صلاح شحادة القلب الذي حوى العالم
15/08/2002
إعتدال قنيطة - فلسطين - الجيل للصحافة
"لم يَدَع جنود الاحتلال شعرة في ذقني أو صدري إلا نتفوها، حتى شككت أنه يكن أن تنبت لي لحية مرة أخرى، واقتلعوا أظافر قدمي ويدي، ولكني والله ما شعرت بألم، ولم أتفوَّه بآهة واحدة.. فقد كنت أردد القرآن".. هكذا قال صلاح شحادة راويًا لزوجته ما حدث معه في المعتقلات الصهيونية.
إنه الرجل الذي أسس كتائب القسام، وابتكر اقتحام المستوطنات، وطور السلاح، بدءًا من الهاون والمضادات للدبابات، ثم القذائف والصواريخ، حتى أصبح المطارَد رقم "1" لجيش الاحتلال، وكان قد أشرف على اغتياله رئيس وزراء الكيان الصهيوني؛ ليكون بحق "رجل تحاربه دولة"؛ فيلقى ربه شهيدا في أبشع جرائم جيش الاحتلال الصهيوني في مدينة غزة في مذبحة راح ضحيتها 15 شهيدا، معظمهم من النساء والأطفال بتاريخ 13-7-2002 بعد حياة عسكرية وجهادية استمرت قرابة عشرين عاما.
الطفل الرجل
وُلِد شحادة 4-2-1953 في قرية "بيت حانون" شمال قطاع غزة، وكان الابن الأول الذي رُزق به والده "مصطفى شحادة" بعد 8 بنات، 6 منهن توفاهن الله، ونشأ بين والديه يغدقان عليه حنانهما، ويخافان أن تجرح نسمة الهواء خديه، إلا أنهما غرسا الرجولة فيه منذ نعومة أظافره.
تروي شقيقته سميرة -53 عاما-: "عندما تزوجت شقيقتي الكبرى أصر والدي أن يصحب صلاح أخته إلى بيت زوجها نيابة عنه، رغم أنه لم يكن قد تجاوز 5 سنوات بعد. وفي الأعياد كان أبي يعطيه الأموال ليعيّدنا يوم العيد، وكأنه شاب كبير؛ فمنذ صغره ووالدي وجميع أفراد الأسرة يتعاملون معه على أنه رجل ومسئول".
وتضيف شقيقته: كان لصلاح منذ صغره شعر ناعم ووسامة بادية، وكان يولي اهتمامًا بمظهره، وتميز بهذا بين جميع أطفال القرية؛ وهو ما جعله موضع حسدهم، فأراد أحد الشبان -وكان يكبره بـ5 سنوات- الانتقام منه، فجمع 6 أطفال، وترصدوا بصلاح إلا أن صلاح صرعهم جميعا!
"لطمني على وجهي وحملني للمنزل -هكذا تروي شقيقته-، والسبب أنني ذهبت إلى المدرسة -وأنا في الصف الثاني الثانوي- مكتحلة، فنهاني، ولكني لم أرتجع، وكانت المرة الوحيدة التي ضربني بها"، وتتذكر والدموع تغالبها: "وقعت على الأرض مغشيا علي من شدة صفعته، فحملني على كتفه وأعادني إلى المنزل".
الشبل الذي يؤوي المطارَدين
ما كاد القائد شحادة يتجاوز 15 عاما حتى بدأ يؤوي المطاردين في بيارات القرية، ويزودهم بالأكل والشراب خفية عن والده الذي كان يخشى أن يخوض ابنه غمار المقاومة؛ حتى لا يفقده، وهو الذي انتظر قدومه 15 عاما تقريبا، ففضل والد شحادة أن ينجو بطفله صلاح بأن ينتقل بأسرته إلى مخيم الشاطئ، الذي وجد فيه الشبل صلاح ضالته؛ فالتحق بالمسجد ليستمع إلى دروس الشيخ المجاهد "أحمد ياسين"، ويترعرع على يديه، وليتعانق في قلبه حب الوطن بالإسلام.
وعندما لم يجد الأب من سبيل لصد ابنه عن طريق الجهاد أعاده إلى قرية بيت حانون ثانية، ومن ثم أصر والده على أن يلحقه بجامعة الإسكندرية ليبعده عن هذا الطريق، ولكن صلاح تعرف في الإسكندرية على مجموعة كبيرة من الشبان الفلسطينيين من حركة "الإخوان المسلمين"، وخاصة الدكتور "أحمد الملح" لتبدأ الحياة الجهادية للقائد شحادة.
قسم الأحرار.. مقاومة للأبد
"أخاف عندما أصافح أحدا أن أكسر يده وأنا لا أشعر".. هكذا كان الشهيد يقول في وجل، كان يجيد لعبة الجودو، وحصل على الحزام الأسود. وفور عودته من الإسكندرية عمل في مديرية الشئون الاجتماعية.. أعلن المدير الصهيوني أن كل موظف يخرج في جنازة المدير السابق سيعطيه دونمًا من الأرض، لكن شحادة حرّض جميع العاملين على عدم الخروج، وفور علْم المدير بأمره عاقبه.. فما كان من شحادة إلا أن قدم استقالته، وقال: "الرزق على الله، ولن أركع أو أخضع يوما لكم".
تعرض عام 1984 لأول عملية اعتقال على يد المخابرات الإسرائيلية لمدة عامين بتهمة الانضمام لحركة "الإخوان المسلمين"، وما كاد يخرج من المعتقل حتى أعيد إليه عام 1989 بتهمة قيادة العمل العسكري، ولكن لم تستطع كل أساليب التعذيب أن تحصل على اعتراف واحد من القائد صلاح.
استمر التحقيق معه لمدة عام متواصل دون أن تظفر المخابرات منه بأدنى اعتراف؛ لذلك حُكم عليه بالاعتقال لمدة عشرة أعوام وغرامة مالية رفض القائد دفعها ليقضي حكما بالسجن الإداري عقب الغرامة ستة أشهر ليصل إجمالي ما قضاه في السجن عشرين شهرا وعشر سنوات. وأقسم شحادة فور خروجه أن يواصل العمل العسكري، وفي الاعتقال الأول استطاع أن يحمل كبسولة العمل (قصاصة ورق مكتوب عليها رسائل القادة في السجن) إلى قيادة الحركة في الخارج، وكذلك في معتقله الأخير.
يوم في المعتقل يمر كساعة واحدة
مكث خلف قضبان الاحتلال 14 عاما، عرف خلالها أنه كان يخطط ليومه ليستفيد من كل دقيقة به، وعلى عكس الجميع كان يقول: "يوم في الزنازين كساعة خارجه".. فبعد صلاة الفجر يراجع ما حفظ من القرآن والأذكار، ثم يرتدي ملابس الرياضة، ويحث إخوانه على مشاركته في ألعاب الرياضة التي تستمر لمدة ساعة تقريبا؛ باعتباره المسؤول عن طابور الصباح، ويشترك معه العديد من الشبان المعتقلين من كافة التنظيمات، ويتذكر د. عبد العزيز الرنتيسي: "قضيت مع شحادة أحلى سنوات عمري داخل السجن عام 1988، ثم التقيت به ثانية في عام 1995، وكان شحادة الخطيب في المعتقل والمسؤول عن تدريب الشبان في طابور الصباح.. كان يمارس معهم رياضة قاسية حتى إن إدارة السجن شكته عدة مرات، وادعت أنه يدربهم تدريبات عسكرية".
وبعد الفورة (الاستراحة) يبدأ شحادة بتغذية المعتقلين ثقافيا في درس الصباح الذي يحضره جميع المعتقلين، بينما كان يؤثر مجموعة من إخوانه الذين قرأ في شخصياتهم الجرأة والقيادة في دروس خاصة عن موضوع "الصحة النفسية".
وإن لكم في "مشاهدة الأفلام البوليسية" لأجرا
أما باقي النهار فكان شحادة يقضيه في مطالعة الكتب الغنية بها مكتبته داخل المعتقل، التي تشمل كافة التخصصات من طب واجتماع وعلم نفس، بالإضافة إلى الكتب الإسلامية، وفي ساعات المساء يستمع إلى نشرة الأخبار، ثم يعقد جلسة ثقافية أخرى لمناقشة المعتقلين حول آخر تطورات الساحة السياسية، ثم يعود لمشاهدة البرامج السياسية أو الأفلام البوليسية والأمنية، وخاصة البريطانية منها، ويدون ملاحظاته عليها، وكان يجمع إخوانه، ويدربهم على تدوين ملاحظاتهم حتى ينمي حدسهم، ويزيد قدرتهم على تحليل الأحداث.
والدة سعدون تبكي.. لا يهم فأمهاتنا بكين كثيرا
"أعدتها إلى منزلها تبكي" بهذه الجملة كان يلخص شحادة قصته مع والدة الجندي الصهيوني "أيلون سعدون" التي كانت تتردد كثيرًا على صلاح ليخبرها عن مكان جثة ولدها، ويؤكد صديقه "محمد" كان يرد عليها بلطف وأدب شديد "دعي مخابراتكم التي تدعي أنها لا تقهر لتخبرك عن مكانه".
ويُشار إلى أن الجندي سعدون قُتل في عام 1989؛ حيث استطاعت الخلية العسكرية التي يرأسها شحادة خطف جنديين وقتلهما وإخفاء جثة أحدهما، وكان قد أدار عملية الخطف من داخل المعتقل، ويحكي شحادة أنه "في هذه المرة أشرف على تعذيبي إسحاق مردخاي، وأخذ يقول لي: "أنت رجل عسكري مثلي مر جنودك أن يسلموا جثة سعدون"، فسألته: هل سلم المجاهدون سلاحه؟ وعندما رد علي بالإيجاب قلت له: من الخطأ أن يفعلوا؛ فطلقة رصاص واحدة أفضل عندنا من جندي منكم؛ لأننا بالطلقة سنقتل جنديا آخر".
شهادة من القائد والأب أحمد ياسين
"نعم القائد والجندي".. بهذه الجملة وصف الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس القائد شحادة، ويضيف: "منذ أن بايع شحادة حركة الإخوان المسلمين في عام 1982 أصبح مسئولا عن شمال قطاع غزة؛ لما تميز به من حب للعمل، واستعداد للتضحية من أجله، بالإضافة إلى شخصيته القيادية والاجتماعية والإدارية".
وأكد ياسين أن شحادة تولى مسئولية الجناح العسكري لحماس عام 1988. ويضيف
ياسين: "نجح شحادة خلال عامين في بناء الجهاز العسكري لكتائب القسام، ونجح من خلال عمله المؤسساتي أن يجد له تلاميذ في الميدان يتولون القيام بمهمته فور غيابه".
أما الرنتيسي فيشهد: "لقد استطاع شحادة أن يحقق من الإنجازات ما عجز الكثير عن فعله في سنوات عديدة؛ نجح في تطوير الجهاز العسكري لحركة حماس كمًّا وكيفًا، مدّ الجهاز بأعداد كبيرة من الشبان، وقام بتدربهم وتجهيزهم، وتطوير الصناعة العسكرية المتواضعة خلال عامين.. بدءا بالهاون ثم الصواريخ مثل القاذفات ومضادات الدبابات، كما يعود لشحادة فضل الإبداع في التخطيط لاقتحام المستوطنات، والانطلاق بالجهاز العسكري من قيود السرية التي تكبل الحركة".
ويعتقد الرنتيسي أن استشهاد القائد شحادة ترك فراغًا كبيرًا في الحركة، لكنه كان مميزا بإعطائه الشباب فرصة الإبداع وخوض التجربة؛ وهذا ما سيجعل الجهاز يتقدم في الأيام القادمة.
للعمل الخيري نصيب في حياته
لم ينسَ القائد شحادة قضية الأسرى، ولم يغفل عنها يوما.. فبعد خروجه من السجن سعى إلى بثّ الحياة من جديد في جمعية النور، وتقديم الخدمات لأهالي الأسرى، والإشراف على شئون الأسرى داخل المعتقلات.
يُذكر أن جمعية النور أُسست في عام 1996، وسعى القائد شحادة إلى وضع برنامج يتناسب مع احتياجات ذوي الأَسرى، وتعيين باحثات اجتماعيات لمتابعة شئون الأطفال وزوجات الأسرى وتوعيتهم بأمور دينهم، وتنظيم أنشطة ثقافية وترفيهية لهم عبر المخيمات والرحلات والحفلات، بالإضافة إلى متابعة شئون أهالي الشهداء، وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم.
صحابي هذا الزمان
"عشت شهرين في عصر الصحابة".. هكذا وصفت "ماجدة قنيطة" زوج شحادة الثانية حياتها الزوجية معه (تفاصيل أكثر)، مشيرة إلى أنه كان دائما يضع مخافة الله أمام عينيه، وكأنه يمشي على الصراط، وكأن الجنة والنار ماثلتان أمامه، يفتش على نيته قبل أن يخطو خطوة، لا تغفو عينه إلا بعد الساعة السابعة صباحا، ينام ساعتين أو ثلاثا تقريبا، ثم يجلس في مكتبه يستقبل المكالمات، ويرد على الرسائل التي كانت تأتي إليه بكثرة من الشبان عاشقي الشهادة، أو رسائل إدارية تخص الجهاز، وإذا شعر بالتعب أخذ يسلي زوجه، ويجاذبها أطراف الحديث عن ماضيه.
أما أهم صفة تعلمتها منه فقالت ماجدة: تعلمت منه التواضع، وامتلاك الأعصاب الهادئة، والتصرف في الأمور بحكمة، وكان يقول لي: القائد يجب أن يكون هادئ الأعصاب لا ينفعل؛ ففي السجن "كان الوقت يمر ببطء، كنت في زنزانة عتمة، طولها أقصر مني، وعرضها لا يكفي لأنام، وظلامها لا أرى منه يدي، ورائحتها كريهة.. في الشتاء أبرد من الثلج، وفي الصيف رطوبة قاسية لا أعرف فيها الليل من النهار، ومع ذلك عشت لم أشعر فيها بأي ألم، وأقلمت معها حياتي، ومكثت فيها أشهرًا عدة".
وأضافت: "كان حقا صحابيا في القرن الحادي والعشرين، لقد كان أمة تفيض بالحب والتسامح.. فقد كان يقول: "يجب أن نربي الأجيال القادمة على الحب والتواضع"، كان شعاره "أحب أن ألقى ربي وليس في كتابي مظلمة لأحد.. أريد أن أفوز بالجنان ورضى الرحمن"، كما كان يمتلك سحرا عجيبا في أَسْر القلوب بنظرة واحدة منه، وفرض احترامه على العدو قبل الصديق.
عيون لم تألف النوم.. جسد لم ينعم بالراحة.. قلب لم يذُق طعم الخوف.. ثغر باسم عن رضا.. عقل هائج لا يتوقف عن الفكر.. وقبضة من حديد.. هذه بعض جوانب شخصية الشهيد "صلاح شحادة"، ولا يمكننا رصد جميع هذه الجوانب؛ إذ الرجل لا يزال يكتشف بعد سياج رهيب من السرية نسجه حول نفسه بعناية.
15/08/2002
إعتدال قنيطة - فلسطين - الجيل للصحافة
"لم يَدَع جنود الاحتلال شعرة في ذقني أو صدري إلا نتفوها، حتى شككت أنه يكن أن تنبت لي لحية مرة أخرى، واقتلعوا أظافر قدمي ويدي، ولكني والله ما شعرت بألم، ولم أتفوَّه بآهة واحدة.. فقد كنت أردد القرآن".. هكذا قال صلاح شحادة راويًا لزوجته ما حدث معه في المعتقلات الصهيونية.
إنه الرجل الذي أسس كتائب القسام، وابتكر اقتحام المستوطنات، وطور السلاح، بدءًا من الهاون والمضادات للدبابات، ثم القذائف والصواريخ، حتى أصبح المطارَد رقم "1" لجيش الاحتلال، وكان قد أشرف على اغتياله رئيس وزراء الكيان الصهيوني؛ ليكون بحق "رجل تحاربه دولة"؛ فيلقى ربه شهيدا في أبشع جرائم جيش الاحتلال الصهيوني في مدينة غزة في مذبحة راح ضحيتها 15 شهيدا، معظمهم من النساء والأطفال بتاريخ 13-7-2002 بعد حياة عسكرية وجهادية استمرت قرابة عشرين عاما.
الطفل الرجل
وُلِد شحادة 4-2-1953 في قرية "بيت حانون" شمال قطاع غزة، وكان الابن الأول الذي رُزق به والده "مصطفى شحادة" بعد 8 بنات، 6 منهن توفاهن الله، ونشأ بين والديه يغدقان عليه حنانهما، ويخافان أن تجرح نسمة الهواء خديه، إلا أنهما غرسا الرجولة فيه منذ نعومة أظافره.
تروي شقيقته سميرة -53 عاما-: "عندما تزوجت شقيقتي الكبرى أصر والدي أن يصحب صلاح أخته إلى بيت زوجها نيابة عنه، رغم أنه لم يكن قد تجاوز 5 سنوات بعد. وفي الأعياد كان أبي يعطيه الأموال ليعيّدنا يوم العيد، وكأنه شاب كبير؛ فمنذ صغره ووالدي وجميع أفراد الأسرة يتعاملون معه على أنه رجل ومسئول".
وتضيف شقيقته: كان لصلاح منذ صغره شعر ناعم ووسامة بادية، وكان يولي اهتمامًا بمظهره، وتميز بهذا بين جميع أطفال القرية؛ وهو ما جعله موضع حسدهم، فأراد أحد الشبان -وكان يكبره بـ5 سنوات- الانتقام منه، فجمع 6 أطفال، وترصدوا بصلاح إلا أن صلاح صرعهم جميعا!
"لطمني على وجهي وحملني للمنزل -هكذا تروي شقيقته-، والسبب أنني ذهبت إلى المدرسة -وأنا في الصف الثاني الثانوي- مكتحلة، فنهاني، ولكني لم أرتجع، وكانت المرة الوحيدة التي ضربني بها"، وتتذكر والدموع تغالبها: "وقعت على الأرض مغشيا علي من شدة صفعته، فحملني على كتفه وأعادني إلى المنزل".
الشبل الذي يؤوي المطارَدين
ما كاد القائد شحادة يتجاوز 15 عاما حتى بدأ يؤوي المطاردين في بيارات القرية، ويزودهم بالأكل والشراب خفية عن والده الذي كان يخشى أن يخوض ابنه غمار المقاومة؛ حتى لا يفقده، وهو الذي انتظر قدومه 15 عاما تقريبا، ففضل والد شحادة أن ينجو بطفله صلاح بأن ينتقل بأسرته إلى مخيم الشاطئ، الذي وجد فيه الشبل صلاح ضالته؛ فالتحق بالمسجد ليستمع إلى دروس الشيخ المجاهد "أحمد ياسين"، ويترعرع على يديه، وليتعانق في قلبه حب الوطن بالإسلام.
وعندما لم يجد الأب من سبيل لصد ابنه عن طريق الجهاد أعاده إلى قرية بيت حانون ثانية، ومن ثم أصر والده على أن يلحقه بجامعة الإسكندرية ليبعده عن هذا الطريق، ولكن صلاح تعرف في الإسكندرية على مجموعة كبيرة من الشبان الفلسطينيين من حركة "الإخوان المسلمين"، وخاصة الدكتور "أحمد الملح" لتبدأ الحياة الجهادية للقائد شحادة.
قسم الأحرار.. مقاومة للأبد
"أخاف عندما أصافح أحدا أن أكسر يده وأنا لا أشعر".. هكذا كان الشهيد يقول في وجل، كان يجيد لعبة الجودو، وحصل على الحزام الأسود. وفور عودته من الإسكندرية عمل في مديرية الشئون الاجتماعية.. أعلن المدير الصهيوني أن كل موظف يخرج في جنازة المدير السابق سيعطيه دونمًا من الأرض، لكن شحادة حرّض جميع العاملين على عدم الخروج، وفور علْم المدير بأمره عاقبه.. فما كان من شحادة إلا أن قدم استقالته، وقال: "الرزق على الله، ولن أركع أو أخضع يوما لكم".
تعرض عام 1984 لأول عملية اعتقال على يد المخابرات الإسرائيلية لمدة عامين بتهمة الانضمام لحركة "الإخوان المسلمين"، وما كاد يخرج من المعتقل حتى أعيد إليه عام 1989 بتهمة قيادة العمل العسكري، ولكن لم تستطع كل أساليب التعذيب أن تحصل على اعتراف واحد من القائد صلاح.
استمر التحقيق معه لمدة عام متواصل دون أن تظفر المخابرات منه بأدنى اعتراف؛ لذلك حُكم عليه بالاعتقال لمدة عشرة أعوام وغرامة مالية رفض القائد دفعها ليقضي حكما بالسجن الإداري عقب الغرامة ستة أشهر ليصل إجمالي ما قضاه في السجن عشرين شهرا وعشر سنوات. وأقسم شحادة فور خروجه أن يواصل العمل العسكري، وفي الاعتقال الأول استطاع أن يحمل كبسولة العمل (قصاصة ورق مكتوب عليها رسائل القادة في السجن) إلى قيادة الحركة في الخارج، وكذلك في معتقله الأخير.
يوم في المعتقل يمر كساعة واحدة
مكث خلف قضبان الاحتلال 14 عاما، عرف خلالها أنه كان يخطط ليومه ليستفيد من كل دقيقة به، وعلى عكس الجميع كان يقول: "يوم في الزنازين كساعة خارجه".. فبعد صلاة الفجر يراجع ما حفظ من القرآن والأذكار، ثم يرتدي ملابس الرياضة، ويحث إخوانه على مشاركته في ألعاب الرياضة التي تستمر لمدة ساعة تقريبا؛ باعتباره المسؤول عن طابور الصباح، ويشترك معه العديد من الشبان المعتقلين من كافة التنظيمات، ويتذكر د. عبد العزيز الرنتيسي: "قضيت مع شحادة أحلى سنوات عمري داخل السجن عام 1988، ثم التقيت به ثانية في عام 1995، وكان شحادة الخطيب في المعتقل والمسؤول عن تدريب الشبان في طابور الصباح.. كان يمارس معهم رياضة قاسية حتى إن إدارة السجن شكته عدة مرات، وادعت أنه يدربهم تدريبات عسكرية".
وبعد الفورة (الاستراحة) يبدأ شحادة بتغذية المعتقلين ثقافيا في درس الصباح الذي يحضره جميع المعتقلين، بينما كان يؤثر مجموعة من إخوانه الذين قرأ في شخصياتهم الجرأة والقيادة في دروس خاصة عن موضوع "الصحة النفسية".
وإن لكم في "مشاهدة الأفلام البوليسية" لأجرا
أما باقي النهار فكان شحادة يقضيه في مطالعة الكتب الغنية بها مكتبته داخل المعتقل، التي تشمل كافة التخصصات من طب واجتماع وعلم نفس، بالإضافة إلى الكتب الإسلامية، وفي ساعات المساء يستمع إلى نشرة الأخبار، ثم يعقد جلسة ثقافية أخرى لمناقشة المعتقلين حول آخر تطورات الساحة السياسية، ثم يعود لمشاهدة البرامج السياسية أو الأفلام البوليسية والأمنية، وخاصة البريطانية منها، ويدون ملاحظاته عليها، وكان يجمع إخوانه، ويدربهم على تدوين ملاحظاتهم حتى ينمي حدسهم، ويزيد قدرتهم على تحليل الأحداث.
والدة سعدون تبكي.. لا يهم فأمهاتنا بكين كثيرا
"أعدتها إلى منزلها تبكي" بهذه الجملة كان يلخص شحادة قصته مع والدة الجندي الصهيوني "أيلون سعدون" التي كانت تتردد كثيرًا على صلاح ليخبرها عن مكان جثة ولدها، ويؤكد صديقه "محمد" كان يرد عليها بلطف وأدب شديد "دعي مخابراتكم التي تدعي أنها لا تقهر لتخبرك عن مكانه".
ويُشار إلى أن الجندي سعدون قُتل في عام 1989؛ حيث استطاعت الخلية العسكرية التي يرأسها شحادة خطف جنديين وقتلهما وإخفاء جثة أحدهما، وكان قد أدار عملية الخطف من داخل المعتقل، ويحكي شحادة أنه "في هذه المرة أشرف على تعذيبي إسحاق مردخاي، وأخذ يقول لي: "أنت رجل عسكري مثلي مر جنودك أن يسلموا جثة سعدون"، فسألته: هل سلم المجاهدون سلاحه؟ وعندما رد علي بالإيجاب قلت له: من الخطأ أن يفعلوا؛ فطلقة رصاص واحدة أفضل عندنا من جندي منكم؛ لأننا بالطلقة سنقتل جنديا آخر".
شهادة من القائد والأب أحمد ياسين
"نعم القائد والجندي".. بهذه الجملة وصف الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس القائد شحادة، ويضيف: "منذ أن بايع شحادة حركة الإخوان المسلمين في عام 1982 أصبح مسئولا عن شمال قطاع غزة؛ لما تميز به من حب للعمل، واستعداد للتضحية من أجله، بالإضافة إلى شخصيته القيادية والاجتماعية والإدارية".
وأكد ياسين أن شحادة تولى مسئولية الجناح العسكري لحماس عام 1988. ويضيف
ياسين: "نجح شحادة خلال عامين في بناء الجهاز العسكري لكتائب القسام، ونجح من خلال عمله المؤسساتي أن يجد له تلاميذ في الميدان يتولون القيام بمهمته فور غيابه".
أما الرنتيسي فيشهد: "لقد استطاع شحادة أن يحقق من الإنجازات ما عجز الكثير عن فعله في سنوات عديدة؛ نجح في تطوير الجهاز العسكري لحركة حماس كمًّا وكيفًا، مدّ الجهاز بأعداد كبيرة من الشبان، وقام بتدربهم وتجهيزهم، وتطوير الصناعة العسكرية المتواضعة خلال عامين.. بدءا بالهاون ثم الصواريخ مثل القاذفات ومضادات الدبابات، كما يعود لشحادة فضل الإبداع في التخطيط لاقتحام المستوطنات، والانطلاق بالجهاز العسكري من قيود السرية التي تكبل الحركة".
ويعتقد الرنتيسي أن استشهاد القائد شحادة ترك فراغًا كبيرًا في الحركة، لكنه كان مميزا بإعطائه الشباب فرصة الإبداع وخوض التجربة؛ وهذا ما سيجعل الجهاز يتقدم في الأيام القادمة.
للعمل الخيري نصيب في حياته
لم ينسَ القائد شحادة قضية الأسرى، ولم يغفل عنها يوما.. فبعد خروجه من السجن سعى إلى بثّ الحياة من جديد في جمعية النور، وتقديم الخدمات لأهالي الأسرى، والإشراف على شئون الأسرى داخل المعتقلات.
يُذكر أن جمعية النور أُسست في عام 1996، وسعى القائد شحادة إلى وضع برنامج يتناسب مع احتياجات ذوي الأَسرى، وتعيين باحثات اجتماعيات لمتابعة شئون الأطفال وزوجات الأسرى وتوعيتهم بأمور دينهم، وتنظيم أنشطة ثقافية وترفيهية لهم عبر المخيمات والرحلات والحفلات، بالإضافة إلى متابعة شئون أهالي الشهداء، وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم.
صحابي هذا الزمان
"عشت شهرين في عصر الصحابة".. هكذا وصفت "ماجدة قنيطة" زوج شحادة الثانية حياتها الزوجية معه (تفاصيل أكثر)، مشيرة إلى أنه كان دائما يضع مخافة الله أمام عينيه، وكأنه يمشي على الصراط، وكأن الجنة والنار ماثلتان أمامه، يفتش على نيته قبل أن يخطو خطوة، لا تغفو عينه إلا بعد الساعة السابعة صباحا، ينام ساعتين أو ثلاثا تقريبا، ثم يجلس في مكتبه يستقبل المكالمات، ويرد على الرسائل التي كانت تأتي إليه بكثرة من الشبان عاشقي الشهادة، أو رسائل إدارية تخص الجهاز، وإذا شعر بالتعب أخذ يسلي زوجه، ويجاذبها أطراف الحديث عن ماضيه.
أما أهم صفة تعلمتها منه فقالت ماجدة: تعلمت منه التواضع، وامتلاك الأعصاب الهادئة، والتصرف في الأمور بحكمة، وكان يقول لي: القائد يجب أن يكون هادئ الأعصاب لا ينفعل؛ ففي السجن "كان الوقت يمر ببطء، كنت في زنزانة عتمة، طولها أقصر مني، وعرضها لا يكفي لأنام، وظلامها لا أرى منه يدي، ورائحتها كريهة.. في الشتاء أبرد من الثلج، وفي الصيف رطوبة قاسية لا أعرف فيها الليل من النهار، ومع ذلك عشت لم أشعر فيها بأي ألم، وأقلمت معها حياتي، ومكثت فيها أشهرًا عدة".
وأضافت: "كان حقا صحابيا في القرن الحادي والعشرين، لقد كان أمة تفيض بالحب والتسامح.. فقد كان يقول: "يجب أن نربي الأجيال القادمة على الحب والتواضع"، كان شعاره "أحب أن ألقى ربي وليس في كتابي مظلمة لأحد.. أريد أن أفوز بالجنان ورضى الرحمن"، كما كان يمتلك سحرا عجيبا في أَسْر القلوب بنظرة واحدة منه، وفرض احترامه على العدو قبل الصديق.
عيون لم تألف النوم.. جسد لم ينعم بالراحة.. قلب لم يذُق طعم الخوف.. ثغر باسم عن رضا.. عقل هائج لا يتوقف عن الفكر.. وقبضة من حديد.. هذه بعض جوانب شخصية الشهيد "صلاح شحادة"، ولا يمكننا رصد جميع هذه الجوانب؛ إذ الرجل لا يزال يكتشف بعد سياج رهيب من السرية نسجه حول نفسه بعناية.