونس وفي العالم الإسلامي، مما أفقده ثقة قطاعات واسعة من التونسيين، وجلب عليه تهمة الكفر والمروق من الدين.
من جهة أخرى، تصاعدت المعارضات اليسارية خلال النصف الثاني من الستينيات، واكتسحت الجامعات كمؤشر على قيام فجوة بين بورقيبة وبين الشباب والمثقفين، وهي فجوة ازدادت عمقًا مع مرور الأيام، كما تصدَّعَت بنية الح** الحاكم بعد خروج أكثر من مجموعة شَكَّلت أحزابًا معارضة مستقلة، وهكذا بدأ الح** الدستوري يتصدع ويتراجع منذ مطلع السبعينات.
ثم كانت معركة بورقيبة الأخيرة مع الإسلاميين، وهي معركة استمرت قرابة عشر سنوات، واكتسبت أبعادًا ثقافية وعقائدية وسياسية، إن ظهور وصعود الحركة الإسلامية ذكَّرَتْه بصراع قديم خاصة مع التيار الزيتوني (المنتسب لجامعة الزيتونة الإسلامية)؛ لهذا حاول اجتثاث هذه الحركة منذ أن تَمَّ اكتشاف تنظيمها، لكنها مع كل مطاردة ومحاكمة كانت تكتسب مزيدًا من الحضور والأهمية، وفي المقابل يزداد النظام ارتباكًا وضعفًا، ولاشك في أن أهم معركة خسرها بورقيبة كانت معركته مع الإسلاميين الذين كانوا قطب الرحى في انهياره وسقوطه محليًّا ودوليًّا.
أدرك بورقيبة منذ عودته من فرنسا في أواخر العشرينات أن الحركة الشيوعية غير قادرة على تعبئة الشعب التونسي أو الدفاع عن سيادته وطموحاته؛ لهذا انخرط في صفوف الح** الحر الدستوري الذي أسسه الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، لكنه سرعان ما اكتشف مع رفاقه أن الح** في حاجة إلى مراجعة وسائل عمله واستراتيجيته النضالية. بعد الانشقاق، راهن بورقيبة على ما كان يسميه الاتصال المباشر بالجماهير، ونجح في امتلاك المبادرة، حيث تمَكَّن الدستوريون "الجدد" من بناء ح** واسع وشعبي ومنضبط، وكانت خطته التصعيد المحسوب ضد فرنسا دون قطع شعرة معاوية معها، واعتبر أن المفاوضات السياسية هي الطريق الوحيد لاستقلال البلاد؛ لهذا لم يلجأ إلى الكفاح المسلح إلا في فترة وجيزة، وختم الأمر بقبوله الاستقلال الداخلي الذي رأى فيه منافسه داخل الح** وخصمه صالح بن يوسف خطوة إلى الوراء، لكن بورقيبة تمَكَّن في فترة وجيزة أن يُحَوِّل معركته الداخلية إلى انتصار تاريخي بتحقيق الاستقلال التام يوم 20 مارس 1956م.
أظهر بورقيبة شراسة شديدة في مواجهة خصومة السياسيين حتى لو كانوا رفاقه في الكفاح، لقد استغَلَّ تأسيسه للدولة واحتكاره لها؛ ليُجْهِزَ على المؤسسة الزيتونية الإسلامية رغم ضعفها، ويطارد من عُرِفُوا باليوسفيين الذين وقفوا مع الكاتب العام للح** صالح بن يوسف، فقتل العديد منهم، واعتقل الآلاف، ولم يُغْلِق هذا الملف إلا بعد اغتيال زعيمهم اللاجئ بألمانيا. كما استغل محاولة الانقلاب التي استهدفته عام 1961م؛ ليجمد الح** الشيوعي، ويعطل كل الصحف المعارضة والمستقلة، ويلغي الحريات الأساسية، ويقيم نظام الح** الواحد، مستعينًا في ذلك بالاتحاد العام التونسي للشغل الذي تحالف مع الح** الدستوري إلى درجة قبول التدخل في شؤونه وفرض الوصاية عليه وعلى قيادته. ومع تبني "الاشتراكية" في الستينات، غاب المجتمع المدني، وهيمنت على البلاد أحادية في التسيير وفي التفكير وفي الإعلام وفي التنظيم.
في المقابل برزت تونس كدولة حداثية، لفتت أنظار العالم بما تمتعت به نساؤها من حريات استثنائية في العالم الإسلامي، كما راهن بورقيبة على التعليم، حيث أصبحت وزارة التربية تتمتع بأضخم ميزانية مقارنة ببقية الوزارات، هذا الرهان جعل تونس تمتلك منذ وقت مبكر نخبة فنية متخصصة جيدة، كما وضع بورقيبة ثِقَلَه لإنجاح خطة تنظيم الأسرة والنسل، ورغم الجدل والمقاومة السلبية، إلا أن ذلك مَكَّن الدولة من التحكم في النمو الديمغرافي.
من جهة أخرى اعتمد بورقيبة كثيرًا على تدعيم الطبقة الوسطى من خلال وضع سياسة اجتماعية فعالة وشعبية خاصة في مجالات الأجور والصحة والخدمات والتعليم المجاني.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد تحالف بورقيبة مع الغرب دون أن يدخل في نزاع مع الاتحاد السوفييتي، وبنى علاقات جيدة مع الأنظمة الملكية والخليجية رغم الحملة الشرسة التي قادها ضد النظام الملكي في تونس ورموزه. لم يُعَظِّم الخطاب القومي العربي، خاصة في نسخته الناصرية. وشهدت علاقاته مع عبدالناصر توترات مستمرة، حيث اختلف معه في الخطاب والأيديولوجيا ومواقف من قضايا جوهرية، مثل: الوحدة والقومية وفلسطين، كما كان حذرًا من ح** البعث، وحال دون امتداداته التنظيمية داخل تونس، ثم تجدد صراعه مع القذافي، ورأى فيه شابًّا "مُتَهوِّرًا" في السياسة، وكان يخشى أن تُطَوَّق تونس بتحالف ليبي-جزائري؛ لهذا وثق علاقاته مع فرنسا والولايات المتحدة، وعندما تسربت مجموعة معارضة مسلحة ذات توجه ناصري.. ومدعومة من الجزائر، وسيطرت على مدينة "قفصة" في يناير 1980م، استنجد بباريس وواشنطن اللذين قدما له مساعدات عسكرية ولوجستيكية، مكَّنَت النظام التونسي من إنهاء التمرد بأقل التكاليف.
كذلك كانت علاقته مزدوجة بالفلسطينيين الذين هاجموه بعد أن صار أول حاكم عربي يدعو إلى الاعتراف بقرار تقسيم فلسطين ومن ثم الاعتراف بإسرائيل، ثم قبل بورقيبة استضافة قيادات ومقاتلي منظمة التحرير بعد خروجهم من بيروت. كان لا يثق كثيرًا في قدرات ياسر عرفات، ويتهمه بالتقلب، لكن زوجة بورقيبة "وسيلة بنت عمار" لعبت دورًا مهمًّا في توثيق علاقاته بقيادات منظمة التحرير، وفي كل هذه المحطات، كانت تونس تبرز متميزة على الصعيدين العربي والدولي، حتى بدت شخصية بورقيبة أكبر من الحجم الجغرافي لتونس.
pic1.jpg
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top